.السلطان اورخان بن عثمان
726-761هـ/1327-1360م
بعد وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان، وسار على نفس سياسة والده في الحكم والفتوحات، وفي عام 727هـ الموافق 1327هـ سقطت في يده نيقوميديا، وتقع في شمال غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية، فأنشأ بها أول جامعة عثمانية، وعهد بإدارتها إلى داود القيصري، أحد العلماء العثمانيين الذين درسوا في مصر( ) واهتم ببناء الجيش على أسس عصرية وجعله جيشاً نظامياً( ).
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول الله في فتح القسطنطينية ووضع خطة استراتيجية تستهدف إلى محاصرت العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آن واحد، ولتحقيق ذلك أرسل ابنه وولي عهده "سليمان " لعبور مضيق " الدردنيل " والاستيلاء على بعض المواقع في الناحية الغربية.
وفي عام ( 758هـ ) اجتاز سليمان مضيق " الدردنيل " ليلاً مع أربعين رجلاً من فرسان الإسلام ولمّا أدركوا الضفة الغربية، استولوا على الزوارق الرومية الراسية هناك، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية، إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حينذاك حيث لاتزال دولتهم في بداية تأسيسها، وفي الضفة الشرقية أمر " سليمان " جنوده، أن يركبوا في الزوارق حيث تنقلهم إلى الشاطئ الأوربي حيث فتحوا ميناء قلعة " ترنب "، " وغاليبولي " التي فيها قلعة " جنا قلعة " و "أبسالا " " ورودستو " وكلها تقع على مضيق " الدردنيل " من الجنوب إلى الشمال، وبهذا خطا هذا السلطان خطوة كبيرة استفاد بها من جاء بعده في فتح " القسطنطينية "( ).
أولاً : تأسيس الجيش الجديد ديني تتارى :
إن من أهم الأعمال التي ترتبط بحياة السلطان أورخان، تأسيسه للجيش الإسلامي وحرص على إدخال نظاماً خاصاً للجيش، فقسمه إلى وحدات تتكون كل وحدة من عشرة أشخاص، أو مائة شخص، أو ألف شخص، وخصص خمس الغنائم للانفاق منها على الجيش، وجعله جيشاً دائماً بعد أن كان لايجتمع إلا وقت الحرب، وأنشأ له مراكز خاصة يتم تدريبه فيها( ).
كما أنه أضاف جيشاً آخر عرف بالانكشارية( )، شكله من المسلمين الجدد الذين ازداد عددهم بعد اتساع رقعة الدولة وانتصاراتها الكبيرة في حروبها مع أعدائها من غير المسلمين، ودخول أعداد كبيرة من أبناء تلك البلاد المفتوحة في الإسلام، ثم انضمامهم إلى صفوف المجاهدين في سبيل نشر الإسلام، فبعد أن يعتنقوا الإسلام ويتم تربيتهم تربية إسلامية فكرياً وحربياً يعينون في مراكز الجيش المختلفة، وقد قام العلماء والفقهاء مع سلطانهم أورخان بغرس حب الجهاد والذود عن الدين والشوق إلى نصرته أو الشهادة في سبيله وأصبح شعارهم ( غازياً أو شهيداً ) عندما يذهبون إلى ساحة الوغى( ).
ولقد زعم معظم المؤرخين الأجانب أن جيش الانكشارية تكون من انتزاع أطفال النصارى من بين أهاليهم ويجبرونهم على اعتناق الإسلام، بموجب نظام أو قانون زعموا أنه كان يدعى بنظام ( الدفشرية )، وزعموا أن هذا النظام كان يستند إلى ضريبة إسلامية شرعية أطلقوا عليها اسم " ضريبة الغلمان " وأسموها أحياناً " ضريبة الأبناء " ، وهي ضريبة زعموا أنها تبيح للمسلمين العثمانيين أن ينتزعوا خمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانية ، باعتبارهم خمس الغنائم التي هي حصة بيت مال المسلمين ومن هؤلاء المؤرخين الأجانب الذين افتروا على الحقيقة، كارل بروكلمان، وجيبونز، وجب( ) ، إن الحقيقة تقول أن نظام الدثرمة المزعوم ليس سوى كذبة دُسَّت على تاريخ أورخان بن عثمان ومراد بن أورخان وانسحبت من بعده على العثمانيين قاطبة، فلم يكن نظام الدثرمة هذا إلا اهتماماً من الدولة العثمانية بالمشردين من الأطفال النصارى الذين تركتهم الحروب المستمرة أيتاماً أو مشردين، فالإسلام الذي تدين الدولة العثمانية به يرفض رفضاً قاطعاً ما يسمى بضريبة الغلمان التي نسبها المغرضون من المؤرخين الأجانب إليها.
