المصـــــــــــراوية
المصـــــــــــراوية

المصـــــــــــراوية

 
الرئيسيةاليوميةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 2:42

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 3dlat.com_06_14wPr3lDOOYgun
مصعب بن عمير
0أول سفير فى الاسلام0ا
م
صعب بن عمير(أو

هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.
غرّة فتيان قريش, وأوفاهم جمالا, وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..
ولد في النعمة, وغذيّ بها, وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
ذلك الفتى الريّان, المدلل المنعّم, حديث حسان مكة, ولؤلؤة ندواتها ومجالسها, أيمكن أن يتحوّل إلى أسطورة من أساطير الإيمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير", أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الإسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
إن قصة حياته لشرف لبني الإنسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم, ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها, ولا حديث يشغلها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه, كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه, زينة المجالس والندوات, تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها, ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه, يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد, ولا التلبث والانتظار, بل صحب نفسه ذات مساء إلى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن, ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه, وتنساب الآيات من قلب الرسول متآلفة على شفتيه, ثم آخذة طريقها إلى الأسماع والأفئدة, حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه, وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج, والفؤاد المتوثب, فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنّه وعمره, ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
--
كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها, وكانت تهاب إلى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى أمه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها, استحالت هولاً  يقارعه ويصارعه, لاستخف به مصعب إلى حين..
أما خصومة أمه, فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا, وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم, ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو قرير العين بإيمانه, وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر إسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات, لا يخفى فيها سر, فعيون قريش وآذانها على كل طريق, ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة, الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم, فسابق ريح الصحراء وزوابعها, شاخصا إلى أم مصعب, حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه, وعشيرته, وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته, القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم, ويملؤها به حكمة وشرفا, وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية, ولكن اليد التي امتدت كالسهم, ما لبثت أن استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام, وهدوءا يفرض الإقناع..
ولكن, إذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى, فان في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به إلى ركن قصي من أركان دارها, وحبسته فيه, وأحكمت عليه إغلاقه, وظل رهين محبسه ذاك, حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين إلى أرض الحبشة, فاحتال لنفسه حين سمع النبأ, وغافل أمه وحراسه, ومضى إلى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع إخوانه المهاجرين, ثم يعود معهم إلى مكة, ثم يهاجر إلى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة, فان تجربة إيمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان, ولقد فرغ من إعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار, واطمأن مصعب إلى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى, وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله, فما إن بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا, وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه, حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة, وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة, شاكرة محبة, وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة, وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا, وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه, ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها, حتى ولو يكون هذا الإنسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وإنها لتعلم صدق عزمه إذا همّ وعزم, فودعته باكية, وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك, لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه إني لك ناصح, وعليك شفوق, فاشهدي بأنه لا اله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله"...
أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب, لا أدخل في دينك, فيزرى برأيي, ويضعف عقلي"..!!
وخرج مصعب من العتمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر, لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب, يأكل يوما, ويجوع أياما و ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة, والمتألقة بنور الله, كانت قد جعلت منه إنسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
--
وآنئذ, اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره إلى المدينة, يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة, ويدخل غيرهم في دين الله, ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها, وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير, وهو يعلم أنه يكل إليه بأخطر قضايا الساعة, ويلقي بين يديه مصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة, ومنطلق الدعوة والدعاة, والمبشرين والغزاة, بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق, ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه وإخلاصه, فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول إليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة, ولكنه لم يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة, كان مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم إليهم "مصعب بن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها. وعرف أنه داعية إلى الله تعالى, ومبشر بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى, والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به, ليس عليه إلا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة "أسعد بن زرارة" يفشيان معا القبائل والبيوت والمجالس, تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه, هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (إنما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه, لولا فطنة عقله, وعظمة روحه..
 
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الإنس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة, فاجأه شاهرا حربته و يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم, ويحدثهم عن إله واحد لم يعرفوه من قبل, ولم يألفوه من قبل..!
إن آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها و إذا احتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا إليها, فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما إله محمد الذي يدعوهم إليه باسمه هذا السفير الوافد إليهم, فما أحد يعرف مكانه, ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما إن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد بن حضير متوشحا غضبه المتلظي, وثورته المتحفزة, حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا, متهللا..
وقف أسيد أمامه مهتاجا, وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما إلى حيّنا, تسفهان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا, إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
 
كان أسيد رجلا أعرايبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه إلى ضميره, فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع, تركه لاقتناعه وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم, وتحول إلى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن, ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم, وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا, ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه, ويشهد أن لا اله إلا الله".
فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه, ووقف يعلن أن لا اله إلا الله, وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع, وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة, وتمت بإسلامهم النعمة, وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: إذا كان أسيد بن حضير, وسعد بن معاذ, وسعد بن عبادة قد أسلموا, ففيم تخلفنا..؟ هيا إلى مصعب, فلنؤمن معه, فإنهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
--
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاحاً هو له أهل, وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام, ويهاجر الرسول وصحبه إلى المدينة, وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها, لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر, فيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون إلى الثأر, و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم, ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير, فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة, ويحتدم القتال, ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام, ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين, لكن عملهم هذا, سرعان ما يحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل, وتعمل فيهم على حين غرّة, السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين, ركّزوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر, فرفع اللواء عاليا, وأطلق تكبيرة كالزئير, ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء إليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه, وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل, ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفوان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه, يريدون أن يعبروا فوق جثته إلى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري, عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب, فأقبل ابن قميئة وهو فارس, فضربه على يده اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه, فضرب يده اليسرى فقطعها, فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأنفذ الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة, وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والإيمان..
كان يظن أنه إذا سقط  فسيصبح طريق القتلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها, ويكملها, ويجعلها, قرآنا يتلى..
--
وبعد انتهاء المعركة المريرة, وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا, وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء, فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان إذ سقط شهيدا قبل أن يطمئن على نجاة رسول الله, وقبل أن يؤدي إلى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
--
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب, سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله, نبتغي وجه الله, فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى, ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا, منهم مصعب بن عمير, قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة.. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه, وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه, فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه, واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر"..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة, وتمثيل المشركين بجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام, وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم من أن أرض المعركة امتلأت بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا, فقد وقف على جثمان أول سفرائه, يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي دفن بها وقال لقد رأيتك بمكة, وما بها أرق حلة, ولا أحسن لمّة منك. "ثم ها ذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم , وأتوهم, وسلموا عليهم, فوالذي نفسي بيده, لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة, إلا ردوا عليه السلام"..
--
السلام عليك يا مصعب..
السلام عليكم يا معشر الشهداء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ل سفير فى الاسلام)


عدل سابقا من قبل صالح المحلاوى في الإثنين 6 أبريل 2015 - 0:40 عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 2:55


أبو ذر الغفارى(زعيم المعرضة وعدو الثروات)
  أقبل على مكة نشوان مغتبطا..
صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم, بيد أن الغاية التي يسعى إليها, أنسته جراحه, وأفاضت على روحه الحبور والبشور.
ودخلها متنكرا, كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام.. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه, أو طال به السفر والارتحال فأوى إليها يستريح ويتزوّد.
فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم, ويستمع إليه لفتكوا به.
وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به, ولكن بعد أن يقابل الرجل إلي قطع الفيافي ليراه, وبعد أن يؤمن به, إن اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..
ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد, وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر, حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد, وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.
في صبيحة يوم ذهب إلى هناك, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً وحده, فاقترب منه وقال: نعمت صباحا يا أخا العرب..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا أخاه.
قال أبو ذر:أنشدني مما تقول..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك, ولكنه قرآن كريم.
قال أبو ذر: اقرأ عليّ..
فقرأ عليه الرسول, وأبو ذر يصغي.. ولم يمض من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر:
"أشهد أن لا اله إلا الله.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!
وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب..؟
فأجابه أبو ذر: من غفار..
وتألقت ابتسامة على فم الرسول صلى الله عليه وسلم, واكتسى وجهه الدهشة والعجب..
وضحك أبو ذر كذلك, فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالإسلام أمامه إنما هو رجل من غفار..!!
فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق..!!
وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع.. إنهم حلفاء الليل والظلام, والويل لمن يسلمه الليل إلى واحد من قبيلة غفار.
أفيجيء منهم اليوم, والإسلام لا يزال دينا غصّا مستخفياَ, واحد ليسلم..؟!
 
  يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه:
".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا, لما كان من غفار, ثم قال: إن الله يهدي من يشاء.
ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى, وأراد بهم الخير.
وإنه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى, وأراد بهم الخير.
وانه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين كانوا يتألهون في الجاهلية, أي يتمرّدون على عبادة الأصنام , ويذهبون إلى الإيمان باله خالق عظيم. وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصنام وعبّادها, ويدعو إلى عبادة الله الواحد القهار, حتى حث إليه الخطى, وشدّ الرحال.
  
  أسلم أبو ذر من فوره..
وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..
إذن, هو قد أسلم في الأيام الأولى, بل الساعات الأولىللإسلام, وكان إسلامه مبكرا..
وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا.. يهمس بها إلى نفسه, وإلى الخمسة الذين آمنوا معه, ولم يكن أمام أبي ذر إلا أن يحمل إيمانه بين جنبيه, ويتسلل به مغادراً مكة, وعائدا إلى قومه...
ولكن أبا ذر, جندب بن جنادة, يحمل طبيعة فوارة جيّاشة.
لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون.. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه.. حجارة مرصوصة, ميلاد عابديها أقدم من ميلادها, تنحني أمامها الجباه والعقول, ويناديها الناس: لبيك.. لبيك..!!
وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.
لقد توجه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فور إسلامه بهذا السؤال:
يا رسول الله, بم تأمرني..؟
فأجابه الرسول: ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري..
فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد..!!
ألم أقل لكم..؟؟
تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة, أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به, وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع إلى أهله صامتا.؟
هذا أمر فوق طاقته..
هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته:
[أشهد أن لا اله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله]...
 
  كانت هذه الصيحة أول صيحة بالإسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى..
ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..
وترامى النبأ إلى العباس عم النبي, فجاء يسعى, وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم إلا بالحيلة الذكية, قال له:
"يا معشر قريش, أنتم تجار, وطريقكم على غفار,, وهذا رجل من رجالها, إن يحرّض قومه عليكم, يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا إلى رشدهم وتركوه.
ولكن أبا ذر, وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله, لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد...!!
وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم, يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف, ونائلة) ودعوانهما, حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان, ويهرول الرجال كالجراد, ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..
وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله إلا الله  وأن محمدا رسول الله". ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه, حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..
  
  ويعود أبو ذر إلى عشيرته وقومه, فيحدثهم عن النبي الذي ظهر يدعو إلى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق, ويدخل قومه في الإسلام, واحدا اثر واحد.. ولا يكتفي بقبيلته غفار, بل ينتقل إلى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن, ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, ويستقر بها والمسلمون معه.
وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان, أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة, لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..
اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم, جاء بهما أبو ذر مسلمين جميعا رجإلا ونساء. شيوخا وشبابا, وأطفالا..!!
وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..
فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن إسلامه وإيمانه, وقال معبّرا عن دهشته:
"إن الله يهدي من يشاء"..!!
أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة. وقد قطعت في الإسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر, وتجيء معها قبيلة أسلم..
إن عمالقة السطور وحلفاء الشيطان, قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟
لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
ونظر إلى قبيلة غفار وقال:
"غفار غفر الله لها".
ثم إلى قبيلة أسلم فقال:
"وأسلم سالمها الله"..
وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة, العزيز المنال.. إلا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟
أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا, وتحيته مباركة..
ولسوف يحمل صدره, ويحمل تاريخه, أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..
ولسوف تفنى القرون والأجيال, والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:
" ما أقلّت الغبراء, ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!
ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه, حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..
  
  أصدق لهجة في أبي ذر..؟
لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه, ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..
فالصدق الجسور, هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
صدق باطنه, وصدق ظاهره..
صدق عقيدته وصدق لهجته..
ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه, ولا يغالط غيره, ولا يسمح لأحد أن يغالطه..
ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..
إنما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..
الصدق ولاء رشيد للحق, وتعبير جريء عنه, وسير حثيث معه..
 
  ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته, فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.
وألقى الرسول يوما هذا السؤال:
" يا أبا ذر كيف أنت إذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟
فأجاب قائلا:
"إذن والذي بعثك بالحق, لأضربن بسيفي".!!
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
"أفلا أدلك على خير من ذلك..؟
اصبر حتى تلقاني".
ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
الأمراء .. والمال..؟؟
 
   تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته, وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال, ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..
ولسوف يحفظ أبوذر وصية معلمه, فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
أجل إذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم, فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..
ولسوف يفعل..
  
  ومضى عهد الرسول, ومن بعده عصر أبي بكر, وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة, لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا.
وأيامئذ, لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة...
 
  ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر, فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض, زهدا وتقشفا, ودعلا يكاد يكون فوق طاقة البشر..
 
  إن واليا من ولاته في العراق, أو في الشام, أو في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة, لا يكاد يصل إليها نوعا من الحلوى, لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه, حتى يكون الخبر قد وصل إلى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي إلى المدينة ليلقى حسابه العسير..!!
ليهنأ أبو ذر إذن.. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..
وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايق استغلال السلطة, واحتكار الثروة, فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة, وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
وهكذا تفرغ لعبادة ربه, وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت إذا رأى مخالفة هنا, أو هناك.. وقلما كان يرى..
 
  بيد أن أعظم, وأعدل, وأروع  حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم, تاركا وراءه فراغا هائلا, ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به. وتستمر الفتوح في مدّها, ويعلو معها مد الرغبات والتطلع إلى مناعم الحياة وترفها..
ويرى أبو ذر الخطر..
 
 إن ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..
إن الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري, توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..
إن المال الذي جعله الله خادما مطيعا للإنسان, يوشك أن يتحوّل إلى سيّد مستبد..
ومع من؟
مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة, في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه..!!
إن خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا.. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن أصير حكرا ومزية..
إن السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار, تتحول إلى سبيل للسيطرة, وللثراء, وللترف المدمر الوبيل..
رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه إلى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه, ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول, فأعاد السيف إلى غمده, فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ)
ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض..
وليس السيف أداة التغيير والتقويم, بل الكلمة الصادقة, الأمينة المستبسلة..
الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها, ولا ترهب عواقبها.
 
  لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من  أصحابه, أن الأرض لم تقلّ, وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..
ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة, وصدق الاقتناع, فما حاجته إلى السيف..؟
إن كلمة واحدة يقولها, لأمضى من ملء الأرض سيوفا..
 
 فليخرج بصدقه هذا, إلى الأمراء.. إلى الأغنياء. إلى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم إلى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا, لا جابيا.. ونبوة لا ملكا,.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة, لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..
فليخرج إلى هؤلاء جميعا, حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق, وهو خير الحاكمين.
  
  وخرج أبو ذر إلى معاقل السلطة والثروة, يغزوها بمعارضته معقلا معقلا.. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون.. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طار إليها ذكره. وأصبح لا يمر بأرض, بل ولا يبلغ اسمه قوما إلا أثار تساؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء.
ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا, فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الإنس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات:
"بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"..!!
لا يصعد جبلا, ولا ينزل سهلا, ولا يدخل مدينة, ولا يواجه أميرا إلا وهذه الكلمات على لسانه.
ولم يعد الإنس يبصرونه قادما إلا استقبلوه بهذه الكلمات:
" بشّر الكانزين بمكاو من نار"..
لقد صارت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها, حين رأى الثروات تتركز وتحتكر.. وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال.. وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع, وتفان وإخلاص..
 
  لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة.. هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيرا وفيضا, وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب, يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة, ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو إليه طموحه البعيد.
هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الدعوة, فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر..
وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه, وسابق الريح إلى الشام..
ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق, والتفوا حوله أينما ذهب وسار..
حدثنا يا أبا ذر..
حدثنا يا صاحب رسول الله..
ويلقي أبو ذر على الجموع حوله نظرات فاحصة, فيرى أكثرها ذوي خصاصة وفقر.. ثم يرنو ببصره نحو المشارف القريبة فيرى القصور والضياع..
ثم يصرخ في الحافين حوله قائلا:
" عجبت لمن لا يجد القوت في بيته, كيف لا يخرج على الإنس شاهرا سيفه"..؟؟!!
 
  ثم يذكر من فوره وصية رسول الله أن يضع الأناة مكان الانقلاب, والكلمة الشجاعة مكان السيف.. فيترك لغة الحرب هذه ويعود إلى لغة المنطق والاقتناع, فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط.. وأنهم جميعا شركاء في الرزق.. وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. وأن أمير القوم ووليهم, هو أول من يجوع إذا جاعوا, وآخر من شبع إذا شبعوا..
لقد قرر أن يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عامّا من كل بلاد الإسلام يكون له من الفطنة والمناعة, والقوة ما يجعله شكيمة لأمرائه وأغنيائه, وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم, أو محتكرة للثروة.
 
  وفي أيام قلائل, كانت الشام كلها كخلايا نحل وجدت ملكتها المطاعة.. ولو أعطى أبو ذر إشارة عابرة بالثورة لاشتعلت نارا.. ولكنه كما قلنا, حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه, وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق.
ولقد بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه, يوم ناظر معاوية على ملأ من الناس. ثم أبلغ الشاهد للمناظرة, الغائب عنها. وسارت الرياح بأخبارها..
 
ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة, كما وصفه نبيه وأستاذه..
وقف يسائل معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما, وعن ثروته اليوم..!!
وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة, وعن قصوره بالشام اليوم..!!
ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية إلى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع.
ثم يصيح فيهم جميعا: أفأنتم الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم..؟؟
ويتولى الإجابة عنهم: نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن, وشهدتم مع الرسول المشاهد..
ثم يعود ويسأل: ألا تجدون في كتاب الله هذه الآية:
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) )..؟؟ ( التوبة )
 
  ويختلان معاوية طريق الحديث قائلا: لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب..
ويصيح أبو ذر: لا بل أنزلت لنا ولهم..
ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال.. وألا يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه..
وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر..
ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات:
(بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)..
 
  ويستشعر معاوية الخطر, وتفزعه كلمات الثائر الجليل, ولكنه يعرف له قدره, فلا يقربه بسوء, ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له:" إن أبا ذر قد أفسد الإنس بالشام"..
ويكتب عثمان لأبي ذر يستدعيه للمدينة.
ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر إلى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع..!!
 
(لا حاجة لي في دنياكم)..!!
هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل إلى المدينة, وجرى بينهما حوار طويل.
لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه, ومن الأنباء التي توافدت عليه من كل الأقطار عن مشايعة الجماهير لآراء أبي ذر, بادراك صحيح لخطر دعوته وقوتها, وقرر أن يحتفظ به إلى جواره في المدينة, محددا بها إقامته.
ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا, رقيقا, فقال له:" ابق هنا بجانبي, تغدو عليك القاح وتروح"..
وأجابه أبو ذر:
(لا حاجة لي في دنياكم).!
 
  أجل لا حاجة له في دنيا الناس.. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح, ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا..!!
ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج إلى الرّبذة فأذن له..
 
  ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله, حافظا في أعماق روحه النصيحة التي وجهها إليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول رأى الغيب كله.. غيب أبي ذر ومستقبله, فأهدى إليه هذه النصيحة الغالية.
ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بإيقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لإشباع ولعهم وكيدهم.
جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة, فزجرهم بكلمات حاسمة:
" والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة, أ جبل, لسمعت, وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي.."
" ولوسيّرني ما بين الأفق إلى الأفق , لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي..
" ولو ردّني إلى منزلي, لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي"..
 
  ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا, ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة.. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها.. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر, فتحاشاه أيضا, ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق, لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه..!
لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل.
 
  وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال, فالحكم والمال يملكان من الإغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على إخوانه الذين حملوا راية الإسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم, والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.
والحكم والمال أيضا, هما عصب الحياة للأمة والجماعات, فإذا اعتورهما الضلال تعرضت مصاير الناس للخطر الأكيد.
ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول إلا يلي أحد منهم إمارة أو يجمع ثروة, وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى, وعبّادا لله..
وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال, وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا.. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من إغراء الإمارة ويقول عنها:
".. إنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة.. إلا من أخذها بحقها, وأدّى الذي عليه فيها"...
 
  ولقد بلغ الأمر بأبي ذر ليتجنّب إخوانه إن لم يكن مقاطعتهم,لأنهم ولوا الإمارات, وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..
لقيه أبو موسى الأشعري يوما, فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:" مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي".
ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:
" لست بأخيك, إنما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"..!
كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا, ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:
(اليك عني.. ألست الذي وليت الإمارة, فتطاولت في البنيان, واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟
ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..
 
وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الحكم والثروة..
ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه, ومع إيمانه, فأبو ذر  يقف بأحلامه وأعماله.. بسلوكه ورؤاه, عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر..
 
  وإذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها, فان أبا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل, ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام, وصلوا وراءه, وجاهدوا معه, وبايعوه على السمع والطاعة.
كما أنه يدرك بوعيه المضيء, ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس, ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم, أو عدالة الثروة, يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.
  
  ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه, أمينا عليها, حارسا لها.. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الإمارة والثروة,...
عرضت عليه الإمارة بالعراق فقال:
" لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..
ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:
أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
فأجابه أبو ذر: " يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني"..
قال له: والله انك لمحتاج إليهما!!
فأجاب أب ذر: "اللهم اغفر.. انك لمعظّم للدنيا, ألست ترى عليّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة, ولي عنزة أحلبها, وأتان أركبها, فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟
 
  وجلس يوما يحدّث ويقول:
[أوصاني خليلي بسبع..
أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي..
وأمرني إلا أسأل أحد شيئا..
وأمرني أن أصل الرحم..
وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله].
 
  ولقد عاش هذه الوصية, وصاغ حياته وفقها, حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..
 
  ويقول الإمام علي رضي الله عنه:
"لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر"..!!
عاش يناهض استغلال الحكم, واحتكار الثروة..
عاش يدحض الخطأ, ويبني الصواب..
عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير..
يمنعونه من الفتوى, فيزداد صوته بها ارتفاعا, ويقول لمانعيه:
" والذي نفسي بيده, لو وضعتم السيف فوق عنقي, ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها"..!!
 
  ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه..
إذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها, وعرّضت المجتمع والإسلام لأخطار, ما كان أقساها من أخطار.
والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الإقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه, فتعالوا بنا إليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع, ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.
ان هذه السيدة السمراء الضامرة, الجالسة إلى جواره تبكي, هي زوجته..
وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟
فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت, وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!
".. لا تبكي, فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض, تشهده عصابة من المؤمنين..
وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية, ولم يبق منهم غيري .. وهاأنذا بالفلاة أموت, فراقبي الطريق,, فستطلع علينا عصابة من المؤمنين, فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
وفاضت روحه إلى الله..
ولقد صدق..
فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء, تؤلف جماعة من المؤمنين, وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.
وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت, وإلى جواره سيدة وغلام يبكيان..
ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد, ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان, حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والإسلام أبي ذر.
وتفيض عيناه بالدمع, ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك, وتموت وحدك, وتبعث وحدك".!
ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه  تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...
 
  كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة, وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم, الذين شرعوا يكيدون للإسلام ويأتمرون به.
وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين, تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة, فجعل الرجل يتخلف, ويقولون يا رسول الله تخلف فلان, فيقول:
" دعوه.
فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..
وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!
وتلفت القوم ذات مرة, فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:
لقد تخلف أبو ذر, وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول مقالته الأولى..
كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الإعياء خطاه..
وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد, ولكن الإعياء كان يلقي ثقله على البعير..
ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر, فنزل من فوق ظهر البعير, وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه, مهرولا, وسط صحراء ملتهبة, كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..
 
  وفي الغداة, وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا, بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
 
وقال الذي رأى: يا رسول الله, هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
(كن أبا ذر)..
 
وعادوا لما كانوا فيه من حديث, ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم, وعندها يعرفون من هو..
 
  وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا, وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة, ولم يتخلف عن رسول الله  وإخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة, صاح صائهحم: يارسول الله: انه والله أبا ذر..
وسار أبو ذر صوب الرسول.
ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية, وقال:
[يرحم الله أبا ذر..
يمشي وحده..
ويموت وحده..
ويبعث وحده..].
 
  وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد, مات أبو ذر وحيدا, في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده, وبطولة صموده..
 
  ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة, لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:01

سلمان الفارسى(الباحث عن الحقيقة)
اقتباس :
من بلاد فارس, يجيء البطل هذه المرة..
ومن بلاد فارس, عانق الإسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد, فجعل منهم أفذاذا لا يلحقون في الإيمان, وفي العلم.. في الدين, وفي الدنيا..
وإنها لإحدى روائع الإسلام وعظمائه, ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في إعجاز باهر, كل نبوغها ويحرج كل طاقاتها, ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فإذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسامون..
وإذا بهم يبزغون من كل أفق, ويطلعون من كل بلد, حتى تزدحم عصور الإسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل, والإرادة, والضمير.. أوطانهم شتى, ودينهم واحد..!!
ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا, بل وعد به وعدَ صدقٍ من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأيَ العين راية الإسلام تخفق فوق مدائن الأرض, وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وُثقى .
كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة, مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين, متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة, على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها, بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل, ومن وراء صفوف المسلمين, الذين سيقعون آنئذ بين شقي رحى تطحنهم, وتجعلهم ذكرى..!
وفوجئ الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين, وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف, فقال الله تعالى:
(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ). الأحزاب (10)
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه, وأصحابه..
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الإسلام خطرا عليها.
إنها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا, وجماعات, وقبائل, ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
وطبعا, أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين, الغزير الشعر, الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما, واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية, نظرة فاحصة على المدينة, فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة, ومهيأة, يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال, فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم , ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة, وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة, حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها, وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!
 
خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه, اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد الأسر, وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا, ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول, وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله, ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة, وهوى به على الصخرة, فإذا بها تنثلم, ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها, أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
"الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس, ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة, ومدائن كسرى, وان أمتي ظاهرة عليها"..
ثم رفع المعول, وهوت ضربته الثانية, فتكررت الظاهرة, وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع, وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:
"الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم, ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء, وان أمتي ظاهرة عليها".
ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها, وأضاء برقها الشديد الباهر, وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما, وصاح المسلمون في إيمان عظيم:
هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله..!!
كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير, حين استعان عليها برسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان قائما إلى جوار الرسول يرى الضوء, ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها, وواقعا يحياه, فرأى مدائن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!
وها هو ذا, جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أمام داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة, ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى المسيحية, ثم إلى الإسلام..
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ, ورمى نفسه في أحضان الفاقة, بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!
كيف بيع في سوق الرقيق, وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل, ونصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه..
 [كنت رجلا من أهل أصبهان, من قرية يقال لها "جي"..
وكان أبي دهقان أرضه.
وكنت من أحب عباد الله إليه..
وقد اجتهدت في المجوسية, حتى كنت قاطن النار التي نوقدها, ولا نتركها نخبو..
وكان لأبي ضيعة, أرسلني إليها يوما, فخرجت, فمررت بكنيسة للنصارى, فسمعتهم يصلون, فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون, فأعجبني ما رأيت من صلاتهم, وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه, فما برحتهم حتى غابت الشمس, ولا ذهبت إلى ضيعة أبي, ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري...
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم, فقالوا في الشام..
وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم, ورأيت أن دينهم خير من ديننا..
فحاذرني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام, أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم, وقد فعلوا, فحطمت الحديد وخرجت, وانطلقت معهم إلى الشام..
وهناك سألت عن عالمهم, فقيل لي هو الأسقف, صاحب الكنيسة, فأتيته وأخبرته خبري, فأقمت معه أخدم, وأصلي وأتعلم..
وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه, إذ كان يجمع الصدقات من الإنس ليوزعها, ثم يكتنزها لنفسه.
ثم مات..
وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه, فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه, ولا أعظم منه رغبة في الآخرة, وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..
وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى, فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
قال: أي بني, ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل..
فلما توفي, أتيت صاحب الموصل, فأخبرته الخبر, وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم, ثم حضرته الوفاة, سألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم, فرحلت إليه, وأقمت معه, واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
ثم حضرته الوفاة, فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه, آمرك أن تأتيه, ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا.. يهاجر إلى أرض ذات نخل بين جرّتين, فان استطعت أن تخلص إليه فافعل.
وان له آيات لا تخفى, فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة, إذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم, فسألتهم عن بلادهم, فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى, وهناك ظلموني, وباعوني إلى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير, فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي, والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.
وأقمت عند الرجل الذي اشتراني, حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة, فابتاعني منه, ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فو الله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
واني لفي رأس نخلة يوما, وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود, من بني عمه, فقال يخاطبه: قاتل الله بني قريظة   إنم ليتقاصفون على رجل بقباء, قادم من مكة يزعم أنه نبي..
فو الله ما إن قالها حتى أخذتني العرواء, فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا, أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة, ثم قال: مالك ولهذا..؟
أقبل على عملك..
فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه, فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة, وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة, فلما ذكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به..
ثم وضعته, فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا..
فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!
ثم رجعت وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة, أحمل طعاما, وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية, ووضعته بين يديه, فقال لأصحابه كلوا باسم الله..
وأكل معهم..
قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية..!!
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله, ثم أتيته, فوجدته في البقيع قد تبع جنازة, وحوله أصحابه وعليه شملتين مؤتزرا بواحدة, مرتديا الأخرى, فسلمت عليه, ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره, فعرف أني أريد ذلك, فألقى بردته عن كاهله, فإذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة, كما وصفه لي صاحبي..
فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه, وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..
ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك", فكاتبته, وأمر الرسول أصحابه كي يعاونوني. وحرر الله رقبتي, وعشت حرا مسلما, وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق, والمشاهد كلها. هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.
بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله, وترسم له دوره في الحياة..
فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان..؟
أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة, وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب فقهرتها, وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟
أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعاً مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه, ومشاقه, ينتقل من أرض إلى أرض.. ومن بلد إلى بلد.. ناصبا, كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس, والمذاهب والحياة.. ويظل في إصراره العظيم وراء الحق, وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى, فيجمعه بالحق, ويلاقيه برسوله, ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض, وعباده المسلمون يملؤون أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!
ماذا نتوقع أن يكون إسلام رجل هذه همته, وهذا صدقه؟
لقد كان إسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده, وفطنته, وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب.
أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.
وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم, وكان نافلة..
فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي, وأصلي له..؟ّ
فأجابه سلمان قائلا:
إن لعينك عليك حقا, وان لأهلك عليك حقا, صم وافطر, وصل ونم..
فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
" لقد أشبع سلمان علما ".
وكان الرسول عليه السلام يرى فطنته وعلمه كثيرا, كما كان يطري خلقه ودينه..
ويوم الخندق, وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..
وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".
وانه بهذا الشرف لجدير..
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:
[ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟
أوتي العلم الأول, والعلم الآخر, وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر, وكان بحرا لا ينزف].
ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.
ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا, فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا, إذ جمع أصحابه وقال لهم:
"هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا, ومجاهدا وعابدا.
وعاش مع خليفته أبي بكر, ثم أمير المؤمنين عمر, ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.
وفي معظم هذه السنوات, كانت رايات الإسلام تملأ الأفق, وكانت الكنوز والأموال تحمل إلى المدينة فيئا وجزية, فتورّع الأنس في صورة أعطيت منتظمة, ومرتبات ثابتة.
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها, فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟
افتحوا أبصاركم جيدا..
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
انه سلمان..
انظروه جيدا..
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد إلى ركبته..
انه هو, في جلال مشيبه, وبساطة اهابه.
لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام, بيد أنه كان يوزعه جميعا, ويرفض أن يناله منه درهم واحد, ويقول:
"أشتري خوصا بدرهم, فأعمله, ثم أبيعه بثلاثة دراهم, فأعيد درهما فيه, وأنفق درهما على عيالي, وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!
ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
ثم ماذا يا شرف الإنسانية في كل عصورها ومواطنها..؟؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم, مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر وإخوانهم, أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية, ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم, ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
ما باله يرفض إمارة ويهرب منها ويقول:
"إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
ما باله يهرب من الإمارة والمنصب, إلا أن تكون إمارة على سريّة ذاهبة إلى الجهاد.. وألا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه, فيكره عليها إكراها, ويمضي إليها باكيا وجلا..؟
ثم ما باله حين يلي على الإمارة المفروضة عليه فرضا يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال..؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن:
" كان عطاء سلمان خمسة آلاف, وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها, ويلبس نصفها.."
"وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه, ويأكل من عمل يديه..".
ما باله يصنع كل هذا الصنيع, ويزهد كل ذلك الزهد, وه الفارسي, ابن النعمة, وربيب الحضارة..؟
لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان:
" والله ما أبكي جزعا من الموت, ولاحرصا على الدنيا, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا, فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب, وهاأنذا حولي هذه الأساود"!!
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
قال سعد فنظرت, فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة, فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك, فقال:
" يا سعد:
اذكر عند الله همّتك إذا هممت..
وعند حكمتك إذا حكمت..
وعند يدك إذا قسمت.."
هذا هو إذن الذي ملأ نفسه غنى, بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها, ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه والى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم, وألا يأخذ أحدهم منها إلا مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل, مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله إلا جفنة يأكل فيها, ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟
وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن, لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الإمارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس إلا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه, فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم, حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله, حتى إذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه, وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.
وإذ هما على الطريق بلغا جماعة من الإنس, فسلم عليهم, فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..
وعلى الأمير السلام..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها الأمير..!!
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي, فسقط في يده, وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه, واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
" لا, حتى أبلغك منزلك"..!!
سئل يوما: ما الذي يبغض الإمارة إلى نفسك.؟
فأجاب: " حلاوة رضاعها, ومرارة فطامها"..
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته, فإذا هو يعجن, فيسأله:
أين الخادم..؟
فيجيبه قائلا:
" لقد بعثناها في حاجة, فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."
وحين نقول بيته فلنذكر تماما, ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا, سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا, يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. إنها بناية تستظل بها من الحر, وتسكن فيها من البرد, إذا وقفت فيها أصابت رأسك, وإذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!
فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".
لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن إليه سلمان لحظة, أو تتعلق به نفسه إثارة, إلا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص, ولقد ائتمن عليه زوجته, وطلب إليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه, ناداها:
"هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!
فجاءت بها, وإذا هي صرة مسك, كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه, ثم ماثه بيده, وقال لزوجته:
"انضحيه حولي.. فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله, لا يأكلون الطعام, وإنما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها:" اجفي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت إليه, فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالملأ الأعلى, وصعدت على أجنحة الشوق إليه, إذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد, وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.
--
لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان..
وآن اليوم أن يرتوي, وينهل..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:09

عبد الله بن رواحة(يانفس..الا تقتلى تموتى)
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشارف مكة, يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى, كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء, حملة الإسلام إلى المدينة, والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله, والإسلام..
وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية, كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...
   وبعد هجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة واستقرارهم بها, كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه, وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الإسلام إليها, والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة, فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للإسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرة منيرة, أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته, وشلّت حركة دهائه..!!
وكان ابن رواحة رضي الله عنه, كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة إلا يسيرا..
وكان شاعرا, ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..
ومنذ أسلم, وضع مقدرته الشعرية في خدمة الإسلام..
وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..
 
