أولاً: دخول الإسلام الصين:
حسب ما ورَد من التدوِينات التاريخيَّة الصينيَّة كان في 25 أغسطس سنة 651م وصَل إلى تشانغان - شيان اليوم والعاصمة الصين أنذاك - أوَّل مندوبٍ عربي مَبعُوث من قِبَل الخليفة عثمان بن عفَّان - رضِي الله عنه - وقد قابَل صاحِب الجلالة إمبراطور أسرة تانغ الملكيَّة، وعرَض أحكام دين الإسلام عليه، بجانب سرْد أحوال بلده على مسامعه.
هذا، وقد رأَى المؤرِّخون أنَّ دين الإسلام قد دخَل لوقته في الصين مع وصول مبعوث الصداقة.
هذا، ومنذئذٍ فصاعدًا ازدادَت الاتِّصالات الوديَّة بين البلدَيْن أكثر فأكثر عبر طريق الحرير، والمواصلات البحريَّة، وقد تَقاطَر المبعوثون العرب على الصين 37 مرَّة في عهد أسرة تانغ، و49 مرة في عهد أسرة سونغ (960 - 1279م) حسب ما جاء في التدوِينات التاريخيَّة، وأمَّا في فترة ما بين أسرة تانغ وعهد أسرة سونغ فقد شهدت الصين جماعات من المسلمين العرب والفرس يَتوافَدون عليها شاحني العطريَّات والعقاقير، والكهرمان واللآلئ... إيابًا، وحامِلين الحرير، والخزف، والشاي ... إلخ ذهابًا.
وفي الوقت نفسه نقلوا اختراعات الصين القديمة: صناعة الإبرة المغناطيسيَّة والورق والبارود إلى أوروبا، ثم جاؤوا بعلوم الطب والرياضة والفلك إلى الصين.
وما بين أولئك المسلِمين الذين جاؤوا إلى الصِّين للتجارة عددٌ ليس بالقليل بقَوْا فيها ردحًا من الزمن؛ بحيث أصبَحَ لهم صلة قرابة مع الصينيين، وقبلوا الحضارة الصينيَّة بالتدريج، وتزوَّجوا الفتيات الصينيَّات المحليَّات، وجرت العادة على تسميتهم بالمسلمين الصينيين الأوَّلين في الصين.
وبعد أنْ غلب أبناء القوميَّات في آسيا الوسطي وآسيا الغربيَّة على أمورهم من قِبَل المنغول في القرن الثالث عشر، وغادَر جماعةٌ من المسلمين العرب والفرس والأتراك دِيارَهم إلى الصين بإجبارٍ من قوَّات المنغول، فلم يجدوا بُدًّا من خَوْضِ غِمار القتال أيَّام تأجُّج نِيران الحرب، ومُمارَسة الإنتاج وبعد انطِفائها، وكانوا يُوزعون في كلِّ مكان وصَلتْ إليه قوَّات المنغول العسكريَّة والحكوميَّة، وفي نهاية الأمر عين بعضُ المسلمين الذين تجنَّدوا إجباريًّا في مراكز عسكريَّة وحكوميَّة مهمَّة، ومارَس بعضُهم الآخَر التجارة، بينما كانت الأغلبيَّة الساحقة منهم ليس أمامَهم سوى استِصلاح الأراضي البور، ومُزاوَلة الزراعة، واستَوطَنُوا وتزوَّجوا بالفتيات الصينيَّات المحليَّات، وقد فاقَ عدد المسلِمين الذين استَوطَنُوا في عهد أسرة "يوان" (1279- 1368م) بكثير.