لقد كانت أعداد هائلة من الأطفال فقدوا آبائهم وأمهاتهم بسبب الحروب والمعارك، فاندفع المسلمون العثمانيون إلى احتضان أولئك الأطفال الذين هاموا في طرقات المدن المفتوحة بعد فقدانهم لآبائهم وأمهاتهم وحرصوا على تأمين مستقبل كريم لهم وهل من مستقبل كريم وأمين إلا في الإسلام، أفاءن يحرص المسلمون على أن يعتنق الأطفال المشردون التائهون الإسلام، انبرى المفترون يزعمون أن المسلمين كانوا ينتزعونهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم ؟؟ ويكرهونهم على الإسلام.
ومن المؤسف أن هذه الفرية الحاقدة، وهذا الإفك المبين، وهذا البهتان العظيم التقفه بعض المؤرخين المسلمين يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم وكأنه أمر مسلم به ويطرح على الطلاب كأنه حقيقة من الحقائق ولقد تأثر بكتب المؤرخين الأجانب مجموعة من المؤرخين المسلمين ومن هؤلاء من يشهد له بالغيرة على الإسلام، فأصبحوا يرددون هذا البهتان في كتبهم من أمثال، المؤرخ محمد فريد بك المحامي في كتابه الدولة العلية العثمانية، والدكتور علي حسون في كتابه، تاريخ الدولة العثمانية، والمؤرخ محمد كرد في كتابه خطط الشام، والدكتور عمر عبدالعزيز في كتابه " محاضرات في تاريخ الشعوب الإسلامية " والدكتور عبدالكريم غرايبه في كتاب العرب والأتراك.
الحقيقة تقول كل من ذكر ضريبة الغلمان أو أخذهم بالقوة من ذويهم تحت قانون أخذ خمس أطفال المدن والقرى ليس له دليل إلا كتب المستشرقين، كجب، المؤرخ النصراني سوموفيل، أو بركلمان وهؤلاء لايطمئن إليهم في كتابة التاريخ الإسلامي ولا إلى نواياهم تجاه الإسلام وتاريخ الإسلام.
إن الذين يربون تربية خاصة على الجهاد لم يكونوا نصارى وإنما كانوا أبناء آباء مسلمين انخلعوا عن النصرانية، واهتدوا إلى الإسلام، وشرعوا من أنفسهم وعن طواعية لا عن إكراه، يقدمون أبناءهم للسلطان ليستكمل تربيتهم تربية إسلامية، أما باقي الأطفال فقد كانوا من الأيتام والمشردين الذين أفرزتهم الحروب فاحتضنتهم الدولة العثمانية.
إن حقيقة الجيش الجديد الذي أنشأه أورخان بن عثمان هي تشكيل جيش نظامي يكون دائم الاستعداد والتواجد قريباً منه في حالة الحرب أو السلم على حد سواء، فشكل من فرسان عشيرته ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يسارعون لاجابة داعي الجهاد ومن أمراء الروم وعساكرهم الذين دخل الإسلام في قلوبهم، وحسن إسلامهم وما كاد أورخان ينتهي من تنظيم هذا الجيش حتى سارع إلى حيث يقيم العالم المؤمن التقي الحاج بكتاش وطلب منه أن يدعو لهم خيراً، فتلقاهم العالم المؤمن خير لقاء ووضع يده على رأس أحد الجنود، ودعا لهم الله أن يبيض وجوههم، ويجعل سُيوفهم حادة قاطعة، وأن ينصرهم في كل معركة يخوضونها في سبيل الله ثم مال تجاه أورخان فسأله، هل اتخذت لهذا الجيش اسماً.. ؟ قال: لا، قال: فليكن اسمه " يني جري " وتلفظ " يني تشري " أي الجيش الجديد.
وكانت راية الجيش الجديد من قماش أحمر وسطها هلال، وتحت الهلال صورة لسيف أطلقوا عليه اسم " ذي الفقار " تيمناً بسيف الإمام علي رضي الله عنه( ).