  جلس عليه السلام يوما مع أصحابه, وأقبل عبدالله بن رواحة, فسأله النبي:
" كيف تقول الشعر إذا أردت أن نقول"..؟؟
فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول"..
ومضى على البديهة ينشد:
                                يا هاشم الخير إن الله فضّلكـــــــم               على البريّــــــــــــــة فضلا ما له غير
                                إني تفرّست فيك الخير أعرفـــــــه               فراســــــــة خالفتهم في الذي نظروا
                                ولو سألت أو استنصرت بعضهمو               في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصــــــروا
                                فثّبت الله ما آتــــــــــاك  من حسن                تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
 
  فسرّ الرسول ورضي وقال له:
" وإياك, فثّبت الله"..
وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء
كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:
                                يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا                  ولا تصدّقنــــــــــــا ولا صلينا
                                فأنزلن سكينــــــــــة علينا                  وثبّت الأقدام إن لاقينـــــــــــا
                              
وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..
وحزن الشاعر المكثر, حين تنزل الآية الكريمة:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ)..الشعراء (224)
ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:
( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)الشعراء (227)
  
  وحين يضطر الإسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه, يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:
" يا نفس إلا تقتلي تموتي"..
وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:
خلوا بني الكفار عن سبيله                 خلوا, فكل الخير في رسوله
  
  وجاءت غزوة مؤتة..
وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء, كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..
ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..
وقف ينشد ويقول:
                            لكنني أســـــأل الرحمن مغفرة                وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا
                            أو طعنـــة بيدي حرّان مجهرة                بحربــــــة تنفد الأحشاء والكبدا
                            حتى يقال إذا مرّوا على جدثي                يا أرشد الله من غاز, وقد رشدا
 
أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أو طعنة رمح, تنقله إلى عالم الشهداء والظافرين..!!
 
وتحرّك الجيش إلى مؤتة, وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل, إذ رأوا صفوفا لا آخر لها, وأعداد تفوق الحصر والحساب..!!
ونظر المسلمون إلى عددهم القليل, فوجموا.. وقال بعضهم:
" فلنبعث إلى رسول الله, نخبره بعدد عدوّنا, فإما أن يمدّنا بالرجال, وإمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع"..
بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار, وقال لهم:
" يا قوم..
إنا والله, ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..
فانطلقوا.. فإنما هي إحدى الحسنيين, النصر أو الشهادة"...
وهتف المسلمون الأقلون عددا, الأكثرون إيمانا,..
هتفوا قائلين:
"قد والله صدق ابن رواحة"..
ومضى الجيش إلى غايته, يلاقي بعدده القليل مائتي ألف, حشدهم الروم للقتال الضاري الرهيب...
 
  والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..
وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..
وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..
وتلاه ثالث الأمراء عبدالله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته, وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب, الذي حشده هرقل..
وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي, كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..
أما الآن, وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته, فقد بدا أمام ضراوة الروم, وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب, لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..
 
                                أقسمت يا نفس لتنزلنّــه               مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟
                                يا نفس إلا تقتلي تموتي               هذا حمام الموت قد صليت
                                وما تمنّت فقد أعطيــــت               إن تفعلي فعلهما هديــــــت
يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه إلى الشهادة: زيدا وجعفر..
"إن تفعلي فعلهما هديت.
  انطلق يعصف بالروم عصفا..
ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة, لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة إلى الله, فصعد شهيدا..
هوى جسده, فصعدت إلى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..
وتحققت أغلى أمانيه:
حتى يقال إذا مرّوا على جدثي                 يا أرشد الله من غار, وقد رشدا
نعم يا ابن رواحة..
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!
 
  وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة, يحادثهم ويحادثونه..
وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!
وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:
"أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..
وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:
" ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..
ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل, مطمئن, مشتاق. ثم قال:
" لقد رفعوا إلى الجنة"..!!
أيّة رحلة مجيدة كانت..
وأي اتفاق سعيد كان..
لقد خرجوا إلى الغزو معا..
وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة, كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد رفعوا إلى الجنة"..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:11

عبد الله بن عمر(المثابر الأواب)
  تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:
"لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فما نكثت ولا بدّلت إلى يومي هذا..
وما بايعت صاحب فتنة..
ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..
وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين, والذي بدأت علاقته بالإسلام والرسول, وهو في الثالثة عشر من العمر, حين صحب أباه في غزوة بدر, راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان, لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..
من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته إلى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والإسلام..
 
  ومن ذلك اليوم إلى اليوم الذي يلقى فيه ربه, بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما, سنجد فيه حيثما نلقاه, المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة, ولا يند عن بيعة بايعها, ولا يخيس بعهد أعطاه..
وان المزايا التي تأخذ الأبصار إلى عبدالله بن عمر لكثيرة.
فعلمه وتواضعه, واستقامة ضميره ونهجه, وجوده, وورعه, ومثابرته, على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..
كل هذه الفضائل والخصال, صاغ ابن عمر عمره منها, وشخصيته الفذة, وحياته الطاهرة الصادقة..
لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..
لقد أحسن كأبيه الإيمان بالله ورسوله.. ومن ثم, كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..
فهو ينظر, ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر, فيحاكيه في دقة وإخبات..
هنا مثلا, كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما, فيدعو ابن عمر قائما...
وهنا كان الرسول يدعو جالسا, فيدعو عبدالله جالسا..
وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته, وصلى ركعتين, فصنع ابن عمر ذلك إذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..
 
  بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة, قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها, ويصلي ركعتين, وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
لكن عبدالله بن عمر لا يكاد يبلغ  ها المكان يوما حتى يدور بناقته, ثم ينيخها, ثم يصلي ركعتين للله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..
 
  ولقد أثار فرط إتباعه هذا, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله, كما كان يتبعه ابن عمر".
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق, حتى لقد جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني, كي أقتدي به, فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".
 
  وبقوة هذا التحري الشديد لخطى الرسول وسنته, كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا إلا إذا كان ذاكرا كل حروفه, حرفا.. حرفا.
وقد قال معاصروه..
"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه, من عبدالله بن عمر"..!!
 
  وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..
جاءه يوما رجل يستفتيه, فلما ألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:
" لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله, ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم, فقال لا أعلم"..!
كان يخاف أن يجتهد في فتياه, فيخطئ في اجتهاده, وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم, للمخطئ أجر وللمصيب أجرين, فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.
وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..
لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمع, وكانت تضمن لشاغرها ثراء, وجاها, ومجدا..
ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء, وللجاه, وللمجد..؟!
 
  دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما, وطلب إليه أن يشغل منصب القضاة, فاعتذر.. وألح عليه عثمان, فثابر على اعتذاره..
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..
قاض يقضي بجهل, فهو في النار..
وقاض يقضي  بهوى,  فهو في النار..
وقاض يجتهد ويصيب, فهو كفاف, لا وزر, ولا أجر..
واني لسائلك بالله أن تعفيني"..
وأعفاه عثمان, بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس, وانه ليخشى إذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه, وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..
 
  وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.
بيد أنه ليس كذلك, فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين, وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..
ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء, ولا إلقاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه, ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة, والمزيد من العبادة..
 
  كما أنه في ذلك الحين من حياة الإسلام, كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال, وكثرت المناصب والإمارات.
وشرع إغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة, مما جعل بعض أصحاب الرسول, ومنهم ابن عمر, يرفعون راية المقاومة لهذا الإغراء باتخاذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المناصب الكبيرة, وقهر فتنتها وإغرائها...
  
  لقد كان ابن عمر,أخا الليل, يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..
ولقد رأى في شبابه رؤيا, فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله, ومناط غبطته وحبوره..
 
  ولنصغ إليه يحدثنا  عن نبأ رؤياه:
"رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة إستبرق, وكأنني لا أريد مكانا في الجنة إلا طارت بي إليه..
ورأيت كأن اثنين أتياني, وأرادا أن يذهبا بي إلى النار, فتلقاهما ملك فقال: لا ترع, فخليّا عني..
فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله, لو كان يصلي من الليل فيكثر"..
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه, لم يدع قيام الليل في حله, ولا في ترحاله..
فكان يصلي ويتلو القرآن, ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه, تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.
 
  يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) )..(النساء)
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين إخوانه فقرا:
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))..( المطففين )
ثم مضى يردد الآية:
( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)).( المطففين )
ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!
  
  ولقد كان جوده, وزهده, وورعه, تعمل معا في فن عظيم, لتشكل أروع فضائل هذا الإنسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..
ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..
ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا, لأنه زاهد..!!
 
  وكان ابن عمر رضي الله عنه, من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة, إذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته, وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط, إنما كان يرسله غدقا على الفقراء, والمساكين والسائلين..
يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته, فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة..
وفي اليوم التالي, رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..
فذهب ابن وائل إلى أهل بيته وسألهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف وقطيفة..؟
قالوا: بلى..
قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..
قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها, ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره, خرج.. ثم عاد وليست معه, فسألناه عنها. فقال: انه وهبها لفقير..!!
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقف مكانا عاليا, وصاح في الناس:
" يا معشر التجار..
ما تصنعون بالدنيا, وهذا بن عمر تأتيه ألف درهم فيوزعها, ثم يصبح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!
 
  ألا إن من كان محمد أستاذه, وعمر أباه, لعظيم, كفء لكل عظيم..!!
إن وجود عبد الله بن عمر, وزهده  وورعه, هذه الخصال الثلاثة, كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..
فما كان لمن  يمعن في التأسي برسول الله, حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!
والذي يذهب برأيه في بر أبيه وتوقيره والإعجاب به إلى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء, فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..
أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول, ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..
ولقد كانت الأموال تأتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..
ولم يكن جوده سبيلا إلى الزهو, وإلا إلى حسن الأحدوثة.
ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام, أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه, حين يولمون للأغنياء, ولا يأتون معهم بالفقراء, ويقول لهم:
 
"تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!
 
  وعرف الفقراء عطفه, وذاقوا حلاوة بره وحنانه, فكانوا يجلسون في طريقه, كي يصحبهم إلى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!
  
  لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا,,
وكان وسيلة لضرورات العيش لا للترف..
ولم يكن ماله وحده, بل كان للفقراء فيه حق معلوم, بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..
ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا, ولا يسعى إليها, بل ولا يرجو منها إلا ما كان يستر الجسد من لباس, ويقيم الأود من الطعام..
 
  أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة, وقال له:
لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان, وانه لتقر عيناي, إذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه, وترتدي هذا الثوب الجميل..
قال له ابن عمر: أرنيه إذن..
ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟
 
قال صاحبه: لا .. انه قطن.
وتملاه عبد الله قليلا, ثم دفعه بيمينه وهو يقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف إن يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!
 
  وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..
وسأله ابن عمر: ما هذا؟
قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.
قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟
قال: يهضم الطعام..
فالتفت ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ إني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!
 
  إن هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما, لم يكن يترك الشبع خصاصة, بل زهدا وورعا, ومحاولة للتأسي برسوله وأبيه..
كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:
(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..
 
  وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل..
ولقد تحدث عن نفسه قائلا:
"ما وضعت لبنة على لبنة, ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
ويقول ميمون بن مهران:
" دخلت على ابن عمر, فقوّمت كل شيء في بيته من فراش, ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه, فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!
لم يكن ذلك عن فقر فقد كان ابن عمر ثريا..
ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..
بل كان عن زهد في الدنيا, وازدراء للترف, والتزام لمنهجه في الصدق والورع..
ولقد عمّر ابن عمر طويلا, وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع, وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..
ومع هذا, بقي  ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا, لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.
وإذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:
"لقد اجتمعت وأصحابي على أمر, واني أخاف إن خالفتهم ألا ألأحق بهم"..
ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا, فيرفع يده إلى السماء ويقول:
"اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".
 
أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا, ولكان من الظافرين..
بل انه لم يكن بحاجة إلى أن يزاحم, فقد كانت الدنيا تسعى إليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..
وهل هناك كمنصب الخلافة إغراء..؟
لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا, وعنه إعراضا..!!
 
  يقول الحسن رضي الله عنه:
" لما قتل عثمان بن عفان, قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس, وابن سيد الناس, فاخرج نبايع لك الناس..
قال: إن والله لئن استطعت, لا يهراق بسببي محجمة من دم..
قالوا: لتخرجن, أ, لنقتلنك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..
فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!
 
  وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر, والفتن تكثر, كان ابن عمر دوما هو الأمل, فيلح الناس عليه, كي يقبل منصب الخلافة, ويجيئوا له بالبيعة, ولكنه كان دائما يأبى..
ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه إلى ابن عمر..
بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه, ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..
 
  وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة, فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها, ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين, مختارين, أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف, فهذا ما يرفضه, ويرفض الخلافة معه..
وآنئذ, لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله, وإجماع المسلمين على حبه وتوقيره, فان اتساع الأمصار, وتنائيها, والخلافات التي احتدمت  بين المسلمين, وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب, وتتنادى للسيف, لم يجعل الجو مهيأ لهذا الإجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..
 
  لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!
قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم, ولا فرقت جماعتهم, ولا شققت عصاهم..
قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..
قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني, ورجل يقول: لا, وآخر يقول: نعم.
 
  وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا, واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..
حتى في ذلك اليوم, وابن عمر شيخ مسن كبير, كان لا يزال أمل الناس, وأمل الخلافة.. فقد ذهب إليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك, فانك سيد العرب وابن سيدها..
قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..
قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما, ويقتل بسببي رجل واحد"..!!
فانصرف عنه  مروان وهو ينشد:
                                إني أرى فتنة تغلي مراجلها             والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
يعني بأبي ليلى, معاوية بن يزيد...
  
 هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف, هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية, موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:
"من قال حي على الصلاة أجبته..
ومن قال حي على الفلاح أجبته..
ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!
ولكنه في عزلته تلك وفي حياده, لا يمالئ باطلا..
فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه بتحديات أوجعته وأربكته..
حتى توعده بالقتل, وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!
 
  وذات يوم, وقف الحجاج خطيبا, فقال:" إن ابن الزبير حرّف كتاب الله"!
فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت, كذبت, كذبت".
وسقط في يد الحجاج, وصعقته المفاجأة, وهو الذي يرهبه كل شيء, فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..
ولوح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج, وأجابه الناس منبهرون:" إن تفعل ما تتوعد به فلا عجب, فانك سفيه متسلط"..!!
ولكنه برغم قوته وجرأته ظل إلى آخر أيامه, حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب, رافضا أن ينحاز لأي فريق...
يقول أبو العالية البراء:
" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر, وهو لا يشعر بي, فسمعته يقول لنفسه:
" واضعين سيوفهم على عواتقهم, يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر, أعط يدك"..؟!
 
  وكان ينفجر أسى وألما, حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!
ولو استطاع أن يمنع القتال, ويصون الدم لفعل, ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.
ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه, بل وكان معه يقينه فيما يبدو, حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:
" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلا أني لم أقاتل مع عليّ, الفئة الباغية"..!!
 
 على أنه حين رفض أن يقاتل مع الإمام علي الذي كان الحق له, وكان الحق معه, فانه لم يفعل ذلك هربا, وإلا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله, والفتنة كلها, وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك, بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..
ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن, أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنت وأنت, فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟
فأجابه قائلا:
" يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم, لقد قال عز وجل: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) ( البقرة )
ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله,أما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن إلى الباب, حتى نضاها الله من أرض العرب..
أفأقاتل اليوم من يقول لا اله إلا الله".؟!
هكذا كان منطقه, وكانت حجته, وكان اقتناعه..
 
  فهو إذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه, لاهروبا, أو سلبية, بل رفضا لإقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة, واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..
ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين, وفاضت الأموال, وكثرت المناصب, واستشرت المطامح والرغبات..
 
  لكن قدرته النفسية الهائلة, غيّرت كيمياء الزمن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة إليه, أيام زهد, وورع ويلام, عاشها المثابر الأواب بكل يقينه, ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الإسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..
لقد تغيّرت طبيعة الحياة, مع بدء العصر الأموي, ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ, عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب إليه مطامح الدولة فحسب, بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.
ووسط لجج الإغراء, وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع, وبمغانمه, ومباهجه, كان ابن عمر يعيش مع فضائله, في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا:
( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
 
  بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله, أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:
( كان عمر في زمان له فيه نظراء, وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها, أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..
  