وبالإضافة إلى مقامهم العالي في المجتمعات، الذي ساعَد على نشر دين الإسلام في الصين، بالرغم مِن أنهم كانوا ينتَمُون إلى عدَّة قوميَّات، إلاَّ أنَّ عقيدتهم المشتركة - وهي القوميَّة - كانت عامِل ذَوبان في قوميَّة جديدة، وبالإضافة إلى "قوميَّة هوى" المرتبطة "بقوميَّة خان" ارتباطًا وثيقًا من حيث التاريخ والثقافة، وقوميَّات أخرى اعتَنقَتْ دين الإسلام على التوالي، وهي"الويغور"، "القازاق"، "الأوزبيك"، "التاجيك"، "التاتار"، "القرغيز"، "سالار"،"دونغشيانغ"، "باوآن"، بحيث أصبح الإسلام شائعًا وسط الأقليَّات القوميَّة العشر في الصين.
ثانيًا: أوضاع المسلمين الصينيين حاليًّا:
تُعتَبر الصين من أوائل البلدان التي دخَل إليها الإسلام، وبعد أنْ مضَى على انتشارِه فيها أكثرُ من 1300 سنة أصبَح عقيدةً مُشتركةً لدى عشر أقليَّات قَوْميَّة يبلُغ عددُ أبناءِ هذه القوميَّات المسلِمة 20 مليونًا، وهي أكثر نسبة حسب الإحصاء الرسمي الذي أُجرِي على نِطاقِ البلاد عامَّة سنة 2000 م، ومُعظَمهم يَتوزَّعون في "شينغيانغ"، و"نينغيشيا"، و"قانسو"، و"تشينغهاي"بكثافةٍ، بينما البقيَّة منهم ينتَشِرون في مُدُن وقُرَى سائر المُقاطَعات والبلديَّات والمناطِق الذاتيَّة الحكم بما فيها جزيرة "تايوان"، و"هونج كونج"، و"ماكاو".
وفي نحو أكثر مِن ألف سنة بنى المُسلِمون الصينيُّون من مختلف القوميَّات كثيرًا من المساجد الكبيرة والصغيرة، وتفيدنا الإحصائيَّات غير الكاملة أنَّ عدد المساجد في الصين يَبلُغ الآن أكثر مِن خمسة وثلاثين ألف مسجد، يُوجَد فيها حوالي خمسة وأربعين ألفًا منَ الأئمَّة والوعَّاظ.
إنَّ هذه المساجِد تنتَشِر في أنحاء الصين، علمًا بأنَّ بعضَها ذو تاريخٍ عريقٍ، وبعضها رائع الهندسة، وبعضها متألِّق بضياء التبادُلات الثقافيَّة بين الصين وبلاد العرَب، وهذه المساجِد ليستْ مجرَّد مراكز دينيَّة للجموع الغفيرة مِنَ المسلمين، وصلة الرَّبط بين المسلمين فحسب، بل هي كذلك مِن فرائد الآثار التاريخيَّة في الصين، وكانتْ وما زالت تلعب دورًا عظيمًا في انتِشار الإسلام وبقائه وتطوُّره في الصين من جهة، ومن جهةٍ أُخرَى في قضيَّة تعليم وتربية الثقافة الإسلاميَّة في الصين، وقد فتحت معظم المساجد في الصين حاليًّا المدارس المسجديَّة، أو الفصل المسجدي، وشهدت الآن هذه المدارس تغيُّرات جديدة في الحجم والأسلوب التعليمي، وجديرٌ بالذكر أنَّ أبواب المدارس المسجديَّة كانت مفتوحةً أمام الدارِسين الشباب فقط، أمَّا الآن فقد أصبحَتْ مفتوحةً للشابَّات أيضًا في بعضٍ منها، وزِد على ذلك أنَّه يُوجَد في الصين عشْرة معاهد إسلاميَّة، ومنها المعهد الإسلامي في بكين، والبقيَّة الباقية في مختلف المناطق والمُقاطَعات.
