العصر الذهبي للدولة
بلغت الدولة الفاطميَّة ذُروة عزِّها وكمالها في عهد الخليفة الخامس، أبو منصور نزار العزيز بالله، وإليه يُعزى تمكين السيطرة الفاطميَّة على مصر والشَّام، ونشر السلام والرَّخاء في مُختلف أرجاء الدولة، التي بلغت في عهده أقصى اتساعها.
[79] كان العزيز مسؤولًا عن إرساء الدولة الفاطميَّة وتشكيل هويَّتها، إذ يمكن تشبيه دوره بدور أبي جعفر المنصور في الدولة العبَّاسيَّة،
[80] وقد بدأ عهده في سنة 365 هـ الموافقة لِسنة 975م.
[81] من بين 270 سنة تقريبًا عاشتها الدولة الفاطميَّة من صعودها إلى سقوطها، يُعتبر أنَّ عصر قوتها الحقيقيَّة استمرَّ لنحو 115 سنةً منها، بعدها قرابة 70 سنةً عاشتها في ازدهارٍ حضاري لكن بضعفٍ سياسي، قبل أن تبدأ بالانحطاط والسُّقوط.
[78] أبو عليّ المنصور الحاكم بأمر الله، أحد أبرز الخُلفاء الفاطميين، ومن أبرز أعلام الإسماعيليَّة عبر التاريخ. حكم خلال العصر الذهبي للدولة الفاطميَّة.
شهد عهد العزيز إنجازاتٍ إدارية وتنظيميَّة متنوعة. فقد رُتِّبت الدواوين بدقَّة لتسهيل الإجراءات الإدارية. وأحاط العزيز نفسه بمظاهر الترف وأغدق الأموال على قصوره وممتلكاته. واستحدث منصب الوزراء، فعمل على اختيار رجالٍ كفؤين لشغل هذا المنصب، إلا أنَّه اختارهم من الطائفتين اليهوديَّة والنصرانيَّة، لكي لا يكون لهم نفوذٌ كبير يسمح لهم بالانقلاب عليه (وقد كان أوَّلهم وأحد أشهرهم يعقوب بن كلس). وكذلك عدَّل تركيبة الجيش العرقية، فقد كان الجيش الفاطمي بأكمله تقريباً مؤلَّفا من الأمازيغ، فخشي أن يتكاتفوا معًا عليه إذا ما اضطَّربت الأمور، لذا شكَّل جيشًا جديدًا خاصًا به من الجنود التُرك والأكراد والسُّودان، وكلَّف هذا الجيش بإدارة معظم ولايات دولته عوضًا عن الجيش الأمازيغي. وقد وقعت نتيجةً لذلك فتنةٌ في الجيش بين المغاربة والأعراق الأخرى.
[80] وقد أراد العزيز أن يكون مذهب الدولة الرسميُّ هو المذهب الإسماعيليّ، فعمل على نشره في دولته بكلُّ ما استطاع، وسمح بسبِّ صحابة محمَّد.
[82] شهد عصره بعض الإنجازات العسكريَّة أيضًا، فقد قاد جوهر الصقلي عدَّة حملاتٍ على الشام والعراق، تمكَّن خلالها من ضمّ مدن شيزر وحمص وحماة، بل وقد نجح ببلوغ الموصل وإجبار جوامعها على الدعاء للخليفة الفاطمي لفترةٍ قصيرة. توفّي العزيز نتيجة مرض في القولون سنة 386هـ الموافقة لسنة 996م.
[81]خلف العزيز ابنه الحاكم بأمر الله، فاتَّبع أباه في بداية عهده، ونجح بتثبيت أركان الدولة وتهيئة أمورها،
[82] وحسَّن علاقته مع أهل السُنَّة، فجالس علماءهم وبنا لهم دور علم. وقد كان متديِّنًا كثيرًا لحدّ المُغالاة، حتى أنه حظر زراعة العنب خشية استعماله بصناعة الخمر، ومنع النسوة من المشي في الشوارع، واضطَّهد المسيحيّين واليهود. إلا أنَّ شخصيته تقلَّبت فيما بعد، فغيَّر منهجه مع أهل السُنَّة، ولم يعد شديد التديُّن، بل إنَّه أصيب بالغرور حتى شبَّه نفسه بالإله وسمح لأتباعه بوصفه بأوصافٍ إلهية، ممَّا أساء لسمعته وسمعة الإسماعيليَّة في مصر والعالم الإسلامي، وأثار سخط النَّاس عليه،
[83] فثاروا عليه وكرهوه، وانتشرت الفوضى بمصر، فوقعت اشتباكاتٌ بين السكان وجيش الحاكم بأمر الله، ودبَّت الفوضى.
[84] وأخيراً قرَّر الحاكم الخروج من القاهرة، وكان ذلك في شوَّال سنة 411هـ الموافقة لِسنة 1021م، واختفى اختفاءً غير مفسَّرٍ بعد خروجه منها بفترةٍ قصيرة. وهناك العديد من الروايات والنظريات حول سبب اختفائه، لكن الأرجح أنَّه اغتيل. منذ نهاية عهد الحاكم، أخذت قوَّة الفاطميين السياسيَّة بالانحدار شيئا فشيئًا، وكان معظم الحكام الذين تبعوه صغارًا لم يبلغوا سنَّ الرُّشد بعد، لذا فقد افتقروا إلى السُّلطة، وأصبحت الدولة فعليًّا في أيدي الوزراء الفاطميّين أو أقارب حكامها صغار السِّن.