لقد كان علاء الدين بن عثمان أخو أورخان صاحب الفكرة وكان عالماً في الشريعة ومشهور بالزهد والتصوف الصحيح( ).
وعمل أورخان على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومناجزة البيزنطيين، فاختار عدداً من شباب الأتراك، وعدداً من شباب البيزنطيين الذين أسلموا وحسن إسلامهم، فضمهم إلى الجيش واهتم اهتماماً كبيراً بتربيتهم تربية إسلامية جهادية.
ولم يلبث الجيش الجديد حتى تزايد عدده، وأصبح يضم آلافاً من المجاهدين في سبيل الله.
لقد كان أورخان وعلاء الدين متفقين على أن الهدف الرئيسي لتشكيل الجيش الجديد، هو مواصلة الجهاد ضد البيزنطيين وفتح المزيد من أراضيهم بهدف نشر الإسلام فيها، والاستفادة من البيزنطيين الذين أسلموا في نشر الإسلام بعد أن يكونوا تلقوا تربية إسلامية جهادية وترسخت في قلوبهم مبادئ الإسلام سلوكاً وجهاداً.
وخلاصة القول، أن السلطان أورخان، لم ينتزع غلاماً نصرانياً واحداً من بيت أبيه، ولم يكره غلاماً نصرانياً واحداً على اعتناق الإسلام، وأن كل ما زعمه بروكلمان وجيب وجببونز، كذب واختلاق، ينبغي أن تزال آثاره من كتب تاريخنا الإسلامي( ) إن من مقتضيات الأمانة العلمية، والأخوة الإسلامية، تضع في عنق كل مسلم غيور، وخاصة العلماء والمثقفين والمفكرين، والمؤرخين والمدرسين، والباحثين، والإعلاميين، أمانة نسف هذه الفرية ودحض هذه الشبهة التي ألصقت بالعثمانيين وأصبحت كأنها حقيقة لاتقبل النقاش والمراجعة والحوار.
ثانياً: سياسة أورخان الداخلية والخارجية:
كانت غزوات أورخان منصبة على الروم ولكن حدث في سنة
(736هـ-1336م) أن توفي أمير قره سي - وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة . واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالإستيلاء على الإمارة وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ماكانت تملكه واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
واهتم أورخان بتوطيد أركان دولته وإلى الأعمال الإصلاحية والعمرانية ونظم شؤون الإدارة وقوى الجيش وبنى المساجد وانشأ المعاهد العلمية( ) وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمون وكانوا يحظون بقدر كبير من الاحترام في الدولة، وكانت كل قرية بها مدارسها وكل مدينة بها كليتها التي تعلم النحو والتراكيب اللغوية والمنطق والميتافزيقا وفقه اللغة وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة والهندسة والفلك( ) وبالطبع تحفيظ القرآن وتدريس علومه والسنة والفقه والعقائد.
وهكذا أمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة قره سي عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة، مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره، فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها. وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي وبذلك تصبح جزءاً لايتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة، وإحياء الشعوب.
وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتىحدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب الأمبراطور ( كونتاكوزينوس ) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه، فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوربا. وفي عام 1358 أصاب زلزال مدن تراقيا فانهارت أسوار غاليبولي وهجرها أهلها مما سهل على العثمانيين دخولها. وقد احتج الإمبراطور البيزنطي على ذلك دون جدوى - وكان رد أورخان أن العناية الإلهية قد فتحت أبواب المدينة أمام قواته. ومالبثت غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوربا، ومنها انطلقت الحملات الأولى التي توجت في النهاية بالإستيلاء على كل شبه جزيرة البلقان.. وحين انفرد حنا الخامس باليولوجس بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا في مقابل تعهد السلطان بتسيهل وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية. وأرسل أورخان أعداداً كبيرة من القبائل المسلمة بغية الدعوة إلى الإسلام ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوربا( ).
ثالثاً: العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه :
1- المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان ووجود الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في الأناضول وتدعيم سلطتهم فيها ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي( ).
2- كان العثمانيون - يتميزون - في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب البلقانية - بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني.
3- وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي، فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة.
4- ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر، ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسية والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين( ).
5- الخلاف الديني بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليك والأرثوذكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة الجذور في نفوس الفريقين.
6- ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية، ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.