  وفي العام الثالث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب, ورفعت إحدى سفن الأبدية مراسيها, مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى, حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب.  كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه, توفي بالبصرة, عام واحد وتسعين, وقيل عام ثلاث وتسعين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:14

عبد الرحمن بن عوف(ما يبكيك يا أبا محمد)
ذات يوم, والمدينة ساكنة هادئة, أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف, راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.
ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة, فاندفعت تقترب من أبواب المدينة, وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها, لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
ولم يمض وقت غير وجيز, حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا, ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل, وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..
 
  وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وقد تردد إلى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟
وأجيبت: إنها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..
قالت أم المؤمنين:
قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
أجل يا أم المؤمنين.. إنها سبعمائة راحلة..!!
وهزت أم المؤمنين رأسها, وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا, كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته, أو حديث سمعته..
"أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..
  
  عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة إليه, فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة, وبأكثر من صيغة.
وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته, حث خطاه إلى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..
 
  ثم قال:
" أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها, وأقتابها, وأحلاسها, في سبيل الله عز وجل"..
ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برّ عظيم..!!
هذه الواقعة وحدها, تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
فهو التاجر الناجح, أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
وهو الثري, أكثر ما يكون الثراء وفرة وإفراطا..
وهو المؤمن الأريب, الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين, ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الإيمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!
  
  متى وكيف دخل هذا العظيم الإسلام..؟
لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة, وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..
فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام..
عرض عليه أبوبكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص, فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك, بل سارعوا مع الصدّيق إلى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.
ومنذ أسلم إلى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره, وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم, مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة  الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".
وفور إسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب, ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..
وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد إلى مكة, ثم هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر إلى المدينة.. وشهد بدرا, وأحدا, والمشاهد كلها..
   وكان محظوظا في التجارة إلى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
" لقد رأيتني, لو رفعت حجرا, لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!
ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..
بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..
كلا..
إنما كانت عملا, وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس, ومزيدا من السعي..
وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة, تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..
فهو إذا لم يكن في المسجد يصلي, ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا, حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر, ومن الشام, محملة بكل ما تحتاج إليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه, مسلكه غداة هجر المسلمين إلى المدينة..
لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه, أحدهما مهاجر من مكة, والآخر أنصاري من المدينة.
وكانت هذه المؤاخاة تم على نسق يبهر الألباب, فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه, فإذا كان تزوجا باثنين طلق إحداهما, ليتزوجها أخوه..!!
ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف, وسعد بن الربيع..
ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:
" .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي, أنا أكثر أهل المدينة مالا, فانظر شطر مالي فخذه!!
وتحتي امرأتان, فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها, وتتزوجها..!
فقال له عبدالرحمن بن عوف:
بارك الله لك في أهلك ومال..
دلوني على السوق..
وخرج إلى السوق, فاشترى.. وباع.. وربح"..!!
وهكذا سارت حياته في المدينة, على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته, أداء كامل لحق الدين, وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة, لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
ومما جعل تجارته ناجحة مباركة, تحرّيه الحلال, ونأيه الشديد عن الحرام, بل عن الشبهات..
كذلك مما زادها نجاحا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى, يصل به أهله, وإخوانه, ويجهّز به جيوش الإسلام..
 
  وإذا كانت الجارة والثروات, إنما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف إنما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
لقد سمع رسول الله يقول له يوما:
" يا بن عوف انك من الأغنياء..
وانك ستدخل الجنة حبوا..
فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
ومن سمع هذا النصح من رسول الله, وهو يقرض ربه قرضا حسنا, فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار, ثم فرّقها في أهله من بني زهرة, وعلى أمهات المؤمنين, وفقراء المسلمين.
وقدّم يوما لجيوش الإسلام خمسمائة فرس, ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة.
وعند موته, أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله, وأوصى  لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار, حتى إن عثمان بن عفان رضي الله عنه, أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" إن مال عبدالرحمن حلال صفو, وان الطعمة منه عافية وبركة".
  
  كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..
وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
بل هو يجمعه هونا, ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه وإخوانه ومجتمعه كله.
ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
" أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.
" ثلث يقرضهم..
وثلث يقضي عنهم ديونهم..
وثلث يصلهم ويعطيهم.."
ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه, لو لم يمكّنه من مناصرة دينه, ومعاونة إخوانه.
أما بعد هذا, فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
جيء له يوما بطعام الإفطار, وكان صائما..
فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
" استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني, فكفّن في بردة إن غطت رأسه, بدت رجلاه, وان غطت رجلاه بدا رأسه.
واستشهد حمزة وهو خير مني, فلم يوجد له ما يدفن فيه إلا بردة.
ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط, وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده.
وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟
قال:
" لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه, ما استطاع أن يميزه من بينهم..!!
لكن إذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه, فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة, وان إحدى هذه الإصابات تركت عرجا دائما في إحدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..
عندئذ لا غير, يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة, المضيء الوجه, الرقيق البشرة, الأعرج, الأهتم من جراء إصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!
رضي الله عنه وأرضاه..
  
  لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...
أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه, ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..
فإذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا, رأينا إنسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها إلى سموّ فريد..!
 
حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة, ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..
ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة, فقال:
" والله, لأن تؤخذ مدية, فتوضع في حلقي, ثم ينفذ بها إلى الجانب الآخر أحب إلي من ذلك"..!!
 
  وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ إخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..
وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء, فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم, وقال الإمام علي:
" لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء, وأمين في أهل الأرض"..
واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة, فأمضى الباقون اختياره.
  
  هذه حقيقة رجل ثري في الإسلام..
فهل رأيتم ما صنع الإسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته, وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة, يجود بأنفاسه..
وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه, فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها إلى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..
ولكنه مسلم أحسن الإسلام تأديبه, فيستحي أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار...!!
ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون, إذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه..
  
  وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمع ولسانه يتمتم ويقول:
" إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته, فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
لعله آنئذ, كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:
 
" عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..
ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
( ّالّذيِنَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262))..(البقرة )
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:16

عبد الله بن عباس (حبر هذة الأمة)

يشبه ابن عباس, عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام, ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.
لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة, ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره, ويزكيه, ويعلّمه الحكمة الخالصة.
وبقوة إيمانه, وقوة خلقه, وغزارة علمه, اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.
  
  هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم, عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة, هيأه لهذا اللقب, ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه, واتساع معارفه.
لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم, والمعرفة.
وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.
 
  فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله, فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
وبعد ذهاب الرسول إلى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
هنالك, جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة, أو يحفظ حديثا, إلا سارع إليه وتعلم منه..
وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب, بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..
يقول عن نفسه:
" إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد, ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويعطينا صورة لحرصه على إدراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:
" لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله, فإنهم اليوم كثير.
فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون إليك, وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
فترك ذلك, وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل, فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة, فأتوسّد ردائي على بابه, يسفي الريح عليّ من التراب, حتى ينتهي من مقيله, ويخرج فيراني, فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت إلي فآتيك..؟؟ فأقول لا, أنت أحق بأن أسعى إليك, فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
هكذا راح فتانا العظيم يسأل, ويسأل, ويسأل.. ثم يفحص الإجابة مع نفسه, ويناقشها بعقل جريء.
وهو في كل يوم, تنمو معارفه, وتنمو حكمته, حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم, وحصافتهم, وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!
سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
فأجاب:
" بلسان سؤول..
وقلب عقول"..
فبلسانه المتسائل دوما, وبعقله الفاحص أبدا, ثم بتواضعه ودماثة خلقه, صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..
ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
" ما رأيت أحدا أحضر فهما, ولا أكبر لبّا, ولا أكثر علما, ولا أوسع حلما من ابن عباس..
ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات, وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس, ولا يجاوز عمر قوله"..
وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
" ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..
ولا رأيت أحدا, أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..
ولا أفقه في رأي منه..
ولا أعلم بشعر ولا عربية, ولا تفسير للقرآن, ولا بحساب وفريضة منه..
ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..
وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له, ولا سائلا إلا وجد عنده علما"..!!
  
  ووصفه مسلم من أهل البصرة, وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للإمام عليّ ابن أبي طالب, فقال:
" انه آخذ بثلاث, تارك لثلاث..
آخذ بقلوب الرجال إذا حدّث..
وبحسن الاستماع إذا حدّث..
وبأيسر الأمرين إذا خولف..
وتارك المراء..
ومصادقة اللئام..
وما يعتذر منه"..!!
  
  وكان تنوّع ثقافته, وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم, ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة, يأتيه الناس أفواجا من أقطار الإسلام, ليسمعوا منه, وليتفقهوا عليه..
حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
" لقد رأيت من ابن عباس مجلسا, لو أن جميع قريش فخرت به, لكان لها به الفخر..
رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق, فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه, فقال لي: ضع لي وضوءا, فتوضأ وجلس وقال: أخرج إليهم, فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سالوا عن شيء إلا اخبرهم وزاد..
ثم قال لهم: إخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..
فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم..
ثم قال: إخوانكم.. فخرجوا..
ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض, فآذنتهم, فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم..
ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية, والشعر..
فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم"!!
 
  وكان ابن عباس يمتلك إلى جانب ذاكرته القوية, بل الخارقة, ذكاء نافذا, وفطنة بالغة..
كانت حجته كضوء الشمس ألقا, ووضوحا, وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه, لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب, بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
ومع غزارة علمه, ونفاذ حجته, لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء, يزهو فيها بعلمه, ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..
ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..
بعث به الإمام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم إلى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..
ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..
سألهم ابن عباس:
" ماذا تنقمون من عليّ..؟"
قالوا:
" ننتقم منه ثلاثا:
أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله, والله يقول إن الحكم إلا لله..
والثانية: أنه قاتل, ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم, فلئن كانوا كفارا, فقد حلّت أموالهم, وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, استجابة لأعدائه, فان لم يكن أمير المؤمنين, فهو أمير الكافرين.."
وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
" أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله, فأيّ بأس..؟
إن الله يقول: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ....)    المائدة (95)
فنبؤوني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى, أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!
وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
" وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم, فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا, ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟
وهنا كست وجوههم صفرة الخجل, وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..
وانتقل ابن عباس إلى الثالثة:
" وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, حتى يتم التحكيم, فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية, إذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش, فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..
فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله إني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: اكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا, معلنين اقتناعهم, ومعلنين خروجهم من خصومة الإمام عليّ..!!
 
  ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر, من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.
فهو في جوده وسخائه إمام وعلم..
انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!
ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
" ما رأينا بيتا أكثر طعاما, ولا شرابا, ولا فاكهة, ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
وهو طاهر القلب, نقيّ النفس, لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
وهوايته التي لا يشبع منها, هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..
يقول عن نفسه:
" إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل, ويحكم بالقسط, فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
وإني  لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به, ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"
 
  وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل, ويصوم من الأيام, ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه, إذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
فإذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد, وذكر الموت, والبعث علا نشيجه ونحيبه.
 
  وهو إلى جانب هذا شجاع, أمين, حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته, وسعة حيلته.
وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..
عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج إلى العراق ليقاتل زيادا, ويزيد, تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده, أقضّه الحزن عليه, ولزم داره.
وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم, لم تكن تجد ابن عباس إلا حاملا راية السلم, والتفاهم واللين..
صحيح أنه خاض المعركة مع الإمام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة, تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.
 
  وعاش ابن عباس يملأ دنياه علما وحكمة, وينشر بين الناس عبيره وتقواه..
وفي عامه الحادي والسبعين, دعي  للقاء  ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف إلى الجنان.
وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره, كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ) الفجر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:18

عبد الله بن الزبير(أى رجل..وأى شهيد)

كان جنينا مباركا في بطن أمه, وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة إلى المدينة على طريق الهجرة العظيم.
هكذا قدّر لعبدالله بن الزبير أن يهاجر مع المهاجرين وهو لم يخرج إلى الدنيا بعد, ولم تشقق عنه الأرحام..!!
وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها وأرضاها, تبلغ قباء عند مشارف المدينة, حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين إلى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من أصحاب رسول الله..!!
وحمل أول مولود في الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بالمدينة فقبّله وحنّكه, وكان أول شيء دخل جوف عبدالله بن الزبير ريق النبي الكريم.
واحتشد المسلمون في المدينة, وحملوا الوليد في مهده, ثم طوّفوا به في شوارع المدينة كلها مهللين مكبّرين.
ذلك أن اليهود حين نزل الرسول وأصحابه المدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم, وبدأوا حرب الأعصاب ضد المسلمين, فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا المسلمين وسلطوا عليهم العقم, فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا..
فلما أهلّ عبدالله بن الزبير عليهم من عالم الغيب, كان وثيقة دمغ بها القدر إفك يهود المدينة وأبطل كيدهم وما يفترون..!!
إن عبدالله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنه تلقى من ذلك العهد, ومن الرسول نفسه بحكم اتصاله الوثيق به, كل خامات رجولته ومبادئ حياته التي سنراها فيما بعد ملء الدنيا وحديث الناس..
لقد راح الطفل ينمو نموّا سريعا, وكان خارقا في حيويته, وفطنته وصلابته..
وارتدى مرحلة الشباب, فكان شبابه طهرا, وعفة ونسكا, وبطولة تفوق الخيال..
ومضى مع أيامه وقدره, لا تتغيّر خلائقه  .. إنما هو رجل يعرف طريقه, ويقطعه بعزيمة جبارة, وإيمان وثيق وعجيب..
  
  وفي فتح افريقية والأندلس, والقسطنطينية. كان وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الخالدين..
وفي معركة افريقية بالذات وقف  المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا..
ودار القتال, وغشي المسلمين خطر عظيم..
وألقى عبد الله بن الزبير نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوتهم. وما كان هذا المصدر سوى ملك البربر وقائد الجيش, يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم إلى الموت دفعا عجيبا..
وأدرك عبدالله أن المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد..
ولكن أين السبيل إليه, ودون بلوغه جيش لجب, يقاتل كالإعصار..؟؟
بيد أن جسارة ابن الزبير وإقدامه لم يكونا موضع تساؤل قط..!!
هنالك نادى بعض إخوانه, وقال لهم:
" احموا ظهري, واهجموا معي"...
وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم صامدا نحو القائد, حتى إذا بلغه, هو عليه في كرّة واحدة فهوى, ثم استدار بمن معه إلى الجنود الذين كانوا يحيطون بملكهم وقائدهم فصرعوهم.. ثم صاحوا الله أكبر..
ورأى المسلمون رايتهم ترتفع, حيث كان يقف قائد البربر يصدر أوامره ويحرّض جيشه, فأدركوا أنه النصر, فشدّوا شدّة رجل واحدة, وانتهى كل شيء لصالح المسلمين..
وعلم قائد الجيش المسلم عبدالله بن أبي سرح بالدور العظيم الذي قام به ابن الزبير فجعل مكافأته أن يحمل بنفسه بشرة النصر إلى المدينة والى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه..
  
  على أن بطولته في القتال كانت برغم تفوقها وإعجازها تتوارى أمام بطولته في العبادة.
فهذا الذي يمكن أن يبتعث فيه الزهو, وثني الأعطاف, أكثر من سبب, يذهلنا بمكانه الدائم والعالي بين الناسكين العابدين..
فلا حسبه, ولا شبابه, ولا مكانته ورفعته, ولا أمواله ولا قوته..
لا شيء من ذلك كله, استطاع أن يحول بين عبدالله بن الزبير وبين أن يكون العابد الذي يصوم يومه, ويقوم ليله, ويخشع لله خشوعا يبهر الألباب.
قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:صف لنا عبدالله بن الزبير..فقال:
" والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..
ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها..
وكان يركع أو يسجد, فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله,
لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا, أو ثوبا مطروحا..
ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي, فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها, ولا قطع من أجلها قراءته, ولا تعجل ركوعه"..!!
 
  إن الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبير لشيء يشبه الأساطير..
فهو في صيامه, وفي صلاته, وفي حجه, وفي علوّ همّته, وشرف نفسه..
في سهره طوال العمر قانتا وعبدا..
وفي ظمأ الهواجر طوال عمره صائما مجاهدا..
وفي إيمانه الوثيق بالله, وفي خشيته الدائمة له..
هو في كل هذا نسيج وحده..!
سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خلاف:
" كان قارئا لكتاب الله, متبعا سنة رسوله.. قانتا لله, صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه فالا من أعماه الله"..!!
 
  وهو في قوة خلقه وثبات سجاياه, يزري بثبات الجبال..
واضح شريف قوي, على استعداد دائم لأن يدفع حياته ثمنا لصراحته واستقامة نهجه..
 
أثناء نزاعه مع الأمويين زاره الحصين بن نمير قائد الجيش الذي أرسله يزيد لإخماد ثورة بن الزبير..
زاره اثر وصول الأنباء إلى مكة بموت يزيد..
وعرض عليه أن يذهب معه إلى الشام, ويستخدم الحصين نفوذه العظيم هناك في أخذ البيعة لابن الزبير..
فرفض عبدالله هذه الفرصة الذهبية,لأنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام جزاء الجرائم البشعة التي ارتكبها رجاله من خلال غزوهم الفاجر للمدينة, خدمة لأطماع الأمويين..
قد نختلف مع عبدالله في موقفه هذا, وقد نتمنى لو أنه آثر السلام والصفح, واستجاب للفرصة النادرة التي عرضها عليه الحصين قائد يزيد..
ولكنّ وقفة الرجل أي رجل, إلى جانب اقتناعه واعتقاده.. ونبذه الخداع والكذب, أمر يستحق الإعجاب والاحترام..
 
