المُجتمع والثقافة
الحياة الفكريَّة والعلميَّة
رسمٌ لأبي زيد الهلالي، أحد القادة العسكريين الفاطميين، والذي أوحت سيرته بكتابة ملحمة تغريبة بني هلال التي ذُكر فيها أنَّ أبا زيد قُتل على يد غريمه ذيب بن غانم.
شهدت الحياة الفكرية في العصر الفاطمي تنوعًا في الإسهامات، فشملت عددًا من الرسائل الأدبية النثرية كرسالة الغفران التي كتبها أبو العلاء المعري في إطار خيالي خصب ردًا على رسالةٍ لابن القارح تخيّل فيها المعري رحلة للرجلين في الجنة والجحيم، إضافة إلى الرسالة المصرية لأمية بن أبي الصلت الداني الذي تناولت مصر والمصريين، ذكر فيها محنته في سجن الأفضل شاهنشاه.
[204] واهتموا بلون آخر من الكتابة، وهو كتابة السير الذاتية. من أمثلة هذه السير، سير كافور الإخشيدي والعزيز بالله الفاطمي لأحمد بن عبد الله الفرغاني، وسير أحمد بن طولون وابنه خمارويه ومحمد بن طغج الإخشيدي وسيبويه وكافور الإخشيدي وجوهر الصقلي والمعز لدين الله الفاطمي والعزيز بالله لابن زولاق وسيرة المعز لدين الله للقاضي النعمان
[205] والاعتبار لأسامة بن منقذ وهو سيرة ذاتية لكاتبه.
[206] وقد برز من أدباء وكُتّاب ذاك العصر الوزير المغربي أبو القاسم الحسين بن علي الذي اختصر كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت وأسماه «المنخّل»، وكتاب «أدب الخواص» الذي احتوى على قديم الشعر وأخبار القدماء وأنسابهم وبعض المواضيع في علوم اللغة،
[207] وأبي سعد محمد بن أحمد العميدي الذي ألّف عدد من الكتب في البلاغة والعروض والقوافي
[208] وابن الصيرفي الذي صنّف بعض الكتب مثل «منائح القرائح» الذي كتبه مدحًا في الخلفاء الفاطميين و«الإشارة إلى من نال الوزارة» الذي ذكر فيه من تولى الوزارة في مصر إلى عصره
[209] والرُقيّق القيرواني الذي صنّف كتابًا في تاريخ إفريقية والمغرب منذ الفتح الإسلامي وحتى القرن الخامس الهجري.
[210] وقد أرخ للدولة الفاطمية الكثيرون كالمسبحي الذي كان له تاريخ يدون به الأحداث والمشاهدات اليومية، إضافة إلى وصف لمصر وأبنيتها وعجائبها وأطعمتها ونيلها وأشعار الشعراء وأخبار المغنين ومجالس القضاة والحكام والأدباء. إضافة إلى غيره من المؤرخين كابن زولاق وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي.
[211] أما اللغويين، فبرز منهم علي بن أحمد المهلبي و ابن بابشاذ وأبو عبد الله محمد بن جعفر القيرواني وابن القطاع الصقلي وأبي بكر الإدفوي.
[212] العلَّامة أبو عليّ الحسن بن الحسن بن الهيثم البصريّ، أبرز عُلماء العصر الفاطميّ ومُبتكر علم المناظر.
لعب الشعر أيضًا دورًا هامًا في الحياة الفكرية عند الفاطميين، حيث كان الشعر أحد أدوات دعوتهم السياسية، فخصصوا لهم ديوانًا يتولى أمورهم،
[213] واستخدموهم في مدح مذهبهم الديني وعقائدهم وأصولهم وحقهم السياسي في الخلافة، كما اتخذهم الخلفاء والوزراء أداه للمباهاة بالسلطان. وقد تنوعت موضوعات الشعر عند الفاطميين بين مديح للخلفاء والقادة، والتركيز على الأمور السياسية كإبراز أفضلية الفاطميين على العباسيين وأحقيتهم بالخلافة، والدينية كالحديث عن وصاية علي وفضل يوم الغدير.
[214] ومن أشهر شعرائهم الرسّيون وهم من الأشراف العلويين وينتسبون إلى الشريف الرسيّ الذي دخل مصر في عهد كافور الإخشيدي،
[215] وابن وكيع التنيسي والشريف العقيلي وابن أبي الجوع
[216] وابن مكنسة.
