في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]
1. حق الله على العبد وحق العبد على الله
لله عليك حق ولك عليه حق فحق الله عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئا وحقك عليه ألا يعذبك إن أديت حقه عليك وهذا ما ثبت في حديث معاذ الذي في الصحيحين حيث قالكُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا.) وغاية حقك على أن يرضى عنك فيكافئك بجنته. وغاية حقه عليك أن ترضى عنه فلا تقدم في قلبه أحدا غيره وهذا الرضى هو ما يظهر في الجنة حينما(يقول الله لأهلها: يا أهل الجنة؟ فيقولون لبيك ربنا وسعديك! فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) [صحيح البخاري-من حديث أبي سعيد الخدري]
ومن هذه الحقوق التي لله على العبد هو الحج فـ{لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
وثمرة من أدى هذا الحق ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا:
(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.)
ولكن ليس كل الناس قادرين على الحج فمنهم الكبير الذي لا يثبت على راحلته ومنهم الفقير الذي لا يجد قوتا يوصله إلى مكة ومنهم…غير ذلك فالمسلمون أمام هذا الحق أحد رجلين:
رجل يستطيع ورجل لا يستطيع فما الحل إذا؟ هذا ما تعرفه في:
2. الله يتنازل عن حقه ليوفي بمصلحة عبده
قد غرس الله في قلوب المؤمنين الحنين إلى بيته والشوق إلى زيارته ففرض ذلك على المستطيع في العمر مرة فقال:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران:97]
وأما غير المستطيع فقد تنازل الله عن حقه هذا معه فكما يقول الأصوليون:”إذا تعارض حق الله مع مصلحة العبد تنازل الله عن حقه ليوفي بحقوق عبده كما في القصر في السفر والإفطار في رمضان للمريض وعدم حج البيت لغير المستطيع…وغيرها”
ولذلك قال سبحانه -بعد الأمر بهذا الحق-:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}،أي وأما غير المستطيع فليس مخاطبا بهذا الحق لأن هذا يتعارض مع مصلحته وهي الشفاء من المرض …وغيره
ولذلك قال سبحانه-فيمن حرم حق الجهاد في سبيله-:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة:91،92]
فيتجلى من هذا يسر الله على عبده وتخفيفه عنه ليس ذلك فحسب بل وعوض الله –سبحانه- غير المستطيع بعمل هو له أفضل عند الله مما حرم منه فتأمل:
3. تعويض الله لعبادة الضعفاء:
لما حرم الضعيف من الحج قدَرا عوضه الله شرعاً بأعمال يعملها هي عند الله أفضل له مما حرم منه من الحج إلى بيت الله فإن الله إذا حرم عبده قدرا من عبادة عوضه شرعا بعبادة يقدر عليها هذا العبد يأخذ بها ثواب هذه العبادة التي حرم منها بل وزيادة. ودلائل هذه القاعدة كثيرة في القرآن والسنة من أقربها ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما (رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ…فَقَالَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ)[صحيح البخاري]
ومنها ما عوض الله به هذا المحروم من الحج الذي لا يستطيعه من أعمال هي منه أحب إلى الله من الحج إلى بيته الكريم. ومن هذه الأعمال:
أ- العمل الصالح في عشر ذي الحجة. فقد قال ابن رجب:
“لما كان الله -سبحانه و تعالى- قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.”[لطائف المعارف]
وهذا بناء على ما قد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله قالمَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ.) ففضل النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل الصالح في أيام العشر على الجهاد الذي هو أفضل من الحج فعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَسُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِه.ِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.) فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل الصالح في أيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل من الجهاد كله إلا النوع المذكور فقط وجعل في الحديث الثاني الجهاد بأنواعه أفضل من الحج فدل على أن العمل الصالح في هذا العشر لمن لا يقدر على الحج أحب إلى الله وأفضل من الحج المبرور من المستطيع.
ب- ومن هذه الأعمال أيضا التي عوض بها الذي لا يستطيع الحج أن تقول بعد كل صلاة: سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَجَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.) 4. وأخيراً تأمل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]
ü فترى أن الله أوجب هذا الحق على العبد بلفظ الألوهية فقال:{ولله} ولم يقل وللرحمن أو للجبار فلم يخص هذا الحق بصفة من صفاته دون الأخرى بل أتى باسم الله الذي يشتمل على كل صفات الألوهية من رحمة وحنان وكرم أو من جبروت وعظمة وكبرياء .فقال: {ولله}حتى لا يتوهم أن هذا الحق يختص بصفة من صفات الله دون أخرى بل لأنه الله المتصف بكل هذه الصفات كان أهلا لهذا الحق.
فتستلمح في الحج ما يذكرك بصفات الرحمة والحنان وما يذكرك بصفات الجبروت والكبرياء وما يذكرك بصفات الجلال والجمال لأنه حق لله المتصف بكل هذه الصفات.
ü ثم قدم الله الجار والمجرور فقال:{ولله}؛ تنبيها على الإخلاص وإشارة إلى أن هذا الحق لا ينبغي أن يكون إلا لله -سبحانه- لما فيه من شعائر العبودية التي لا تكون إلا لله مثل تقبيل الجر الأسود والسعي والطواف والوقوف…
ü أظهر سبحانه في مقام الإضمار فقال:{حِجُّ الْبَيْتِ}.ولم يقل (حجه) على اعتبار أن البيت قد سبقت الإشارة إليه في الآية السابقة في قوله سبحانه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}[آل عمران : 96] فأظهر هنا ولم يضمر؛ تنبيها على أن الحج المراد هنا هو قصد هذا البيت بعينه لا قصد غيره فهناك من يدعي أنه يحج فيؤم بيت المقدس ومنهم من يؤم البدوي أو الحسين ومنهم من يؤم كربلاء أو النجف …فقال سبحانه:{حِجُّ الْبَيْتِ}؛ليخرج كل هؤلاء.
فسارع أيها الكريم فهذه نفحات خير من ربك فإن لم تستطع ولوج باب فقد فتح الله لك أبوابا وعوضك بالخير أصنافا وأنوعا وألوانا