  وعندما هاجمه الحجاج بجيشه, وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا, كان من بين جنده فرقة كبيرة من الأحباش, كانوا من أمهر الرماة والمقاتلين..
ولقد سمعهم يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان رضي الله عنه, حديثا لا ورع فيه ولا إنصاف, فعنّفهم وقال لهم:" والله ما أحبّ أن أستظهر على عدوي بمن يبغض عثمان"..!!
ثم صرفهم عنه في محنة هو فيها محتاج للعون, حاجة الغريق إلى أمل..!!
إن وضوحه مع نفسه, وصدقه مع عقيدته ومبادئه, جعلاه لا يبالي بأن يخسر مائتين من أكفأ الرماة, لم يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه, مع أنه في معركة مصير طاحنة, وكان من المحتمل كثيرا أن يغير اتجاهها بقاء هؤلاء الرماة الأكفاء إلى جانبه..!!
 
  ولقد كان صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة حقا..
فقد كان يرى أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين, إن كان يصلح على الإطلاق.. هو محق في رأيه, فـ يزيد هذا كان فاسدا في كل شيء.. لم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها إلينا التاريخ..
فكيف يبايعه ابن الزبير؟؟
لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حي..
وها هو ذا يقولها ليزيد بعد أن صار خليفة, وأرسل إلى ابن الزبير يتوعده بشرّ مصير..
هناك قال ابن لزبر:
" لا أبايع السكّير أبدا".
ثم أنشد:
                ولا الين لغير الحق أساله                 حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
 
  وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين, متخذا من مكة المكرّمة عاصمة خلافته, باسطا حكمه على الحجاز, واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل الأمصار جميعا..
ولكن الأمويين لا يقرّ قرارهم, ولا يهدأ بالهم, فيشنون عليه حروبا موصولة, يبوءون في أكثرها بالهزيمة والخذلان..
حتى جاء عهد عبدالملك بن مروان حين ندب لمهاجمة عبدالله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم إيغالا في القسوة والإجرام..
ذلكم هو الحجاج الثقفي الذي قال عنه الإمام العادل عمر بن عبدالعزيز:
" لو جاءت كل أمة بخطاياها, وجئنا نحن بالحجاج وحده, لرجحناهم جميعا"..!!
 
  ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير, وحاصرها وأهلها قرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام, كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير وحيدا, بلا جيش ولا أعوان.
وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون, ووجد عبدالله نفسه, وحيدا أو يكاد, وعلى الرغم من أن فرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مهيأة له, فقد قرر أن يحمل مسؤوليته إلى النهاية, وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة أسطورية, وهو يومئذ في السبعين من عمره..!!
ولن نبصر صورة أمينة لذلك الموقف الفذ إلا إذا أصغينا للحوار الذي دار بين عبدالله وأمه. العظيمة المجيدة أسماء بنت أبي بكر في تلك الساعات الأخيرة من حياته.
لقد ذهب إليها, ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه, وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..
قالت له أسماء:
" يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك, إن كنت تعلم أنك على حق, وتدعو إلى حق, فاصبر عليه حتى تموت في سبيله, ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..
وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا, فلبئس العبد أنت, أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.
قل عبد الله:
" والله يا أمّاه ما أردت الدنيا, ولا ركنت إليها.
وما جرت في حكم الله أبدا, ولا ظلمت ولا غدرت"..
قالت أمه أسماء:
" إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله أو سبقتك.
اللهم ارحم طول قيامه في الليل, وظمأه في الهواجر, وبرّه بأبيه وبي..
اللهم إني أسلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت, فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!"
وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.
وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ, تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت, في وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم, فأبى إلا أن يصلب الجثمان الهامد, تشفيا وخسّة..!!
 
   وقامت أمه, وعمرها يومئذ سبع وتسعون سنة, قامت لترى ولدها المصلوب.
وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:
يا أماه, إن أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا, فهل لك من حاجة..؟
فصاحت به قائلة:
 
" لست لك بأم..
إنما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..
وما بي إليكم حاجة..
ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"..
فأما الكذاب فقد رأيناه, وأما المبير, فلا أراه إلا أنت"!!
وأقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا, وداعيا إياها إلى الصبر, فأجابته قائلة:
" وماذا يمنعني من الصبر, وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل"..!!
يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق..!!
أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبدالله بن الزبير عن رأسه قبل أن يصلبوه..؟؟
أجل.. إن يكن رأس ابن الزبير قد قدّم هديّة للحجاج وعبدالملك.. فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لسالومي.. بغيّ حقيرة من بني إسرائيل!!
ما أروع التشبيه, وما أصدق الكلمات.
 
  وبعد, فهل كان يمكن لعبدالله بن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى البعيد من التفوّق, والبطولة والصلاح, وقد رضع لبان أم من هذا الطراز..؟؟
سلام على عبدالله..
وسلام على أسماء..
سلام عليهما في الشهداء الخالدين..
وسلام عليهما في الأبرار المتقين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:20

عبد الله بن عمرو بن العاص(القانت الأواب)

القانت, التائب, العابد, الأواب, الذي نستهل الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..
 كان أبوه أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين, الواضحين..
لقد أعطى العبادة وقته كله, وحياته ملها..
وثمل بحلاوة الإيمان, فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..
  
  ولقد سبق أباه إلى الإسلام, ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا, وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..
عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما, فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها, حتى إذا تمّ واكتمل, كان لجميعه حافظا..
ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية, تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..
بل كان يحفظه ليعمر به قلبه, وليكون بعد هذا عبده المطيع, يحلّ ما أحلّ, ويحرّم ما يحرّم, ويجيب له في كل ما يدعو إليه ثم يعكف على قراءته, وتدبّره وترتيله, متأنقا في روضاته اليانعات, محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة, باكي العين بما تثيره من خشية..!!
كان عبدالله قد خلق ليكون قد
قدّيسا عابدا, ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له, وهدي إليه..
إذا خرج جيش الإسلام إلى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة, وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب, والحاح عاشق..!!
 
  فإذا وضعت الحرب أوزارها, فأين نراه..؟؟
هناك في المسجد الجامع, أو في مسجد داره, صائم نهاره, قائم ليله, لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا, إنما هو رطب دائما بذكر الله, تاليا قرآنه, أو مسبّحا بحمده, أو مستغفرا لذنبه..
وحسبنا إدراكا لأبعاد عبادته ونسكه, أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس إلى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يجد من إيغال عبدالله في العبادة..!!
وهكذا إذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو, الكشف عما تزخر به النفس الإنسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح, فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال, حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..
وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..
وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر إلى الفجر في عبادة موصولة, صيام وصلاة, وتلاوة قرآن..
فاستدعاه النبي إليه, وراح يدعوه إلى القصد في عبادته..
قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
" ألم اخبر أنك تصوم الناهر, ولا تفطر, وتصلي الليل لا تنام..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:
إني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:
فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل لك إذن في خير الصيام, صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته..!!
اقرأه في كل شهر مرّة..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
اقرأه في كل ثلاث مرّة..
ثم قال له:
إني أصوم وأفطر..
وأصلي وأنام.
وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي
فليس مني".
ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:
" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
  
  إن مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.
فكيف حملته ساقاه إذن من المدينة إلى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الإمام علي..؟
الحق أن موقف عبدالله هذا, جدير بالتدبّر, بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والإجلال..
 
  رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة إقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته, الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما, فيشكوه إلى رسول الله كثيرا.
وفي المرة الأخيرة التي أمره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا, فأخذ الرسول يد عبدالله, ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:
" افعل ما أمرتك, وأطع أباك".
وعلى الرغم من أن عبدالله, كان بدينه وبخلق, مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.
وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.
" افعل ما أمرتك, وأطع أباك".
   وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام
ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..
ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.
وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.
كان عمر بن العاص قد اختار طريقه إلى جوار معاوية وكان يدرك مدى إجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه, فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا..
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله إلى جواره في قتال, وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام, ويوم اليرموك.
فحين همّ بالخروج إلى صفين دعاه إليه وقال له:
يا عبدالله تهيأ للخروج, فانك ستقاتل معنا..
وأجابه عبدالله:
" كيف وقد عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟
وحاول عمرو بدهائه إقناعه بأنهم إنما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا إلى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.
ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:
" أتذكر يا عبدالله, آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..
فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".
وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه, وفي عزمه ألا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما..
ولكن كيف يتم له هذا..؟؟
حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ أمر يقضيه..!
ونشب القتال حاميا ضاريا..
 
  ويختلف المؤرخون فيما إذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..
ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث إلا قليلا, حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب, وضدّ معاوية..
وذلك إن عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع إجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا, فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.
كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم إليها..
وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته ونشوته, راح يحمل حجرين حجرين, وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:
" ويح ابن سميّة, تقتله الفئة الباغية".
سمع كل أصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة, ولا يزالون لها ذاكرين.
وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.
وفد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية, كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح.
" اليوم نلقى الأحبة, محمدا وصحبه".
وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية, فسددوا نحوه رمية آثمة, نقلته إلى عالم الشهداء الأبرار.
وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..
وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:
أوقد قتل عمار..؟
وأنتم قاتلوه..؟
إذن انتم الفئة الباغية.
أنتم المقاتلون على ضلالة..!!
وانطلق في جيش معاوية كالنذير, يثبط عزائمهم, ويهتف فيهم أنهم بغاة, لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..
 
  وحملت مقالة عبدالله إلى معاوية, ودعا عمرا وولده عبدالله, وقال لعمرو:
" ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟
قال عبدالله:
ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.
فقال له معاوية:
فلم خرجت معنا:؟
قال عبدالله:
لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي, وقد  أطعته في الخروج, ولكني لا أقاتل معكم.
وإذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول, فصاح عبدالله بن عمرو:
ائذن له وبشره بالنار.
وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من طول أناته, وسعة حلمه, وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..
وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم, يؤكد لمعاوية أنه ما قال إلا الحق, وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا إلا بغاة..
والتفت صوب أبيه وقال:
لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.
وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما, فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:
تقتلك الفئة الباغية.
وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول إلى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..
قالا:
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:
تقتلك الفئة الباغية..
ونبوءة الرسول حق..
وها هو ذا عمار قد قتل..
فمن قتله..؟؟
إنما قتله الذين خرجوا به, وحملوه معهم إلى القتال"..!!
وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج, وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..
واستأنف الفريقان القتال..
وعاد عبدالله بن عمرو إلى مسجده, وعبادته..
  
  وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..
غير أن خروجه إلى صفين مجرّد خروجه, ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به  الذكرى حتى يبكي ويقول:
" مالي ولصفين..؟؟
مالي ولقتال المسلمين"..؟
  
  وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما, وتبادلا السلام..
ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:
" أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء..؟
انه هذا الذي مرّ بنا الآن الحسين بن علي..
وانه ما كلمني منذ صفين..
ولأن يرضى عني أحب إليّ من حمر النعم"..!!
واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..
وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..
وبدأ عبدالله بن عمرو الحديث, فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:
" ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟
قال عبدالله:
" ذات يوم شكاني عمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
" إن عبدالله يصوم النهار كله, ويقوم الليل كله.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..
ولما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم, فخرجت..
ولكن والله ما اخترطت سيفا, ولا طعنت برمح, ولا رميت بسهم"..!!
وبينما هو يتوغل الثانية والسبعين من عمره المبارك..
وإذ هو في مصلاه, يتضرّع إلى ربه, ويسبّح بحمده دعي إلى رحلة الأبد, فلبى الدعاء في شوق عظيم..
وإلى إخوانه الذين سبقوه بالحسنى, ذهبت روحه تسعى وتطير..
والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:
( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى




عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:22

عبد الرحمن بن أبى بكر(بطل حتى النهاية)

هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه, وأبعاده..
فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله إيمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين إذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه, وأصنام قريش.!!
وفي غزوة بدر, خرج مقاتلا مع جيش المشركين..
وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..
وقبل أن يلتحم الجيشان, بدأت كالعادة جولة المبارزة..
ووقف عبدالرحمن يدعو إليه من المسلمين من يبارزه..
ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه, ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.
   إن العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..
إذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه, ولم يعد للفكاك منه سبيل, اللهمّ إلا إذا أزاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف, وبلا خداع.
فعلى الرغم من إجلال عبدالرحمن أباه, وثقته الكاملة برجاحة عقله, وعظمة نفسه وخلقه, فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.
ولم يغره إسلام أبيه بإتباعه.
وهكذا بقي واقفا مكانه, حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته, يذود عن آلهة قريش, ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..
والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز, لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..
فأصالة جوهرهم, ونور وضوحهم, يهديانهم إلى الصواب آخر الأمر, ويجمعانهم على الهدى والخير.
ولقد دقت ساعة الأقدار يوما, معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..
لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء, وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه, فإذا هو من المسلمين..!
ومن فوره نهض مسافرا إلى رسول الله, أوّأبا إلى دينه الحق.
وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.
لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم إسلام الرجال. فلا طمع يدفعه, ولا خوف يسوقه. وإنما هو اقتناع رشيد سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.
وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله, ورسوله والمؤمنين...
  
  في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه, وفي أيام خلفائه من بعده, لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو, ولم يقعد عن جهاد مشروع..
ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم, وكان لثباته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل, والذي كان العقل المدبر لمسيلمة, كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله, فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن, وتشتت الذين حوله, انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..
وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الإسلام مضاء وصقلا..
فولاؤه لاقتناعه, وتصميمه المطلق على إتباع ما يراه صوابا وحقا, ورفضه المداهنة...
كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته, لم يتخل عنه قط تحت إغراء رغبة, أو تأثير رهبة, حتى في ذلك اليوم الرهيب, يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد السيف.. فكتب إلى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة, وأمره إن يقرأه على المسلمين في المسجد..
وفعل مروان, ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد إلى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:
" والله ما الأخيار أردتم لأمة محمد, ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!
لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الإسلام لو أنجز معاوية أمره هذا, وحوّل الحكم في الإسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها, إلى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!
   لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع, حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي, وعبدالله بن الزبير, وعبدالله بن عمر..
ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم إلى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..
لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة, وبعث إليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم, يريد أن يتألفه بها, فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:
" ارجع إليه وقل له: إن عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..
ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما إلى المدينة غادرها من فوره إلى مكة..
وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..
فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت إلى الله روحه,, وحمله الرجال على الأعناق إلى أعالي مكة حيث دفن هناك, تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..
وشهدت إسلامه..!!
وكان إسلام رجل صادق, حرّ شجاع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:24

عبد الله بن  مسعود(أول صادح بالقرآن الكريم)

قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم, كان عبدالله بن مسعود قد آمن به, وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول, عليه وعليهم الصلاة والسلام..
هو إذن من الأوائل المبكرين..
ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" كنت غلاما يافعا, أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, وأبوبكر فقالا: يا غلام,هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: إني مؤتمن, ولست ساقيكما..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل, لم ينز عليها الفحل..؟
قلت: نعم..
فأتيتهما بها, فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة, فاحتلب فيها, فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: أقلص, فقلص..
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك, فقلت: علمني من هذا القول.
فقال: انك غلام معلم"...
 
  لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه, ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد, فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!
وما كان يدري يومها, أنه إنما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا, وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا, وتملؤها هدى ونور..
بل ما كان يدري يومها, أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم  عقبة بن معيط, سيكون إحدى هذه المعجزات يوم يخلق الإسلام منه منه مؤمنا بإيمانه كبرياء قريش, ويقهر جبروت ساداتها..
فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة إلا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد إسلامه إلى مجمع الأشراف عند الكعبة, وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:
( الرحمن, علّم القرآن, خلق الإنسان, علّمه البيان, الشمس والقمر بحسبان, والنجم والشجر يسجدان).
ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون, لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..إنما هو أجير واحد منهم, وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!
ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..
انه الزبير رضي الله عنه يقول:
" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, إذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط, فمن رجل يسمعهموه..؟؟
فقال عبدالله بن مسعود:أنا..
قالوا: إنا نخشاهم عليك, إنما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم إن أرادوه..
قال: دعوني, فان الله سيمنعني..
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى, وقريش في أنديتها, فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن, ثم استقبلهم يقرؤها..
فتأملوه قائلين: ما يقول ابن أم عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..
فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه, وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ..
ثم عاد إلى أصحابه مصابا في وجهه وجسده, فقالوا له:
هذا الذي خشينا عليك..
فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن, ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..
قالوا: حسبك, فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!
 
   أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء, سيكونون إحدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله, ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!
ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..
ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة, وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!
  
  لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..
بل ولا بعيدا عن الزحام..!!
فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال, ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم, ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..
فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل, ضامر.. وهو في الجاه مغمور..
ولكن الإسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!
ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه إرادة تقهر الجبارين, وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!
ويمنحه مكان انزوائه وضياعه, خلودا, وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!
ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه, حتى صار فقيه الأمة, وعميد حفظة القرآن جميعا.
يقول على نفسه:
" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة, لا ينازعني فيها أحد"..
ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل إن يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته, والفهم السديد في إدراك معانيه..
 
  ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:
" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".
ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته,ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.
يقول عليه السلام:
" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!
ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..
دعاه يوما الرسول, وقال له:
" اقرأ عليّ يا عبد الله"..
قال عبد الله:
" أقرأ عليك, وعليك أنزل يا رسول الله"؟!
فقال له الرسول:
"إني أحب أن أسمعه من غيري"..
فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى:
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..
ولا يكتمون الله حديثا)..
فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفاضت عيناه بالدموع, وأشار بيده إلى ابن مسعود:
أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..
 
