في العام 1880 بدأت تصل من مصر إلى أوروبا والولايات المتحدة صوَر
لوجوه آدمية سميّت "بورتريهات الفيوم".. تعالوا لنتعرف على قصتها
ربما وقع أحدنا على لوحات تصوّر شكل الوجه، مرسومة بشكل "غريب
" فتجعلك تقف أمامها طويلاً. تحاول أن تجد لها تعريفاً، وحين لا تستطيع،
تقرّر أن تستمتع بالنظر إليها فحسب.
بعض هذه اللوحات تُسمّى "وجوه الفيوم". لوحات لا نعرف مَن هم أصحابها
لكنها موجودة اليوم في متاحف ودور عرض عالمية ، وكتب عنها الكثيرون.
مع بداية القرن الأول قبل الميلاد وحتى منتصف القرن الرابع الميلادي بزغ
نوع جديد من الرسم مختلف عن الأسلوب التقليدي الذي اعتاده الفن المصري
القديم، وهو اللوحات الزيتية التي ازدهرت في منطقة الفيوم.
الفيوم من المحلية إلى العالمية
مع نهاية العام 1880م بدأت تصل إلى أوروبا والولايات المتحدة صوَر
لوجوه آدمية بكامل تفاصيلها . "بورتريهات جميلة وغامضة في آن"،
آتية من منطقة الفيوم، من مكان يُسمّى "هوارة". كان ذلك بعد حملة
التنقيب التي قام بها البريطاني "فليندر بترى".
الفيوم المدينة التي تأخذ شكل واحة، اشتقّ إسمها من إسم "بايم"،
أي اليمّ أو البحر. أما عدد اللوحات التي وصلت منها إلى الغرب في
ذلك الوقت فتخطّى ألف بورتريه. حينها تعرَّف العالم إلى هذا النوع
الغريب والمدهش والغامض من التصوير الذي عُرِف بإسم "بورتريهات
الفيوم" أو "وجوه الفيوم".
كيف نشأت فكرة البورتريه؟
كانت للمصري القديم معتقدات بشأن الحياة ما بعد الموت والعالم الآخر
وعلاقة الجسد بالروح. فكان يحفظ الجسد عبر تحنيطه واضعاً القرابين
في المقبرة حتى يستطيع المتوفّى من خلال روحه والتي كانت تعرف ب
"البا" آنذاك، وقرينه "الكا"، أن يستعدّ بها للعالم الآخر.
ولكي تتعرّف الروح على جثة صاحبها وتتردّد عليه، زوّد المصري القديم
"الكا"، بتمثال يُبقي على ملامح الوجه. أما الجثامين فكانت توضع في
لفائف كتانية حفاظاً عليها. هكذا باتت صورة صاحب القبر ضرورة لتدلّ
عليه، وتخبرنا عنه بما فيها عن العصر الذي عاش فيه، ومثال ذلك قناع
الملك توت عنخ آمون ومقبرته الشهيرة.
انتشرت تلك الأقنعة في المقابر بداية من عصر الدولة الوسطى وأصبحت
تُسمّى "بالكارتوناج"، وتطوّرت بعد ذلك لتغطّي كُلّ الوجه بالحجم الطبيعي
وتُصنَع من الخشب، والذهب، والطين، وتلوَّن بألوان جميلة ومختلفة.
تطلّع إلى الحياة الأبدية
منذ القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين ازدادت بعثات التنقيب
عن الآثار في كُلّ من الإسكندرية والفيوم، خصوصاً أن تينك المنطقتين
كانتا تحتويان آثاراً رومانية وبطلمية بجوار الآثار الفرعونية ، ومنها
خرجت "بورتريهات الفيوم".
وتُخبرنا الحفريات عن كثرة الجاليات الأجنبية في الفيوم خاصة الإغريقية
وأصبحوا جزءاً من نسيج المجتمع، ولم يعد يُنظر إليهم على أنهم جاليات
قدمت من الخارج، وبدأوا يدفنون موتاهم على ارتفاعات عالية على حدود
الصحراء، بعيداً من مياه النيل مُتّخذين نفس الطريقة في حفظ جثث موتاهم
وكانوا حريصين على أن يكون لكُلّ مقبرة القناع الخاص بها، أو البورتريه
الذي يدلّ على صاحبها. الرومان هم أكثر من أعطوا لفن البورتريه أهمية
كبيرة كوسيلة يتذّكرون بها المتوفّى.
الروائي الفرنسي أندريه مالرو كان يرى في نظرة (وجوه الفيوم) "تطلّعاً إلى
الحياة الأبدية". وجوه تتطابق مع الواقع وتتّسق مع التقاليد الطبيعية اليونانية.
فالمُشاهِد حين يرى "وجوه اليوم" يدخل في اتصال مباشر معها. هي تبدو
حيّة، لبعضنا، وللبعض الآخر ما يتعدّى ذلك.
ذلك أن مَن يُعاينها سيشعر ربما بأنه أمام عالمين مختلفين. كأن وجوه هذه
اللوحات القديمة جداً تطلّ علينا منذ زمن بعيد بنظرة مملوءة بالحياة والتساؤل.
ربما هذا ما أراده الفنانون القدماء أن تكون عليه هذه الوجوه التي أثارت
اهتمام البعثات الغربية.
"مُصوّرو الحياة"
أغلب الذين رسموا "وجوه الفيوم"، كانوا فنانين جوّالين. جاب "مصوّرو
الحياة" كافة أرجاء مصر بصحبة أدوات خفيفة، وأغلب هؤلاء استقروا في
الفيوم.
استند هؤلاء في إنجازهم إلى رسومهم على طبقة من المصيص مخلوط بالطين
وأحياناً خليط من الحجر الجيري ومادة صمغية. فكانت تتم تسوية الألواح
وتهذيب أطرافها على هيئة قوس، ثم توضع على وجه المومياء، مستخدمين
في ذلك أنواعاً من الأخشاب المُستخرَجة من أشجار الجميز والزيزفون.
أما الألواح فعبارة عن شرائح رقيقة في الحجم والطول وفي العصور المتأخّرة
كانت اللوحات تأخذ شكلاً مستطيلاً.
واعتمد الرسّامون في تلوين لوحاتهم على التمبرا، والألوان الشمعية،
وألوان التمبرا الممزوجة بشمع العسل، التي توضع على فرشاة مصنوعة
من ألياف النخيل.
طوال تلك السنين والعصور والأسر الحاكمة لم يعرف التاريخ الفرعوني
رسماً أو ظاهرة ، أو حتى طريقة رسم تقترب من وجوه الفيوم. فنحنُ
والعالم لم نعرف بشأن هذه الرسوم إلّا بعد أن احتل اليونانيون مصر،
وصولاً إلى فترة الاحتلال الروماني.