يُعَرِّف اللهُ نفسَه للإنسان بأنه "رب العالمين"
و "العالمين" جمع كلمة "عالم" التي تُعَبّر عن مجموعة من مخلوقات الكون. ففي الكون يوجد عالم الانس
و عالم الحيوانات
و عالم الأسماك
و عالم النباتات
و عالم الجمادات
و عالم الكواكب
و عالم المجرات الخ.
و عالم البشر يتكون من شعوباً و قبائل
و اجيال يصح ان يطلق على كل منهم "عالم"
و يصح ان يطلق على جمعهم "عالمين"
كما في قول الملائكة لمريم:
"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ" (آل عمران: ٤٢).
فكلمة "العالمين"
قد تُطلق على جمعٍ من بعض المخلوقات
او على كل المخلوقات في الكون بدون استثناء
كما فى "رب العالمين".
فإذا قَلنَّا وَصْف الله نفسه بأنه "رب العالمين"
بقوله تعالى أنه "رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ" (الانعام: ١٦٤)
و أنه "خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" (الزمر: ٦٢)
انتهينا الى ان
كلمة "العالمين" هنا تعني "كل موجود سوى الله":
"فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الجاثية: ٣٦)
و لذلك كان من اول ما ينطبع على الذهن عند ترديد
عبارة "رب العالمين"
هو ان خالق هذا الكون
مستقل عنه
و ليس بجزءٍ منه باي حالٍ من الأحوال
و بهذا يُسَدّ بابٌ من أوسع أبواب الشيطان
الذي يُخرِج منه بني البشر من الحق الى الضلال.
فالذين عبدوا
الكواكب
و النجوم
بل و الشجر
و البقر
عبر التاريخ و ظن بعضهم ان
الشمس مثلاً هى الاله الأعظم
إنما فعلوا ذلك لغياب هذه الحقيقة عن أذهانهم
الا من هدى الله فعلم ان الله لا يوجد في الكائنات الكونية
و قال مثل الخليل :
"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا" (الانعام: ٧٩)
و لا يزال يوجد صنفٌ من الناس الى يومنا هذا
من يظن ان الله هو "الطبيعة"
او النواميس الكونية
او الفيزيائية
فجعلوه في مخلوقاته
و كأنه جزء منهم
او جعلوا مخلوقاته فيه
و كأنهم جزء منه:
"وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ" (الزخرف: ١٥)
و لما هكذا نزل به البعضُ سبحانه لمستوى الكائنات
كان لابد ان يُلصَق به ما لا يليق الا ببعض الكائنات
فشبَّهوه بمخلوقاته
"وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ" (الانعام: ١٠٠).
فبترديد المؤمن حمده لله الذي يصفه مباشرةً بعد الحمد بأنه "رب العالمين"
تُحفَر هذه الحقيقة و تثبت اكثر فاكثر في ذهنه
و حينها لا يكون للشيطان عليه سلطان في هذا الباب.
اما صفة "رب"
فهي أوسع و اشمل من مجرد "سيد" او "مالك"
فهي
(علاوةً على هذَيْن المعنَييْن)
تحمل في طياتها كل معاني "التربية"
التي تقتضي الحفاظ على الشيء و العناية به و إغداق المحبة و الرفق عليه
تماماً كما يفعل الوالدَين بأولادهما
و الذي من اجل ما فعلوه لنا أُمرنا ان ندعوا لهما قائلين:
"رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: ٢٤)
فالرب هو الذي يُرَبّي
و كلمة "رب"
تـُعبّر هنا عن العلاقة النوعية بين الله و العالمين
شبيهةً من حيث المبدأ و الشكل بالعلاقة الحميمية بين الوالدين
وأولادهما
و لكن بالطبع شتان بين العلاقتين
من حيث الكَمِّ و من حيث الرب الذي يُربّي.
فالله سبحانه لا يُضاهيه مخلوق في أي من افعاله
و ليس كمثله شيء و لم يكن له كفواً احد.
و لذلك عندما رأي النبي
امرأةً تبحث بحرقةٍ على ولدها فلما وجدته ضمته الى صدرها
قال لمن كانوا معه من الصحابة:
"لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (البخاري و مسلم).
و كما اننا
مأمورون بأن نخفض جناح الذل لمن ربيانا و نحن صغار
فلا غرو ان نُؤمر بما
هو اكبر من ذلك
تجاه المُرَبّي الاعلي لكل العالمين
الذي بحكم ربوبيته أغدق علينا من النعم ما لا يُعَد و لا يُحصى:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ" (البقرة: ٢١-٢٢)