وبهذه المناسَبة يُسعِدني أنْ أُخْبِركم بأنَّه يتمتَّع المسلِمون الصينيُّون الذين يَعِيشون في مُحِيطٍ غير إسلامي وسط أبناء قوميَّة خان، وقوميَّات أخري صينيَّة - يتمتَّعون بسياسة الحريَّة في العقائد الدينيَّة التي تُطبِّقها الحكومة الصينيَّة المركزيَّة، ولقد تحسَّنت حَياة المسلمين الصينيِّين الماديَّة والسياسيَّة والدينيَّة تحسنًا كبيرًا.
وقد نُصَّ في قانون العقوبات الصيني الذي أُجِيز في يوليو عام 1979م على ما يَلِي: "يُعاقَب موظفو الحكومة بالسجن المحدَّد أقل من سنتين أو بالحبس إذا ما أفرَطُوا في تَجرِيد المواطنين مِن حريَّتهم من عقيدتهم الدينيَّة، أو انتهَكُوا أعراف وعادات أبناء الأقليَّات القوميَّة على نحوٍ غير شرعي، وقد قدم دستور الصين الوطني قانون العقوبات الصيني ضَمانًا للنشاطات الصينيَّة التي يُمارِسها المسلِمون الصينيُّون، ومن ناحية السياسة يتمتَّع المسلمون الصينيُّون تمتعًا كاملاً بحقوق الاشتراك وتقديم الآراء والاقتِراحات في الأمور السياسيَّة الحكوميَّة، ويُوجَد عددٌ ليس بالقليل مِن النوَّاب والأعضاء المسلمين في جميع مجالس الشورى، وبرلمان الشعب الصيني مركزيًّا أو محليًّا، ويَنُوب هؤلاء النوَّاب والأعضاء عن حقوق ومَصالِح إخوانهم المسلمين الصينيين في كلِّ مكان، ويُقدِّمون إلى الحكومة المركزيَّة أو المحليَّة الآراء والاقتِراحات والطلبات والشَّكاوى نيابةً عن جماهير المسلِمين؛ اعتِبارًا بأنهم يَلعَبون دور الجسر والرَّبط بين الحكومة والمسلِمين، وإلى غير ما ذُكِر فقد أُسِّسَتْ مناطق إداريَّة وإقليميَّة ومحافظات ذات حكمٍ ذاتي في كلِّ مكان يَتواجَد فيه أبناء الأقليَّات القوميَّة بما فيها القوميَّات التي تعتَنِق دين الإسلام".
لقد أمضَت "الجمعيَّة الإسلاميَّة الصينيَّة" خمسين عامًا في طريقها بعد تأسيسها في عام 1953م كأنها منظمة إسلاميَّة وطنيَّة لجميع المسلمين الصينيين، وفي نصف قرن أنجَزَت الجمعيَّة كثيرًا من المهمَّات، وحازَتْ على النتائج المرضية في مُساعَدة الحكومة في تنفيذ سياسة حريَّة المعتقدات الدينيَّة، وحماية حُقُوق ومصالح المسلمين الصينيين، وتطوير التقاليد الإسلاميَّة الممتازة، ومُمارَسة دعوة الإسلام، ودفع قضيَّة التعليم، والتربية الإسلامية في الصين، وتَوسِيع الاتِّصالات الوديَّة مع الإخوة المسلِمين خارج الصين، وتَوحِيد صفوف المسلمين والشخصيَّات الإسلاميَّة في الصين مِن أجْل بناء البلاد الأم، والذَّود عن السلام العالمي، وتُوجَد الآن في الصين 475 جمعية محليَّة على مستوى المقاطعة والمناطق والمحافظة، والتي تُرشِدها الجمعيَّة الإسلاميَّة الصينيَّة في مهمَّاتها.
