فإن المسافر يشعر بأمور أربعة: الأمر الأول: الغربة.
الأمر الثاني: التعب.
الأمر الثالث: القلق.
الأمر الرابع: أنه يعيش على أمل العودة.
-فأول صفة هي صفة الغربة، وهكذا نحن في الدنيا مسافرون،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
إذاً: فالغريب وعابر السبيل فيهما صفة السفر،
وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الناس،
فالإنسان داخل بلده لا تظهر أخلاقه على طبيعتها،
ولذلك تجد الناس الذين يحجون رفقة ينقسمون إلى قسمين وثلاثة،
فإما أن يرجعوا متحابين أكثر، وإما أن يصبحوا أعداء،
لماذا؟ لأنه يقول لك:
أنا لم أكن أظن أنه بخيل، ولم أكن أظن أنه عصبي.
ورحم الله إمامنا الشافعي الذي كان أستاذ علم الفراسة،
فإذا كان للفراسة علم فهو أستاذها،
كان ينظر إلى الشخص فيقول: هذا مؤمن، وهذا منافق،
وهذا يظهر ما لا يبطن،
وهذا مُراءٍ، لكن إذا قال فقد صدق.
قال مرة: ألجأتني رحلة العلم إلى خيمة بالليل، فسلمت فرد
الرجل السلام،
فقلت في نفسي بعلم الفراسة: هذا رجل بخيل،
قال: فإذا بالرجل يكرمني ويحسن ضيافتي، ويعلف ناقتي، ويهيئ
لي مضجعاً،
وأتاني بطعام العشاء، وشراب من نوعين،
وقمت لله أصلي، فجاءني بماء وضوء ساخن،
وصلى معي الفجر، ثم أتاني بطعام الإفطار، قال:
فقلت في نفسي: تعس علم الفراسة،
إن الرجل يكرمني إلى هذه اللحظة، فلابد أن أستسمحه، فقلت:
يا هذا
اسمي محمد بن إدريس الشافعي، وأقطن مكة في منطقة كذا،
فعندما تأتي إلينا لحج أو لعمرة فمر علينا.
قال: وقبل أن أقول له: اعف عني وسامحني، قال: أعزمت على المسير؟
قلت: نعم، قال: اجلس، علفت دابتك بكذا، وقدمت لك طعام العشاء بكذا،
وضيقت على نفسي في الليل ووسعت عليك بكذا، وأفطرتك بكذا،
وقدمت لك ماءً ساخناً لتتوضأ بكذا، فقال الشافعي:
فلم تخطئني الفراسة!
فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، وأول صفة في السفر الغربة،
ولذلك كلنا في الدنيا على سفر.
ويروى أن الحسن البصري رحمه الله رأى جمعاً من الناس فقال:
ما لهؤلاء لماذا يبكون؟
قالوا: يا إمام! دفنوا ميتاً لهم،
قال: عجباً!
مسافرون يبكون مسافراً قد وصل قبلهم.