[217] وقد شجعت عطايا الفاطميين للشعراء الكثيرين على الوفود على بلاطهم طمعًا في عطاياهم كابن هانيء الأندلسي وابن الرقعمق الأنطاكي والرقيق القيرواني وعبد المحسن الصوري وصريع الدلاء البغدادي
[218] وأبي الفتيان بن حيوس
[219] وأمية بن أبي الصلت وابن القطاع الصقلي
[220] وعمارة اليمني.
[221] ولم يقتصر قرض الشعر على الطامعين في الهبات، بل برز من الفاطميين ووزرائهم من يحسن قرض الشعر كتميم بن المعز
[222] والوزير طلائع بن رزيك.
[223] الجامع الأزهر، أبرز مراكز نشر الدعوة الدينيَّة والعلوم المُختلفة خلال العصر الفاطميّ.
وفي إطار سعي الفاطميين لنشر المذهب الإسماعيلي، أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة في 10 جمادى الآخرة 395 هـ، وأجلس فيه الفقهاء والقرّاء والمنجمين وعلماء اللغة والنحو والأطباء، وخصص للدار قائمين عليها وخدم وفرّاشين، كما نُقلت لها الكتب من خزائن القصور. ظلت الدار مفتوحة للعوام حتى أغلقها الأفضل شاهنشاه في ذي الحجة 516 هـ، خوفًا من فتنة دينية، إلى أن أمر الخليفة الآمر بأحكام الله وزيره المأمون البطائحي بإعادة فتحها بعد وفاة الأفضل.
[224] لم يكن ذلك هو الاهتمام الفكري الوحيد من جانب الحكام الفاطميين، فقد استهواهم جمع الكتب، فكانت لهم خزانة كتب في القصر الشرقي الكبير احتلت أربعين غرفة منه،
[225] واحتوت على مليون وستمائة ألف مجلد منها 2,400 نسخة مزخرفة وملونة من القرآن ومنها بضع وثلاثين نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد منها نسخة بخط الفراهيدي، وعشرين نسخة من تاريخ الطبري منها نسخة بخطه، ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد. وقد احتوت المكتبة على الآف الكتب في الفقه على سائر المذاهب والنحو واللغة والحديث والتواريخ وسير الملوك والتنجيم والروحانيات والكيمياء.
[226] رغم ذلك، لم تسلم محتويات المكتبة من السلب والنهب، فتعرضت لنهب جنود الدولة نفسها في فترات الفوضى وضعف هيبة الخلفاء، فيحملون منها ما أمكنهم ويبيعونه في السوق، بل واستخدموا جلودها أحيانًا لصنع خفافًا لأحذيتهم.
[227]لعب الأزهر والمساجد في العصر الفاطمي دورًا هامًا في الحركة العلمية الدينية، حيث اتخذها الفاطميون قواعد لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، فأجلسوا فيه دعاة مذهبهم لشرح قواعد الفقه الإسماعيلي للحاضرين. لم يقتصر دور الأزهر الفاطمي على نشر المذهب الإسماعيلي، بل ضم حلقات علمية للمذاهب الأخرى، فكانت به خمس عشرة حلقة للمالكية ومثلها للشافعية وثلاث حلقات لأصحاب أبي حنيفة.
[228] لم يقتصر نشر العلوم على المساجد فقط، بل وكانت قصور بعض الوزراء كيعقوب بن كلس الذي كان محبًا للعلم، فكان يجمع العلماء يكتبون القرآن والحديث والأدب والطب، ويُشكّلون المصاحف ويُنقّطونها. بل وألّف ابن كلس بنفسه كتبًا في القراءات والأديان وآداب الرسول والطب.
[229]وفي مجال العلوم، فبرز عددًا من الأسماء كابن رضوان الذي برز اسمه في الطب والفلك، وابن يونس الذي برع في الرياضيات والفلك ، ووضع زيجًا فلكيًا أسماه الزيج الحاكمي وابن الهيثم رائد علم البصريات وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وعلي بن عيسى الكحال صاحب كتاب تذكرة الكحالين وابن المقشر وماسويه المارديني وابن بطلان
[230] وهم من الأطباء البارزين