تأمُّلات في بَقاء وتطوُّر الإسلام في الصين:
الإسلام في الصين - هذه الدولة ذات الحضارة التاريخيَّة العريقة والكثافة السكَّانية - له تاريخُه؛ فقد ظهَر فيها منذ ثلاثة عشر قرنًا وأكثر، وبعد التطوُّر والتنمية وصَل عددُ المسلمين الآن إلى نحو 20 مليونًا - 1,5 في المائة من سكَّان الصين - وعدد المساجد فيها يصل إلى خمسةٍ وثلاثين ألف مسجد، فما هو السبب الرئيس في بَقاء الإسلام في دولةٍ كبيرةٍ كالصين ذات الحضارة المؤثِّرة والمتطوِّرة؟
نعتَقِد أنَّ بقاء وتطوُّر الإسلام في الصين يَرجِع إلى العوامِل الثلاثة التالية:
أولاً: يَرجِع إلى إلهيَّة الإسلام؛ فالإسلام دينُ الله، وهو نور الله، أينَما نُولِّي وجوهنا فثمَّ نور الله؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]، إنَّ الدِّين الإسلامي دينُ فطرةٍ أتى للإنسانيَّة بالإيمان الكامِل، والأنظمة الأخلاقيَّة، والسلوكيات الحياتيَّة الحميدة، والأنظِمة الاجتماعيَّة، وبمبادئه التعبُّديَّة في الخضوع لأوامر الله، والنَّظافة، والطَّهارة والتَّطبيقات الحياتيَّة في طلَب السَّعادة في الدارَيْن، وحب الوطن، والتشاوُر بين الناس، والطاعة لأولي الأمر، والتسامُح، والوسطيَّة، وحُب الناس، وتَشجِيع العلم، والنَّظَر إلى الكون لتَسخِير ما خلَق الله للإنسان، وكلُّ هذه الخصائص والمميِّزات مُوافقةٌ لكلِّ العُصُور والمجتَمعات، والمناطق والقوميَّات، وقدَّمَتْ لنا نماذج فكريَّة مَتِينة.
وعندما دخَل الإسلامُ إلى الأراضي الصينيَّة التي كان لها إنتاجٌ مِن حَضارة غنيَّة وتقارُب مع ثقافة مُواطِن الصين - أشرَقَ بحكمته نورًا وأضاف عَوامِل ثقافة جديدة للمجتمع الصيني الذي تعدَّدت فيه الثقافات، وقُوبِل بالتَّصدِيق من قِبَل بعض شعبه في هذا البلد.
ثانيًا: يَرجِع إلى سَماحَة البيئة الاجتماعيَّة والسياسة الصينية، على الرغم من أنَّ الثقافة "الكونفوشية" تحتلُّ المركز الأساسي في التاريخ الصيني التي هي تتضمَّن الفكرة الفسلفيَّة، والنِّظام السياسي، والنُّظم التربويَّة، والنظريَّات الأخلاقيَّة، ولكنَّ الأمَّة الصينيَّة - التي تحتلُّ عدد "قومية خان"نسبة رئيسة فيها منذ التاريخ - لها صدرٌ واسعٌ تتَّخذ السياسة التسامحيَّة في قبول إضافي للثقافة الأجنبيَّة بما فيها الثقافة الإسلاميَّة، والدين البوذي بعد دخوله إلى الصين اقترب بمبادئه إلى الثقافة الصينيَّة التقليديَّة؛ ولذا امتَزجَتْ إلى المجرى الأساس للثقافة الصينيَّة؛ ممَّا نال تنميةً كبيرة، وهذا مثالٌ بارزٌ لدخول الثقافة الفكريَّة والدينيَّة المتبادَلة إلى الصين وقُوبِلت أيضًا من قِبَل الشعب الصيني، فإنَّ الصين لا تُشبِه الدول الغربيَّة ولا الدول الإسلاميَّة، لم يؤسس فيها للسلطة الدينيَّة، ولم تكن الدولة ذات سَيْطرة دينيَّة، ولا سَيْطرة إقطاعيَّة، ولم تحصل أيُّ حربٍ من الحروب الدينيَّة؛ لذا كان كلُّ دينٍ أجنبي بعد دخوله إلى الصين ما دام قد التَزَم بقوانين الإمبراطوريَّة الصينيَّة فإنَّه يجد مَكانًا للبقاء، والإسلام أيضًا له نفس الأمر، وعلى الرغم من أنَّ بعض الإقطاعيَّة الإمبراطوريَّة في بعض زمنٍ من التاريخ أحدثَتْ أحوالاً من الاضطهاد والتفرِقة بين المسلمين، ولكنَّ السلطات الصينيَّة في عصور مختلفة في مجراها الأساس من سياستها نحو الإسلام أبرزتْ تسامُحًا واحترامًا حتى ظهَرتْ بالتأييد والثَّناء من قِبَل بعض السلطات في عهد الازدِهار والرَّخاء.