[85]خلف الحاكم بقيادة الدولة الفاطميَّة ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، إلا أنَّه كان حدثًا لم يبلغ سنَّ الرشد، فأصبحت عمَّة له تُدعَى «ست الملك» الحاكمة الفعليَّة للدولة، وتمكَّنت من إدارة شؤون الدولة بصورةٍ جيِّدة، إلا أنَّها توفّيت في منتصف عصره
[85] سنة 415هـ. وقد سار عهده بهدوءٍ في البداية، إلى أن بدأت الثورات ضدَّه، فخرج صالح بن مرداس في الشام وانتزع منه حلب، ثمَّ جاء حاكم الرملة «حسان بن المفرج البدوي» فانتزع معظم أنحاء الشام.
[86] وقد دام حكم الظاهر لخمسة عشرة سنة، ثم توفِّي صغيرًا.
مسجد الحاكم بأمر الله، أحد معالم العصر الذهبي للدولة الفاطميَّة بالقاهرة.
تولَّى ابنه معد المستنصر بالله الخلافة وهو لا يزال في السَّابعة من العمر، وقد دام حكمه نحو 60 سنة، ليكون أطول الخلفاء الفاطميِّين عهداً على الإطلاق.
[87] في بداية عهده، كانت أمُّه وبعض وزرائه هم الحكام الفعليِّين للدولة.
[85] كان النصف الأول من خلافة المستنصر مزدهرًا ازدهارًا عظيمًا، فوصلت فيه الدولة الفاطميَّة أوج قوَّتها واتّساعها، وامتدَّت حدودها من المغرب إلى العراق، بل وقد تمكَّن سنة 450هـ الموافقة لسنة 1058م رجلٌ من حلفاء الفاطميّين يدعى «أبا الحارث البساسيري» من الاستيلاء على بغداد والقبض على الخليفة العباسي، فأقام الخطبة فيها للخليفة الفاطمي المستنصر، وكانت تلك أوَّل وآخر مرَّة في التاريخ تقام بها الخطبة ببغداد للفاطميين.
[88] إلا أنَّ الأمور بدأت بالاضطَّراب فيما بعد، فأصيبت مصر بمجاعةٍ هائلة استمرَّت سبع سنوات من سنة 457 إلى 464هـ (الموافقتين لسنتي 1065 إلى 1071م)، وهي تُعرَف باسم «الشدَّة العظمى» و«الشدَّة المستنصريَّة». وبدأت العديد من أقاليم الدولة بالتمرُّد على الفاطميّين، فانقطعت الخطبة عن المستنصر في مكة والمدينة سنة 462 هـ الموافقة لسنة 1070م ليُخطَب عوضاً عنه للخليفة العباسي مجدَّدًا، وكانت الحال نفسها في المغرب، فقطع أمير بني زيري المعز بن باديس علاقته بالفاطميِّين وحوَّل ولاءه إلى الخلافة العباسيَّة، أمَّا بغداد التي كانت قد انضمَّت للفاطميين حديثًا، فقد قتل حاكمها البساسيريُّ على يد سُلطان السلاجقة طغرل بك القادم من الشرق، لتنتهي سلطة الفاطميِّين عليها حتى نهايتهم. ولم يتوقَّف السلاجقة عند هذا الحدّ، بل تابعوا التقدُّم غربًا ليصطدموا بالدَّولة الفاطمية مرة أخرى في بلاد الشام، ونجح سلطانهم جلال الدولة ملك شاه بانتزاع معظم بلاد الشام من الفاطميين - بما فيها القدس وفلسطين - سنة 463 هـ (1070م). وتسبَّب عجز المستنصر عن السيطرة على هذه الأحداث بانهيار هيبته تمامًا في الدولة.
[88][89][90] وعلاوةً على هذه الخسارات الكبيرة، فقد وقعت الفتنة سنة 466 هـ بالجيش بين المغاربة أولاً، والتُرك ثانيًا، والسُّودان ثالثًا، ووقعت معاركة كبيرةٌ بينهم وكثر القتل.
[85][91]بدأت الدَّولة تخرج تمامًا عن السَّيطرة، وأخذ التُرك يصبحون الحكَّام الفعليِّين للدولة عوضًا عن الخليفة نفسه، فقرَّر المستنصر الاستعانة بحاكم عكا الأرمنيّ بدر الدين الجمالي،
[92] وهو أشبه بدكتاتورٍ يُعرَف بشدَّته وقدراته الإدارية والتنظيميَّة العالية. استدعى المستنصر بدر الجمالي ليتسلَّم منصب وزراة الدولة الفاطمية وقيادة جيشها، فوافق هذا الأخير، وجاء إلى مصر، وكان وزيرًا قويًّا ومهيبًا، فأعاد للدَّولة قوَّتها واستقرارها وثبَّت أركانها من جديد. ووصلت الدولة في عهده أوج قوَّتها وازدهارها، فشيِّدت القصور وازدهر العلم والحضارة
[89] وعادت الأموال الكثيرة إلى مصر، فارتفع الخراج من مليوني دينارٍ في سنوات المجاعة إلى أكثر من ثلاثة ملايين.
[93] من جهةٍ أخرى، فشل بدر الجمالي في بعض النواحي العسكريَّة، إذ لم يستطع حماية بلاد الشام من تقدُّم السلاجقة التُرك شرقًا والصليبيّين الأوروپيَّين شمالاً، فخسر الفاطميُّون كُل الشَّام ما عدا مدينة عسقلان.
[89] لم يكن مجيء بدر الجماليِّ جيِّدًا تمامًا للمستنصر، فقد بدأ ينازعه على السُّلطة، وتنامى نفوذه بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا، حتى أصبح أقرب إلى الحاكم الفعلي للدولة الفاطميَّة، واستمرَّت الحال هكذا حتى وفاة المستنصر سنة 487 هـ الموافقة لسنة 1094م، فبدأ بذلك «العصر الفاطمي الثاني»، الذي كان الوزراء فيه هم الحكَّام الفعليِّين للدولة