إنَّ الدِّين الإسلامي - بِناءً على ميزة بيئة المجتمع الصيني - استَفاد بكلِّ جدٍّ من خَصائص الإسلام في السلام والطاعة والتسامح؛ ليُواكِب ويَتوافَق مع المجرَى الأساس للثقافة الأصيلة، والنِّظام السياسي والقانوني، والمسلمون - في بيئة هذا المجتمع التسامحي - شارَكُوا بحماسٍ في بناء البلد، وقدَّموا إسهامات في مَجال العلم والثقافة والأدب؛ حتى يستَطِيعوا نيل تأكيد وتقدير من جهة الحكومة، وبذلك صار الإسلام دينًا له موقعُه في المجتمع الذي فيه أديان "بوذية" و"كونفوشية"؛ ولذلك فإنَّ تنمية المسلمين في الصين متعلِّقة بسعة صدر الثقافة الصِّينيَّة التَّقليديَّة وتسامُح السُّلطة السياسيَّة منذ التاريخ.
ثالثًا:يَرجِع إلى مَجهُودات ذاتيَّة للمسلمين الصينيِّين، وهذه المجهُودات تَظهَر في اهتِمامهم بالوحْدة والتعاوُن المُتَبادل؛ ومنذ دخول الإسلام إلى الصين ظهَرتْ مَظاهِر الوحدة والاعتصام بين قلوب المسلمين؛ فحافَظُوا على عقيدتهم وتقاليدهم رغم إغْراق الثقافة الصِّينية لهم، وكوَّنوا مَناطِق للمسلمين أينما ذهَبُوا وبنَوا المساجد وشكَّلوا فيها الجماعات الصغيرة للمسلمين.
وقد لعبت المساجدُ دَورًا مهمًّا في نشر وتنمية الإسلام؛ ومن ثَمَّ أسَّسوا أجهزةً تعليميَّة لتوارُث الأجيال القادمة للعقيدة الإسلاميَّة، وفي الوقت نفسِه قامُوا بتربية دُعاة الإسلام جِيلاً بعد جِيلٍ كالأئمَّة في المساجد.
وعُلَماء الإسلام هؤلاء مع ظروف بُعدِهم عن مركز العالم الإسلامي عانوا صابِرين من سُوء ظُروف ومشقَّة وفقْرٍ في المَعِيشة، وحاوَلُوا إيجاد وسيلةٍ لنشر الثقافة الإسلاميَّة؛ وذلك بتربية أولادِهم متمسِّكين برُوحِ الإسلام لنشرِه جيلاً بعد جيل، وأيضًا بتعلُّمهم بكلِّ جدٍّ لخبرة الإنتاج والثقافة التقليديَّة لقوميَّة خان الصينيَّة، فطوَّرُوا اقتصادَهم وشارَكُوا في نَشاطات اقتصاديَّة وثقافيَّة وسياسيَّة في المناطق التي يقطنونها، وعدم إغلاق أنفسهم في الداخل، وعدم ضَياع خصائصهم الدينيَّة في نفس الوقت، وحفظهم لمبادئ الإسلام جعَلَهم يُنَسّقون أنفسَهم باستِمرارٍ طلبًا للبَقاء والتنمية.
ومِن مَدارٍ تاريخيٍّ في بَقاء وتنْمية الإسلام في الصين نفهَم إذا أردْنا استِمرار حِفْظ الإسلام في ظروفٍ تاريخيَّة جديدة واندِماجه كنوعٍ من النِّظام الثقافي إلى تَشكِيلةٍ جديدةٍ من الثَّقافات المتعدِّدة وتنميته من جديدٍ، فنحتاج هنا إلى بذْل جهودٍ كُبْرى، ولئلاَّ يميل طريقُنا فلا بُدَّ من الاهتِمام بتلخيص التجارِب التي تَحتاج إلى الاهتِمام المستمر:
1- ضَرُورة مُبادَرة روح تسامُحيَّة للإسلام، ومن توجيهات الإسلام اختلافُ الناس في العقائد، والتمييز بينهم بشعوبٍ ودِيانة، وكلُّ هذه أنظمةٌ مِن خلْق الله - سبحانه وتعالى - والإنسان لا يقدر أنْ يُغيِّره؛ قال الله - تعالى - في كتابة الكريم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118 - 119].
ولذا عندما يكون المسلمون أقليَّةً فلا بُدَّ أنْ يلتَزِموا أوامِرَ الله، وأنْ يُحسنوا علاقاتهم مع غير المسلمين؛ ﴿ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8]، وأنْ يَصبِروا ويحتَرِموا عَقائِد الآخَرين وتقاليدهم وأفكارَهم وشعورهم، وعلى المسلِمين أنْ يُبادِروا أنفسَهم في تَنسِيق العلاقة مع ثقافتهم المحليَّة اكتسابًا لتأييد وتفاهُم المجتمع والسُّلطة الحاكمة للمسلمين، وطلبًا لبيئةٍ واسعةٍ للحياة، ولا يستحسن أنْ يتَّخذ السلوك الضيِّق والأفعال المتطرِّفة، فإذا حدَث تعارُضٌ مع ثقافة المجرَى الأساس وأُصِيب بإزاحةٍ من قِبَل السلطة الحاكمة المحليَّة، فإنَّنا سوف نخسَر كثيرًا، والعبر مِنَ التاريخ القديم والحديث عنها في ذلك كثيرة.
2- ومِن داخلنا فلا بُدَّ مِن أنْ نُخفِّف النَّظرة الطائفيَّة، فعلى الرغم من أنَّ المسلمين الصينيين أساسًا كلهم من أهل السنَّة، إلاَّ أنَّهم بسبب التأثُّر بفِكرةٍ دينيَّة خارجيَّة ظهرَتْ بعضُ مذاهب صغيرة أيضًا، ولديهم بعضُ اختِلافات في مسائل فقهيَّة وعقديَّة، وهذه اختِلافاتٌ لها سببُها من حدوثها، وبطريقةٍ نقديَّة أو تَخاصُميَّة فلا يُمكِن أنْ تزال، والحلُّ الوَحِيد لها أنْ نُعامِلهم مُعاملةً صحيحة.
وأكثريَّة مُسلِمي الصين ورجالهم في الدِّين يعتَقِدون أنَّه إذا كان لا تُنتَهك المبادِئ الأساسيَّة للعقيدة الإسلاميَّة، فيسمح بوُجُود هذه الطوائف الصغيرة، فلا يستحقُّ الأمر تخاصُمًا معهم بسبب هذه الاختِلافات؛ وذلك حرصًا على عدم حُدُوث تناقُض، وحماية لوحدة المسلمين، وما علَيْنا إلاَّ أنْ نتمسَّك بمبدأ "احترام مُتبادَل، وعدم التدخُّل في أمور الآخَرين وتوجُّه كل طرف في طريقه، وأعمال كلِّ طرف جزاؤها من الله"؛ وذلك طلبًا لظهور الإسلام في الصين بالوحدة والتضامُن، وحماية لمنافع عامَّة للمسلمين.
3- التعايُش في وفاقٍ مع أيديولوجية الآخَرين مِن أجل بناء بيئة سليمة كبيرة، فإنَّ الصين تلتَزِم مَبادِئ فصْل الدين عن السياسة، فالحكومة أعلى من أيِّ دين، والأديان كلُّها متساوية؛ لذا فكلُّ الأديان في الصين شعبيَّة؛ وذلك حفظًا لعدم حدوث تناقض مع أيديولوجيَّة الآخَرين، وفي الصين إضافةً إلى الذين يعتَقِدون في أديان بوذية وتاوية ومسيحية وكاثوليكية هناك أيضًا أعدادٌ كبيرة من الناس من اللا دينيين، ولها أهميَّة كبيرة لتنمية وجود الدين الإسلامي، ونحن نلتَزِم مبدأ الاحتِرام المُتبادَل في العقائد، والوحدة والتعاون في السياسة والاقتصاد، وتحسين العلاقة بحماسٍ وإيجاد بيئةٍ اجتماعيَّة سليمة ووفاقيَّة، والإسلام في الصين ككل الأديان الأخرى له مُنظمته ومطبوعاته؛ ولكيلا يحدُث تعارُض أو تناقُصٌ؛ فكلُّ ديانة لا يتدخَّل أصحابُها في دين الآخر، فيدعون لدينهم ولا يسمح أنْ يكون هناك كلمات جارحة للوحدة؛ لذا فليس هناك قلق مِن حدوث تهديدات من ديانةٍ أخرى.
إنَّنا نرى تَمَكُّن الإسلام من التطوُّر والبَقاء في حالةٍ كهذه حتى يومنا، وكلُّ دولة لها أحوالها الخاصَّة، وأقليَّة المسلمين - في كلِّ دولة - لها أسلوبها وطريقتها المختلفة في سبيل البَقاء والتنمية وحلِّ المشاكل.
أيها الضيوف والإخوة المسلمون:
قال الله - تعالى - في القرآن الكريم: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [الأعراف: 189].
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثَلُ المؤمِنين في تَوادِّهم وتراحُمِهم وتَعاطُفهم كمثَل الجسد، إذا اشتَكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائِر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))؛ إذ يجب على المسلم - وخاصَّة عُلَماء ودُعَاة الإسلام - أنْ يضَعُوا الاختِلافات، وأنْ يَطلُبوا الآراء المُوحدة الكبيرة وترك الاختِلافات الصغيرة، على أساس العقيدة المُشتَرَكة للتضامُن والتقدُّم كمقارنة مشتركة ضدَّ التشويه والتلويث والافتِراء على الإسلام.
إنَّ المسلمين الصينيِّين يكونون جزءًا من مُسلِمي العالم؛ فيجب علينا أنْ نَتضامَن في صفٍّ واحِدٍ مع جميع المُسلِمين من دول العالم؛ لتقديم المساهمة الإيجابيَّة في دفْع الإسلام إلى مرحلةٍ تطوُّريَّة جديدة، وفي الوقت نفسه نرغَبُ في إقامة وتَعزِيز علاقات المحبَّة والإخاء والتعاوُن الودي مع جميع المسلمين من دُوَل العالم والمنظمات الإسلاميَّة ليتعلَّم بعضنا مِن بعض.
أخيرًا، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أنْ يُعِيننا، وبتوجيهاتٍ من كتاب الله وسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبجهودنا الشخصيَّة يُشرِق الإسلام بنوره غدًا أنوارًا لا مَثِيلَ لها.
وقيل: خيرُ الكلام كلامُ الله وسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولهذا نختَتِم مقالتنا بقوله - تعالى -: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾ [آل عمران: 160]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإسلامُ يَعلُو ولا يُعلَى)) الحديث.