  وتحدث هو بنعمة الله فقال:
" والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل, وما أحد أعلم بكتاب الله مني, ولو أعلم أحدا تمتطى إليه الإبل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!
 
  ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
" لقد ملئ فقها"..
وقال أبو موسى الأشعري:
" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"
ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.
يقول عنه حذيفة:
" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه, ودلّه, وسمته من ابن مسعود...
ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد لأقربهم إلى الله زلفى"..!!
واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:
"يا أمير المؤمنين, ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما, ولا أحسن مجالسة, ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..
قال علي:
نشدتكم الله, أهو صدق من قلوبكم..؟؟
قالوا:
نعم..
قال:
اللهم إني أشهدك.. اللهم إني أقول مثل ما قالوا  أو أفضل..
لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله, وحرّم حرامه..فقيه في الدين, عالم بالسنة"..!
 
  وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:
" إن كان ليؤذن له اذا حججنا, ويشهد إذا غبنا"..
وهم يريدون بهذا, أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه, فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيره  ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه, حتى كان يلقب بـصاحب السواد أي صاحب السر..
 
  يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:
"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام, وما أرى إلا ابن مسعود من أهله"..
ذلك أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما, وكان يحب فيه ورعه وفطنته, وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:
" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين, لأمّرت ابن أم عبد"..
وقد مرّت بنا من قبل, وصية  الرسول لأصحابه:
" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...
 
  وهذا الحب, وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" إذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..
فكان هذا إيذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...
وهكذا قال عنه أصحابه:
" كان يؤذن له اذا حججنا, ويشهد اذا غبنا"..
 
  ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو, من شأنها أن ترفع الكلفة, فان ابن مسعود لم يزدد بها إلا خشوعا, وإجلالا, وأدبا..
ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده, مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...
 
  فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام, نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله  يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق, خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!
 
  ولنستمع لإخوانه يصفون هذه الظاهرة..
يقول عمرو بن ميمون:
" اختلفت إلى عبدالله بن مسعود سنة, ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله, فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته, ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!
ويقول علقمة بن قيس:
" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا, فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت إليه وهو معتمد على عصا, فإذا عصاه ترتجف, وتتزعزع"..!!
ويحدثنا مسروق  عن عبدالله:
" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!
إلى هذا المدى العظيم بلغ إجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغ توقيره إياه, وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون أمارة تقاه..!!
فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره, كان إدراكه لجلال هذا الرسول العظيم إدراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, ومع ذكراه في مماته, أدبا فريدا..!!
 
  لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله إليهم:
" إني والله الذي لا اله إلا هو, قد آثرتكم به على نفسي, فخذوا منه وتعلموا".
ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله, ولا أحد مثله..
وإجماع أهل الكوفة على حب إنسان, أمر يشبه المعجزات..
ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة, لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..
 
  ولقد بلغ من حبهم إياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفة عثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج, ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه منه"..
ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه, إذ قال لهم:
" إن له عليّ الطاعة, وإنها ستكون أمور وفتن, ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!
إن هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخليفة عثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الأمل,, ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..
بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل إلى ثورة..
وحين ترامى إلى مسمعه محاولات اغتيال عثمان, قال كلمته المأثورة:
" لئن قتلوه, لا يستخلفون بعده مثله".
ويقول بعض أصحاب ابن مسعود:
" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..
  
  ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.
وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق, والتعبير عنها في أناقة وسداد..
لنستمع له مثلا  وهو يلخص حياة عمر  العظيمة في تركيز باهر فيقول:
" كان إسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت أمارته رحمة..".
ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:
" إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!
ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه, فيقول:" إني لأمقت الرجل, إذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا, ولا عمل الآخرة"..
ومن كلماته الجامعة:
" خير الغنى غنى النفس , وخير الزاد التقوى, وشر العمى عمى القلب, وأعظم الخطايا الكذب, وشرّ المكاسب الربا, وشرّ المأكل مال اليتيم, ومن يعف الله عنه, ومن يغفر الله له"..
 
  هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة, عاشها صاحبها في سبيل الله, ورسوله ودينه..
هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!
نحيف, قصير, يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..
له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا, فقال عليه الصلاة والسلام:
" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود, لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!
أجل هذا هو الفقير الأجير, الناحل الوهنان.. الذي جعل منه إيمانه ويقينه إماما من أئمة الخير والهدى والنور..
ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..
 
  وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام, مع خلفائه من بعده..
وشهد أعظم إمبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الإسلام ومشيئته..
 
  ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين, والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم, فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن إخباته وتواضعه ومنهج حياته..
 
  ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين إليها فيرددها, ويتغنى بها, ويتمنى لو أنه أدركها..
 
  ولنصغ  إليه يحدثنا بكلماته عنها:
" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر إليها, فإذا رسول الله, وأبوبكر وعمر, وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته, وأبو بكر وعمر يدليانه إليه, والرسول يقول: أدنيا إلي أخاكما.. فدلياه إليه, فلما هيأه للحده قال: اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!
  
  تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.
وهي لا تمت بسبب إلى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء, ومنصب وجاه..
ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب, عظيم النفس, وثيق اليقين.. رجل هداه الله, وربّاه الرسول, وقاده القرآن..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:25

أبو الدرداء(أى حكيم كان)

بينما كانت جيوش الإسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:
" ألا أخبركم بخير أعمالكم, وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:
" أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الإيمان والحكمة:
" ذكر الله...
ولذكر الله أكبر"..
  
  لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى جاء نصر الله والفتح..
بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا إلى التأمل, وأوى إلى محراب الحكمة, ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه إنسانا يتملكه شوق عارم إلى رؤية الحقيقة واللقاء بها..
 
 وإذ قد آمن بالله وبرسوله إيمانا وثيقا, فقد آمن كذلك بأن هذا الإيمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد إلى الحقيقة..
وهكذا عكف على إيمانه مسلما إلى نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الإيمان في عزم, ورشد, وعظمة..
ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..
( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه إلى تلك الذروة العالية.. إلى ذلك التفوق البعيد.. إلى ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!
  
  والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
انه ضياء الحكمة, وعبير الإيمان..
ولقد التقى الإيمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!
سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
" التفكر والاعتبار".
أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
وكان هو يحضّ إخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
" تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..
 
  ويوم اقتنع بالإسلام دينا, وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة  النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
بيد أنه لم يمض على إسلامه غير وقت وجيز حتى..
ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
" أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري  فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
ألا إني لا أقول لكم: إن الله حرّم البيع..
ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!
 
  أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤل, ويشير إلى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو إلى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الإنسان..
 
  لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه إلى عالم الخير الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...
 
  ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في إنماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الإسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..
ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..
 
  وأبو الدرداء يحسّ إحساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الإيمان الذي هداه إليه ربه, ورسوله والإسلام..
سمّوه إن شئتم تصوّفا..
ولكنه تصوّف رجل توفر له فطنة المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!
 
أجل..
ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم, القدّيس..
ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه, وزادها بصدره..
رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
سعداء, أولئك الذين يقبلون عليه, ويصغون إليه..
ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..
ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله أخلده)...
ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
" ما قلّ وكفى, خير مما كثر وألهى"..
ويقول عليه السلام:
" تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله إليه بكل خير أسرع".
من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
" اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب"..
سئل:
وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
فأجاب:
أن يكون لي في كل واد مال"..!!
وهو يدعو الناس إلى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
هنالك يقول:
" من لم يكن غنيا عن الدنيا, فلا دنيا له"..
والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.
ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.
فهو يقول:
" لا تأكل إلا طيّبا..
ولا تكسب إلا طيّبا..
ولا تدخل بيتك إلا طيّبا".
ويكتب لصاحب له فيقول:
".. أما بعد, فلست في شيء من عرض الدنيا, وإلا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه إلا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له إرثا, فأنت إنما تجمع لواحد من اثنين:
إما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله, فيسعد بما شقيت به..
وإما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية الله, فتشقى بما جمعت له,
فثق لهم بما عند الله من رزق, وانج بنفسك"..!
 
  كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب إلى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى توجيه السؤال إليه:" جبير بن نفير":
 
قال له:
" يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله"..؟؟
فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
ويحك يا جبير..
ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة, لها الملك, تركت أمر الله, فصارت إلى ما ترى"..!
 
أجل..
 
  وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الإسلام بالبلاد المفتوحة, إفلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين صحيح يصلها بالله..
ومن هنا أيضا, كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الإيمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح, فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل إليهم..!!
 
  وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه, كذلك كانت جسرا إلى حياة أبقى وأروع..
دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..
فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
فأجابهم وهو يشير بسبّابته, وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
" إن دارنا هناك..
لها نجمع.. واليها نرجع..
نظعن إليها. ونعمل لها"..!!
وهذه النظرة إلى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها أبو الدرداء منه.
وعجب الناس لهذا التصرّف, فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
" ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام على رأسها الخدم  وبهرها زخرف القصور..
أين دينها منها يومئذ"..؟!
هذا حكيم قويم النفس, ذكي الفؤاد..
وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس إليها, ويولّه القلب بها..
وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل إليها..
فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه إلى دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
وانه ليقول:
" ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه, وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده, وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم خطيبا:
" يا أهل الشام..
أنتم الإخوان في الدين, والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..
ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
تجمعون ما لا تأكلون..
وتبنون ما لا تسكنون..
وترجون ما لا تبلّغون..
وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون, فيوعون..
ويؤمّلون, فيطيلون..
ويبنون, فيوثقون..
فأصبح جمعهم بورا..
وأماهم غرورا..
وبيوتهم قبورا..
أولئك قوم عاد, ملأوا ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا..".
ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:
" من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!
 
  رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!
العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. إنما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر الإنسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:
انه يقول:
التمسوا الخير دهركم كله..
وتعرّضوا لنفحات رحمة الله, فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
" وسلوا الله أن يستر عوراتكم, ويؤمّن روعاتكم"...
كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.
هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في إيمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون  بها على الآخرين ويدلّون..
فلنستمع له ما يقول:
" مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..
ويقول أيضا:
"لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
ولا تحاسبوهم دون ربهم
عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما يرى في الإنس يطل حزنه"..!
انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
عليه أن يحمد الله على توفيقه, وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
" مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
قالوا بلى..
قال: فلا تسبّوه إذن, وحمدوا الله الذي عافاكم.
قالوا: أنبغضه..؟
قال: إنما أبغضوا عمله, فإذا تركه فهو أخي"..!!
 
  وإذا كان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء, فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
إن أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:
" لا يكون أحدكم تقيا حتى يكون عالما..
ولن يكون بالعلم جميلا, حتى يكون به عاملا".
أجل..
فالعلم عنده فهم, وسلوك.. معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..
ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم, نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة, والمثوبة..
ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
ها هو ذا يقول:
" مالي أرى العلماء كم يذهبون, وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا إن معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
ويقول أيضا:
" الناس ثلاثة..
عالم..
ومتعلم..
والثالث همج لا خير فيه".
 
  وكما رأينا من قبل, لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
يقول:
"إن أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر, هل علمت؟؟
فأقول نعم..
فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا, بل كان يدعو ربّه ويقول:
" اللهم إني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
قيل له:
وكيف تلعنك قلوبهم؟
قال رضي الله عنه:
" تكرهني"..!
أرأيتم؟؟
انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع إلى ربه أن يعيذه منها..
 
  وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالإخاء خيرا, وتبنى علاقة الإنسان بالإنسان على أساس من واقع الطبيعة الإنسانية ذاتها فيقول:
" معاتبة الأخ خير لك من فقده, ومن لك بأخيك كله..؟
أعط أخاك ولن له..
ولا تطع فيه حاسدا, فتكون مثله.
غدا يأتيك الموت, فيكفيك فقده..
وكيف تبكيه بعد الموت, وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟
ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الإخاء..
يقول رضي الله عنه وأرضاه:
" إني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر, أن أظلم من لا يستعين عليّ إلا بالله العليّ الكبير"..!!
يل لعظمة نفسك, وإشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
انه يحذّر الناس من خداع الوهم, حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم, ومن بأسهم..!
ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون إلى الله عز وجل بعجزهم, ويطرحون بين يديه قضيتهم, وهو أنهم على الناس..!!
هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
هذا هو أبو الدرداء الزاهد, العابد, الأوّاب..
هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه, وسألوه الدعاء, أجابهم في تواضع وثيق قائلا:
" لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
 
   كل هذا, ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟
ولكن أي عجب, وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الإسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر, وبقيّة الرجال..!؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:28

أبو أيوب الأنصارى(انفروا خفافا وثقالا)

كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة, ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..
وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة, ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف, فاعترضوا طريق الناقة قائلين:
" يا رسول الله, أقم عندنا, فلدينا العدد والعدة والمنعة"..
ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:
" خلوا سبيلها فإنها مأمورة".
ويبلغ الموكب دور بني بياضة, فحيّ بني ساعدة, فحي بني الحارث بن الخزرج, فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة, وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:
" خلوا سبيلها فإنها مأمورة..
 
  لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه إلى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. وإلى جواره ستقوم حجرة أو حجرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف, أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم, ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم لله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..
من اجل هذا, ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله, فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه إلى الله بقلبه, وابتهل إليه بلسانه:
" اللهم خر لي, واختر لي"..
وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان, ثم عادت إلى مبركها الأول, وألقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..
أتدرون من كان هذا السعيد الموعود الذي بركت الناقة أمام داره, وصار الرسول ضيفه, ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟
انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد, حفيد مالك بن النجار..
لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..
فمن قبل, وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـبيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين, مناصرين.
 
  والآن رسول الله يشرف المدينة, ويتخذها عاصمة لدين الله, فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم, والرسول الكريم.
ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد إلى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة, ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما, وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!
وراح يلح على النبي ويرجوه إن ينتقل إلى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..
ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد, وبناء حجرة له بجواره..
ومنذ بدأت قريش تتنمّر للإسلام وتشن غاراتها على دار الهجرة بالمدينة, وتؤلب القبائل, وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..
منذ تلك البداية, واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.
ففي بدر, وأحد والخندق, وفي كل المشاهد والمغازي, كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..
وبعد وفاة الرسول, لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها, مهما يكن بعد الشقة, وفداحة المشقة..!
وكان شعاره الذي يردده دائما, في ليله ونهاره.. في جهره وإسراره.. قول الله تعالى:
( انفروا خفافا وثقالا)..
مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين, ولم يقتنع أبو أيوب بإمارته.
مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه, ويقول:
" ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟
ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!
 
  كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الإسلام, يقاتل تحت رايته, ويذود عن حرمته..
ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية, وقف مع علي في غير تردد, لأنه الإمام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة لمعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة, الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يجد له مكان فوق أرض الوغى, وبين صفوف المجاهدين..
وهكذا, لم يكد يبصر جيش الإسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه, وحمل سيفه, وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ إليه واشتاق..!!
 
  وفي هذه المعركة أصيب.
وذهب قائد جيشه ليعوده, وكانت أنفاسه تسابق أشواقه إلى لقاء الله..
فسأله القائد, وكان يزيد بن معاوية:
" ما حاجتك أبا أيوب"؟
ترى, هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟
كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر, وكل تخيّل لبني الإنسان..!!
لقد طلب من يزيد, إذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به إلى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو, وهنالك يدفنه, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق, حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره, فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!
أتحسبون هذا شعرا..؟
لا.. ولا هو بخيال, بل واقع, وحق شهدته الدنيا ذات يوم, ووقفت تحدق بعينيها, وبأذنيها, لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!
ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..
وفي قلب القسطنطينية, وهي اليوم استانبول, ثوى جثمان رجل عظيم, جدّ عظيم..!!
 
  وحتى قبل أن يغمر الإسلام تلك البقاع, كان أهل القسطنطينية من الروم, ينظرون إلى أبي أيوب في قبره نظرتهم إلى قدّيس...
وانك لتعجب إذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:
" وكان الروم يتعاهدون قبره, ويزورونه.. ويستسقون به إذا قحطوا"..!!
 
  وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول, والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح, على الرغم من ذلك, فان حياته كانت هادئة, نديّة كنسيم الفجر..
 
  ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:
" وإذا صليت فصل صلاة مودّع..
ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..
والزم اليأس مما في أيدي الناس"...
وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..
ولم تهف نفسه إلى مطمع..
وقضى حياته في أشواق عابد, وعزوف مودّع..
فلما جاء أجله, لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:
" اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...
كان يؤمن بالنصر, وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع, وقد أخذت مكانها بين واحات الإسلام, ودخلت  مجال نوره وضيائه..
ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك, في عاصمة تلك البلاد, حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة, وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب, أن يتابع جيوش الإسلام في زحفها, فيسمع خفق أعلامها, وصهيل خيلها, ووقع أقدامها, وصصلة سيوفها..!!
وانه اليوم لثاو هناك..
لا يسمع صلصلة السيوف, ولا صهيل الخيول..
قد قضي الأمر, واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..
لكنه يسمع كل يوم من صبحه إلى مسائه, روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..
أن:
الله أكبر..
الله أكبر..
وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها, وسنا مجدها:
هذا ما وعدنا الله ورسوله
وصدق الله ورسوله....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:30

أبو هريرة(ذاكرة عصر الوحى)
  صحيح إن ذكاء المرء محسوب عليه..
وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي إن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!
والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..
فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..
كان رضي الله عنه يجيد فنّ الإصغاء, وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..
يسمع فيعي, فيحفظ, ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر, وتعاقبت الأيام..!!
من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه, وبالتالي أكثرهم رواية لها.
 
  فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤل. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.
هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من إخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون إن يتسللوا بها إلى الإسلام عن طريقه, وإن يحمّلوه وزرها وإذاها..!!
 
  والآن.. عندما نسمع واعظا, أو محاضرا, أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".
أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة, أ, عندما تلقاه كثيرا, وكثيرا جدّا في كتب الحديث, والسيرة والفقه والدين بصفة عامة, فاعلم إنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة إغراء بالصحبة والإصغاء..
ذلك إن ثروته من الأحاديث الرائعة, والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام, قلّ إن يوجد لها نظير..
وإنه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة, وهذه الثروة, لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك إلى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, وإلى التحليق بك, إذا كنت وثيق الإيمان مرهف النفس, في تلك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه, تعطي الحياة معناها, وتهدي إليها رشدها ونهاها.
وإذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ, فدونك الآن وما تريد..
إنه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الإسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.
فمن أجير إلى سيّد..
ومن تائه في الزحام, إلى علم وإمام..!!
ومن ساجد أمام حجارة مركومة, إلى مؤمن بالله الواحد القهار..
وهاهو ذا يتحدّث ويقول:
" نشأت يتيما, وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!
كنت أخدمهم إذا نزلوا, وأحدو لهم إذا ركبوا..
وهأنذا وقد زوّجنيها الله, فالحمد لله الذي جعل الدين قواما, وجعل أبا هريرة إماما"..!
قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر, فأسلم راغبا مشتاقا..
ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط إلا في ساعات النوم..
وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم إلى إن ذهب النبي إلى الرفيق الأعلى.
نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة, ممتلئة بكل صالح من القول, والعمل, والإصغاء.
  
  أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع إن يخدم به دين الله.
إن أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..
والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.
ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.
ففي تلك العصور, وكانت الجماعة الإنسانية كلها, لا العرب وحدهم, لا يهتمون بالكتابة, ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..
بل إن أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.
وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرؤون ولا يكتبون, مع إنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..
 
  نعود إلى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الإسلام إلى من يحفظن تراثه وتعاليمه, كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون, ثم إن بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.
لم يكن أبا هريرة كاتبا, ولكنه كان حافظا, وكان يملك هذا الفراغ, أو هذا الفراغ المنشود, فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!
وهو إذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا, عزم على إن يعوّض ما فاته, وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..
ثم إنه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه, وهي ذاكرته الرحبة القوية, والتي زادت مضاء ورحابة وقوة, بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها إن يبارك الله له فيها..
فلماذا إذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله للأجيال..؟؟
أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه, وعليه إن يقوم به في غير توان..
 
 ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون, ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..
ولم تكن له أرض يزرعها, ولا تجارة تشغله, ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..
وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..
فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, راح أبو هريرة يحدث, مما جعل بعض أصحابه يعجبون: إني له كل هذه الأحاديث, ومتى سمعها ووعاها..
ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة, وكأنه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:
" إنكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..
وتقولون: إن المهاجرين الذين سبقوه إلى الإسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟
ألا إن أصحابي من المهاجرين, كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق, وإن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..
وإني كنت أميرا مسكينا, أكثر مجالسة رسول الله, فأحضر إذا غابوا, وأحفظ إذا نسوا..
وإن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثوبي فحدثني ثم ضممته إليّ فو الله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..
وأيم والله, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا, وهي:
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب, أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".
 
  هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..
وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية, باركها الرسول فزادت قوة..
وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في إن يحدّث, بل لأن إفشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته, وإلا كان كاتما للخير والحق, وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..
من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث, لا يصدّه عن الحديث صادّ, ولا يعوقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:
" لتتركنّ الحديث عن رسول الله,أو لألحقنك بأرض دوس"..
أي أرض قومه وأهله..
على إن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة, بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها, تلك هي: إن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا, وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..
فالقرآن كتاب الله, ودستور الإسلام, وقاموس الدين, وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام, والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..
من أجل هذا كان عمر يقول:
" اشتغلوا بالقرآن, فإن القرآن كلام الله"..
ويقول:
" أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به"..
وحين أرسل أبو موسى الأشعري إلى العراق قال له:
" إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل, فدعهم على ما هم عليه, ولا تشغلهم بالحديث, وإنا شريكك في ذلك"..
كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة  دون إن يتسرب إليه ما ليس منه..
أما الأحاديث فليس يضمن عمر إن تحرّف أو تزوّر, أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنيل من الإسلام..
وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر, ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن  أمانته, وكان لا يريد إن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد إن كتمانه إثم وبوار.
وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لإفراغ ما في صدره من حديث سمعه ووعاه إلا حدّث وقال..
 
  على إن هناك سببا هامّا, كان له دور في إثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.
ذلك إنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف, ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.
 
  أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلوا مقدرة أبي هريرة على الحفظ, فدعاه إليه وأجلسه معه, وطلب منه إن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, في حين أجلس كاتبه وراء حجاب, وأمره إن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..
وبعد مرور عام, دعاه مروان  بن الحكم مرة أخرى, أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها, فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!
وكان يقول عن نفسه:
" ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني, إلا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص, فإنه كان يكتب, ولا أكتب"..
وقال عنه الإمام الشافعي أيضا:
" أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".
وقال البخاري رضي الله عنه:
" روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..
وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين, يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه, وتقوم زوجته ثلثه, وتقوم ابنته ثلثه. وهكذا لا تمر من الليل ساعة إلا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!
وفي سبيل إن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..
وإنه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطنه حجرا ويعتصر كبده بيديه, ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه إن به صرعا وما هو بمصروع..!
ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..
كانت هذه المشكلة أمه: فإنها يومئذ رفضت أن تسلم..
ليس ذلك وحسب, بل كانت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..
وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره, فانفضّ عنها باكيا محزونا, وذهب إلى مسجد الرسول..
 
  ولنصغ إليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:
".. فجئت إلى رسول الله وإنا أبكي, فقلت: يا رسول الله, كنت أدعو أم أبي هريرة إلى الإسلام فتأبى علي, وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره, فادع الله إن يهدي أم أبا هريرة إلى الإسلام..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..
فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله, فلما أتيت الباب إذا هو مجاف, أي مغلق, وسمعت خضخضة ماء, ونادتني يا أبا هريرة مكانك..
ثم لبست درعها, وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد إن لا اله إلا الله, وأِهد إن محمدا عبده ورسوله..
فجئت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح, كما بكيت من الحزن, وقلت: أبشر يا رسول الله, فقد أجاب الله دعوتك..
قد هدى أم أبي هريرة إلى الإسلام..
ثم قلت يا رسول الله: ادع الله إن يحبّبني وأمي إلى المؤمنين والمؤمنات..
فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه إلى كل مؤمن ومؤمنة"..
 
  وعاش أبو هريرة عابدا, ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.
وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه إمارة البحرين.
وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.
إذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين, فيجب إن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل إن يتركها وله ثوب واحد..!!!
أما إذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء, فإنه يومئذ لا يفلت من حساب عمر, مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!
 
  دنيا أخرى.. ملاها عمر روعة وإعجازا..!!
وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا, من مصادره الحلال, وعلم عمر فدعاه إلى المدينة..
 
   ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:
" قال لي عمر:
يا عدو الله وعدو كتابه, أسرقت مال الله..؟؟
قلت:
ما إنا بعدو لله ولا عدو لكتابه,.. لكني عدو من عاداهما..
ولا إنا من يسرق مال الله..!
قال:
فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟
قلت:
خيل لي تناسلت, وعطايا تلاحقت..
قال عمر: فادفعها إلى بيت مال المسلمين"..!!
ودفع أبو هريرة المال إلى عمر ثم رفع يديه إلى السماء وقال:
اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..
 
  وبعد حين دعا عمر أبا هريرة, وعرض عليه الولاية من حديد, فأباها واعتذر عنها..
قال له عمر: ولماذا؟
قال أبو هريرة:
حتى لا يشتم عرضي, ويؤخذ مالي, ويضرب ظهري..
ثم قال:
وأخاف إن أقضي بغير علم
وأقول بغير حلم..
 
  وذات يوم اشتد شوقه إلى لقاء الله..
وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه, كان هو يلحّ على الله قائلا:
" اللهم إني أحب لقاءك, فأحب لقائي"..
وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.
وبين ساكني البقيع الأبرار يتبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..
وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته, كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.
ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:
لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟
 
  فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:
لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس, ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان, وكانت له هرة, يطعمها, ويحملها, وينظفها, ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..
وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..  
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:33

أبو جابر  عبد الله بن عمرو
بن حرام(ظليل الملائكة)



عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية, كان عبدالله بن عمرو بن حرام, أبو جابر بن عبدالله أحد هؤلاء الأنصار..
ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء, كان عبدالله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه من بني سلمة..
ولما عاد إلى المدينة وضع نفسه, وماله, وأهله في خدمة الإسلام..
وبعد هجرة الرسول إلى المدينة, كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة في مصاحبة النبي عليه السلام ليله ونهاره..
 
  وفي غزوة بدر خرج مجاهدا, وقاتل قتال الأبطال..
وفي غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو..
وغمره إحساس صادق بأنه لن يعود, فكاد قلبه يطير من الفرح!!
ودعا إليه ولد جابر بن عبدالله الصحابي الجليل, وقال له:
" إني لا أرى إلا مقتولا في هذه الغزوة..
بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..
واني والله, لا أدع أحدا بعدي أحبّ إليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وان عليّ دبنا, فاقض عني ديني, واستوص بإخوتك خيرا"..
  
  وفي صبيحة اليوم التالي, خرج المسلمون للقاء قريش..
قريش التي جاءت في جيش لجب تغزو مدينتهم الآمنة..
ودارت معركة رهيبة, أدرك المسلمون في بدايتها نصرا سريعا, كان يمكن أن يكون نصرا حاسما, لولا أن الرماة الذين أمرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف على القرشيين, فتركوا مواقعهم فوق الجبل, وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم..
هذا الجيش الذي جمع فلوله سريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما, ثم فاجأهم بهجوم خاطف من وراء, فتحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة..
 
  في هذا القتال المرير, قاتل عبدالله بن عمرو قتال مودّع شهيد..
ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم.. ذهب جابر ابن عبدالله يبحث عن أبيه, حتى ألفاه بين الشهداء, وقد مثّل به المشركون, كما مثلوا يغيره من الأبطال..
ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الإسلام عبدالله بن عمرو بم جرام, ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه, فقال:
" ابكوه..
أ,لا تبكوه..
فان الملائكة لتظلله بأجنحتها"..!!
 
  كان إيمان أبو جابر متألقا ووثيقا..
وكان حبّه بالموت في سبيل الله منتهى أطماحه وأمانيه..
ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيم, يصوّر شغفه بالشهادة..
قال عليه السلام لولده جابر يوما:
" يا جابر..
ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب..
ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_
فقال له: يا عبدي, سلني أعطك..
فقال: يا رب, أسألك أن تردّني إلى الدنيا, لأقتل في سبيلك ثانية..
قال له الله:
انه قد سبق القول مني: إنهم إليها لا يرجعون.
قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة..
فأنزل الله تعالى:
(ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا, بل أحياء عند ربهم يرزقون, فرحين بما أتاهم الله من فضله, ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".
 
  وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار, بعد فراغ القتال في أحد..
وعندما تعرف أهل عبدالله بن عمرو على جثمانه, حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا, وهمّت بهما راجعة إلى المدينة لتدفنهما هناك, وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..
بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله أن:
" أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..
فعاد كل منهم بشهيده..
ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء, الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.
ولما جاء دور عبدالله بن حرام ليدفن, نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم:
" ادفنوا عبدالله بن عمرو, وعمرو بن الجموح في قبر واحد, فإنهما كانا في الدنيا متحابين, متصافين"..
 والآن..
في خلال اللحظات التي يعدّ فيها القبر السعيد لاستقبال الشهيدين الكريمين, تعالوا نلقي نظرة محبّة على الشهيد الثاني عمرو بن الجموح...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 3:36

أبو موسى الأشعرى(الاخلاص...وليكن ما يكون)

عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:
" إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم, أعلمكم كتاب ر بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم"..!!
وغشي الإنس من الدهشة والعجب ما غشيهم,  فإنهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما إن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..
فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:
" ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟
 
  إنه عبدالله بن قيس المكنّى بـأبي موسى الأشعري..
غادر اليمن بلده ووطنه إلى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو إلى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..
وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..
ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..
وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الإسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..
وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..
ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..
وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:
" إن الأشعريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.
" فهم مني.. وإنا منهم"..!!
ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم إن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وإن يكونوا حملة الإسلام إلى الدنيا في كل عصورها ودهورها..
 
  أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..
فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..
وهو مسالم طيب, وديع إلى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!
وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه إلى مغاليق الأمور, ويتألق في الإفتاء والقضاء, حتى قيل:
" قضاة هذه الأمة أربعة:
" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!
ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!
وهو عظيم الولاء والمسؤولية..
وكبير الثقة بالناس..
لو أردنا إن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:
" الإخلاص وليكن ما يكون"..
في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه:
" سيّد الفوارس, أبو موسى"..!!
وإنه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:
" خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!
وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..
فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..
 
  ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس إن هبط الأشعري بجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..
بيد إنهم في صلحهم  ذاك لم يكونوا صادقين.. إنما أرادوا إن يهيئوا لأنفسهم الإعداد لضربة غادرة..
ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة إليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!
 
   وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ إمبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..
وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه إليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..
ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وإنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..
واتقى الجيشان..
جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..
وانسحب الفرس إلى داخل مدينة تستر المحصنة..
وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..
وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.
ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.
واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى إلى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..
 
  على إن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل إلى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور...
يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:
" لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!
كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:
" شوّقنا إلى ربنا يا أبا موسى"..
كذلك لم يكن يشترك في قتال إلا إن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..
أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فإنه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.
ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.
ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الإمام علي ومعاوية.
هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على إفراط أبي موسى في الطيبة إلى حد يسهل خداعه.
بيد إن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى إن يكون فيه تسرّع أو خطأ, إنما يكشف عن عظمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة إيمانه بالحق, وبالناس, إن رأى أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في إنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لإمام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.
نقول: إن رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.
إن الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك إنما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الإمام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد إلى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.
هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.
صحيح إن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.
وصحيح إن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي إن يمكّن من غرضه في إسقاط الحق المشروع. بيد إن الأمور في النزاع  بين الإمام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد  بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..
بل إن ذلك كله تطوّر إلى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الإسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.
فإزاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..
ولقد كان من رأي الإمام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.
وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..
ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في إخلاصه وصدقه ما يريب الإمام.. لكنه كان يدرك نوايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب إن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الإمام علي إن ينخدع  أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم إلى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا...
 
  بدأ التحيكم بين الفريقين..
أبو موسى الأشعري يمثل  جبهة الإمام علي..
وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.
والحق إن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.
ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو إن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى إعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من إجماع رائع على حبه وتوقيره وإجلاله.
ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..
إن مغزى اقتراح أبي موسى, إنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الإمام علي..
ومعناه أيضا إنه مستعد لإسناد الخلافة إلى آخرين من أصحاب الرسول بدليل إنه اقترح عبدالله بن عم..
وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح إلى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.
ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فإنه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام إلى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب إن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..
وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجلي لصالح معاوية..
ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:
أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟
عمرو: وما هو..؟
أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فإنه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.
عمرو: وأين أنت من معاوية..؟
أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.
عمرو: ألست تعلم إن عثمان قتل مظلوما..؟
أبو موسى: بلى..
عمرو: فإن معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فإن قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فإن لك في ذلك عذرا. تقول: إني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم  حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..
أبو موسى: اتق الله يا عمرو..
أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فإنه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟
وأما قولك: إن معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..
ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..
عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟
أبو موسى: إن ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..
عمرو: يا أبا موسى, إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!
أبو موسى: ويحك يا عمرو.. إن المسلمين قد أسندوا إلينا الأمر بعد إن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.
عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى إن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..
عمرو: رضيت بهذا الرأي فإن صلاح النفوس فيه..
إن هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا إن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..
إن أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..
بل إنه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..
فعندما أراد عمرو إن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد  أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..
اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..
وإذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, أولى بهذه الولاية من معاوية..
 
  لقد سارت قضية التحكيم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤوليتها عمرو بن العاص وحده..
فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر إلى الأمة, تقول كلمتها وتختار خليفتها..
ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..
ولم يكن يخطر ببال أبي موسى إن عمرو في هذا الموقف  الذي يهدد الإسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ إلى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..
ولقد حذره ابن عباس حين رجع إليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..
حذره من مناورات عمرو وقال له:
" أخشى والله إن يكون عمرو قد خدعك, فإن كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!
لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من إن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..
واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الإمام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..
ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:
 
" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!
وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
وقال:
" أيها الناس.. إنا قد نظن فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..
وإني قد خلعت عليا ومعاوية..
فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...
وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا  للاتفاق المبرم بالأمس...
وصعد عمرو المنبر, وقال:
" أيها الناس, إن أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,
ألا وإني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فإنه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!
ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..
وعاد من جديد إلى عزلته, وأغذّ خطاه إلى مكة.. إلى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..
كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه وأصحابه وحبهم...
ففي حياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..
وبعد وفاة الرسول عاد إلى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الإسلام ضد فارس والروم..
وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..
وولاه الخليفة عثمان الكوفة..
 
  وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..
ومن كلماته المضيئة عن القرآن:
" اتبعوا القرآن..
ولا تطمعوا في إن يتبعكم القرآن"..!!
وكان من أهل العبادة المثابرين..
وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:
" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..
   
  وذات يوم رطيب جاءه أجله..
وكست محيّاه إشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز
والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها:
تلك هي:
" اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 5:12

طلحة بن عبيد الله (صقر يوم أحد)


( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا {23}الأحزاب)...
تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة, ثم استقبل وجوه أصحابه, وقال وهو يشير إلى طلحة:
" من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض, وقد قضى نحبه, فلينظر إلى طلحة"..!!
ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله, وتطير قلوبهم شوقا إليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله..
لقد اطمأن إذن إلى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا, ويموت, وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة, ولن يدركه لغوب..
ولقد بشّره الرسول بالجنة, فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟
  

  لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها, وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم, والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..
وحّر طلحة أن يفوته موكبه, فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص..
وحين عاد طلحة إلى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر, ألفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم, أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها إلى العرب خاصة, وإلى الناس كافة..
وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد, وأنه يقف إلى جوار محمد مؤمنا منافحا, أوّابا..
وحدّث طلحة نفسه: محمد, وأبو بكر..؟؟
تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!!
ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره, وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله, ويقول: أنه أرسلني وأرسل إليّ وحيا..؟؟
 

  وهذا هو الذي يصعب تصديقه..
وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر..
ولم يطل الحديث بينهما, فقد كان شوقه إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه..
فصحبه أبو بكر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة..
وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين.
  

  وعلى الرغم من جاهه في قومه, وثرائه العريض, وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش, إذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد, وكان يدعى أسد قريش, بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه, إذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها, وخافت عاقبة أمرها..
وهاجر طلحة إلى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة, ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, عدا غزوة بدر, فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة..
ولما أنجزاها ورجعا قافلين إلى المدينة, كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر, فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..
بيد أن الرسول أهدى إليهما طمأنينة سابغة, حين أنبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما, بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..
وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بإنزال هزيمة نهائية بالمسلمين, هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا, وقدرا مقدورا..!!
ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين..
 

  ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم, ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم..
وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة, فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة..
واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه, وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين..
وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك  والوثنية, فسارع نحو الرسول..
وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات  من الرماح المجنونة!!
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم  ويتحامل على نفسه, فجنّ جنونه, وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه, وتحيط به تريد أن تناله بسوء..
 

  ووقف طلحة كالجيش اللجب, يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا..
ورأى دم الرسول الكريم ينزف, وآلامه تئن, فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه..
كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره, متأخرا به إلى مكان آمن, بينما بيمينه, بارك الله يمينه, تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول, وملؤوا دائرة القتال مثل الجراد..!!
ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد..
تقول عائشة رضي الله عنها:
" كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم أخاكم.. ونظرنا وإذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. وإذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شانه" .
 

  وفي جميع المشاهد والغزوات, كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله, ويفتدي راية رسوله.
ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة, يعبد الله مع العابدين, ويجاهد في سبيله مع المجاهدين, ويرسي بساعديه مع سواعد إخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور..
فإذا قضى حق ربه, راح يضرب في الأرض, ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة, وأعماله الناجحة.
فقد كان طلحة رضي الله عته من أكثر المسلمين ثراء, وأنماهم ثروة..
وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته...
كان ينفق منها بغير حساب..
وكان اله ينمّيها له بغير حساب!
 

  لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـطلحة الخير, وطلحة الجود, وطلحة الفيّاض إطراء لجوده المفيض.
وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة, فإذا الله الكريم يردها إليه مضاعفة.
 

  تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:
" دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما, فسألته ما شانك..؟
فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني..
وقلت له ما عليك.. اقسمه..
فقام ودعا الناس, واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"...
ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع, ونظر إلى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:
" إن رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري  ما يطرق من أمر, لمغرور بالله"...
ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه, ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها, حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!
ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول:
" ما رأيت أحد أعطى لجزيل مال من غير مسألة, من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه, فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..
وقد قيل عنه في ذلك:
".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته, ومؤنة عياله..
وكان يزوج أيامهم, ويخدم عائلهم, ويقضي دين غارمهم"..
 

  ويقول السائب بن زيد:
" صحبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما وجدت أحدا, أعمّ سخاء على الدرهم, والثوب والطعام من طلحة"..!!
 

   وتنشب الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه..
ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان, ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير وإصلاح..
أكان بموقفه هذا, يدعو إلى قتل عثمان, أو يرضى به..؟؟ كلا...
ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقدا مخبولا, ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه..
نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى إلى هذا المأزق والمنتهى لقاومها, ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير, لا أكثر..
 

  على أن موقف طلحة هذا, تحوّل إلى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل, فلم يكد الإمام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير, حتى استأذن الاثنان في الخروج إلى مكة للعمرة..
ومن مكة توجها إلى البصرة, حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان..
وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان, والفريق الذي يناصر عليّا..
وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الإسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة, تنتفض همومه, وتهطل دموعه, ويعلو نشيجه..!!
 

  لقد اضطر إلى المأزق الوعر..
فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع, وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة, أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة..
وحين ينهض لقمع تمرّد من هذا النوع, فان عليه أن يواجه إخوانه وأصحابه وأصدقاءه, وأتباع رسوله ودينه, أولئك الذين طالما قاتل معهم  جيوش الشرك, وخاضوا معا تحت  راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم, وجعلت منهم إخوانا بل إخوة متعاضدين..
فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟
وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق, وصون دماء المسلمين لم يترك الإمام علي وسيلة إلا توسّل بها, ولا رجاء إلا تعلق به.
ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الإسلام, وما أكثرها, والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة, أيام عاهلها العظيم عمر, هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة, وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها...
 

  بكى عليّ بكاء غزيرا, عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله..
وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير, حوراييّ رسول الله..
فنادى طلحة والزبير ليخرجا إليه, فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم..
فقال لطلحة:
" يا طلحة, أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها. وخبأت عرسك في البيت"..؟؟
ثم قال للزبير:
" يا زبير, نشدتك الله, أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا, فقال لك: يا زبير, ألا تحبّ عليّا..؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي, وابن عمي, ومن هو على ديني..؟؟
فقال لك: يا زبير, أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم"..!!
قال الزبير رضي الله عنه: نعم أذكر الآن, وكنت قد نسيته, والله لا أقاتلك..
وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية..
أقلعا فور تبيّنهما الأمر, وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ, تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار:
 

" تقتلك الفئة الباغية"..
فان قتل عمّار إذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة, فسيكون طلحة باغيا...
  

  انسحب طلحة والزبير من القتال, ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما, ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى..
أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي..!!
وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته..
  

  كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة, حتى صار عقدة حياته..
كل هذا, مع أنه لم يشترك بالقتل, ولم يحرّض عليه, وإنما ناصر المعارضة ضدّه, يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول إلى تلك الجريمة البشعة..
 

  وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان, كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره..
وكان قبل بدء المعركة يدعو ويتضرع بصوت تخنقه الدموع, ويقول:
" اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى"..
 

  فلما واجهه عليّ هو والزبير, أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما, فرأيا الصواب وتركا أرض القتال..
بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان  يكون..
ألم يقل الرسول عنه:
" هذا ممن قضى نحبه, ومن سرّه أن يرى شهيدا يمشي على الأرض, فلينظر إلى طلحة"..؟؟
لقي الشهيد إذن مصيره المقدور والكبير, وانتهت وقعة الجمل.
وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة  إلى البيت الحرام فالمدينة, نافضة يديها من هذا الصراع, وزوّدها الإمام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم..
وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا, الذين كانوا معه, والذين كانوا ضدّه..
ولما فرغ من دفن طلحة, والزبير, وقف يودعهما بكلمات جليلة, اختتمها قائلا:
" إني لأرجو أن أكون أنا, وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {47}الحجر )"..
ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال:
" سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" طلحة والزبير, جاراي في الجنّة"...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 5:14

ثابت بن قيس (خطيب رسول الله)
  كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والإسلام..
وكان ثابت خطيب  خطيب رسول الله والإسلام..
وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية, صادعة, جامعة رائعة..
وفي عام الوفود, وفد على لمدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
" جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..
فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:
" قد أذنت لخطيبكم, فليقل"..
وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..
ولما آذن بانتهاء, قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..
ونهض ثابت فقال:
" الحمد لله, الذي في السموات والأرض خلقه, قضى فيهنّ أمره, ووسع كرسيّه علمه, ولم يك شيء قط إلا من فضله..
ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا. وأصدقهم حديثا. وأفضلهم حسبا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين..
ثم دعا الناس إلى الإيمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا, وخيرهم فعالا..
ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة..
فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله"..
  
  شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد, والمشاهد بعدها.
وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!
في حروب الردّة, كان في الطليعة دائما, يحمل راية الأنصار, ويضرب بسيف لا يكبو, ولا ينبو..
وفي موقعة اليمامة, التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة, رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة, فصاح بصوته النذير الجهير:
" والله, ما هذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
ثم ذهب بغير بعيد, وعاد وقد تحنّط, ولبس أكفانه, وصاح مرة أخرى:
" إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء..
يعني جيش مسيلمة..
وأعتذر إليك مما صاع هؤلاء..
يعني تراخي المسلمين في القتال"..
وانضم إليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحمل راية المهاجرين..
وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين, وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..
وهكذا وقفا..طودين شامخين, نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى, صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..
وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما, ومالت شمس كل منهما للغروب..!!
وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين إلى مواقعهم, حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!
   
وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا, وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة, وقلبا خاشعا مخبتا, وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله, وحياء منه..
  
  لما نزلت الآية الكريمة:
( إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا {36}النساء)..
أغلق ثابت باب داره, وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال, حتى نمى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, فدعاه وسأله.
فقال ثابت:
" يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:
" انك لست منهم..
بل تعيش بخير..
وتموت بخير..
وتدخل الجنة".
ولما نزل قول الله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {2}الحجرات )..
أغلق ثابت عليه داره, وطفق يبكي..
وافتقده الرسول فسأل عنه, ثم أرسل من يدعوه...
وجاء ثابت..
وسأله الرسول عن سبب غيابه, فأجابه:
" إني امرؤ جهير الصوت..
وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..
وإذن فقد حبط عملي, وأنا من أهل النار"..!!
وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:
" انك لست منهم..
بل تعيش حميدا..
وتقتل شهيدا..
ويدخلك الله الجنة".
  
  بقي في قصة ثابت واقعة, قد لا يستريح إليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم  وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق  الذي يلمسونه, أو يبصرونه, أو يشمّونه..!
ومع هذا, فالواقعة صحيحة, وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر, البصيرة..
بعد أن استشهد ثابت في المعركة, مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام ورأى على جثمان ثابت دعه الثمينة, فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه, فأخذها..
ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:
".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.
فقال له: إني أوصيك بوصية, فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.
إني لما استشهدت بالأمس, مرّ بي رجل من المسلمين.
فأخذ درعي..
وان منزله في أقصى الناس, وفرسه يستنّ في طوله, أي في لجامه وشكيمته.
وقد كفأ على الدرع برمة, وفوق الأبرمة رحل..
فأت خالدا, فمره أن يبعث فيأخذها..
فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر, فقل له: إن عليّ من الدين كذا كذا..
فليقم بسداده..
فلما استيقظ الرجل من نومه, أتى خالد بن الوليد, فقصّ عليه رؤياه..
فأرسل خالد من يأتي بالدرع, فوجدها كما وصف ثابت تماما..
ولما رجع المسلمون إلى المدينة, قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا, فأنجز وصيّة ثابت..
وليس في الإسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو, سوى وصيّة ثابت بن قيس..
 
  حقا إن الإنسان لسرّ كبير..
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169}آل عمران )
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 5:16

زييد بن حارثة (لم يحب حبة أحد)


وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الإسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة, قائلا:
" عليكم زيد بن حارثة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة".
فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟
من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟
أما مظهره وشكله, فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:
" قصير, آدم, أي أسمر, شديد الأدمة, في أنفه فطس"..
أمّا نبؤه, فعظيم جدّ عظيم..!!
  

  أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.
وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة, وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو إلى داره وعمله, ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..
لكنّ الشقّة بعدت, والقافلة أغذّت سيرها, وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه, ويعود..
وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره, وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!
 

  ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..
وذات يوم فوجئ الحيّ, حي بني معن, بإحدى القبائل المناوئة له تغير عليه, وتنزل الهزيمة ببني معن, ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع, زيد بن حارثة..
وعادت الأم إلى زوجها وحيدة.
ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا, وحمل عصاه على كاهله, ومضى يجوب الديار, ويقطع الصحارى, ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد, مسليّا نفسه, وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:
بكيــت على زيد ولم ادر ما فعل                     أحيّ فترجى؟ أم أتى دونـــــه الأجل

فوالله ما أدري, واني لسائـــــل                     أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل

 تذكرينه الشمس عند طلوعها                      وتعرض ذكراه إذا غروبــــــــها أفل

وان هبّـت الأرواح هيّجن ذكره                      فيا طول حزني عليــــــــه, ويا وجل

  

  كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..
كان ذلك في أثينا, حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..
وكذلك كان في روما..
وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..
وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها, وعادت  حاملة أسراها, ذهبت إلى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ, وباعوا الأسرى..
 
ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.
وكانت خديجة رضي الله عنها, قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله, الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..
 

ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد  لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره,وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..
وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة, ونقلوا إليه لوعة والديه, وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه, وقال للحجّاج من قومه"
" أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد"..
 

  ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير إليه, ومعه أخوه..
وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:
"يا بن عبدالمطلب..
يا بن سيّد قومه, أنتم أهل حرم, تفكون العاني, وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا, فامنن علينا وأحسن في فدائه"..
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به, وكان في نفس الوقت يقدّر حق أبيه فيه..
 

  هنالك قال حارثة:
"ادعوا زيدا, وخيّروه, فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!
وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:
" لقد أنصفتنا, وزدتنا عن النصف"..
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد, ولما جاء سأله:
" هل تعرف هؤلاء"..؟
قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.
وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:
" ما أنا بالذي أختار عليك أحدا, أنت الأب والعم"..!!
ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية, ثم أمسك بيد زيد, وخرج به إلى فناء الكعبة, حيث قريش مجتمعة هناك, ونادى الرسول:
" اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!
وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب, بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..
وعاد الأب والعم إلى قومهما, مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة, آمنا معافى, بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل, أم غاله الجبل..!!
 

   تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها إلا باسمه هذا زيد بن محمد..
وفي يوم باهر الشروق, نادى الوحي محمدا:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}العلق )...
ثم تتابعت نداءاته وكلماته:
( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3}المدثر)...
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {67}المائدة )...
وما إن حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!
 

   أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما, وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له, وعظمة روحه, وعفّة ضميره ولسانه ويده...
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..
تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:
" ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط إلا أمّره عليهم, ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...
إلى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فمن كان زيد هذا..؟؟
إنه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي, ثم بيع, ثم حرره الرسول وأعتقه..
وانه ذلك الرجال القصير, الأسمر, الأفطس الأنف, بيد أنه أيضا ذلك الإنسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..
ومن ثم وجد له في الإسلام, وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان, فلا الإسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب, ولا بوجاهة المظهر.
ففي رحاب هذا الدين العظيم, يتألق بلال, ويتألق صهيب, ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...
يتألقون جميعا كأبرا, وقادة..
لقد صحح الإسلام قيم الإسلام, قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}الحجرات )...
وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة, وللكفايات النظيفة, الأمينة, المعطية..
وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب, ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ترغب بنفسها عن نفسه..
ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر, وتستنفد عوامل بقائها, فانفصل زيد عن زينب.
وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن إمضائه, والذي انتهى بالانفصال, فضمّ ابنة عمته إليه واختارها زوجة له, ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..
 

  وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟
فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة, ومقررا إلغاء عادة التبني, ومعلنا:
( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم, ولكن رسول الله, وخاتم النبين).
وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".
 

  والآن..
هل ترون هذه أقوات المسلمة الخارجة إلى معارك, الطرف, أو العيص, وحسمي, وغيرها..
إن أميرها جميعا, هو زيد بن حارثة..
فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط, إلا جعله أميرا على هذا الجيش"..
 

  حتى جاءت غزوة مؤتة..
كان الروم بإمبراطوريتهم  الهرمة, قد بدأوا يوجسون من الإسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم, ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها, والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد, المنطلق في عنفوان واكتساح..
وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية, وبلاد الإسلام...
  

  وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الإسلام, فقرر أن يبادرهم, ويقنعهم بتصميم الإسلام إلى أرض البلقاء بالشام, حتى إذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..
ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..
في حين نزل جيش الإسلام بجوار بلدة تسمّى مؤتة, حيث سمّيت الغزوة باسمها...
  

  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل, والفرسان في النهار..
ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون إثره رضوان الله تعالى, ويطالعون وجهه الكريم..
وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في إمارة الجيش هم:
زيد بن حارثة,
جعفر بن أبي طالب,
عبدالله بن رواحة.
رضي الله عنهم وأرضاهم, ورضي الله عن الصحابة أجمعين...
وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:
" عليكم زيد بن حارثة..
فان أصيب زيد,  فجعفر بن أبي طالب,...
فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة"...
وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وعلى الرغم من شجاعته, وجسارته, وحسبه ونسبه, فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد, وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...
وبمثل هذا, كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الإسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الإنسانية الفاسدة, والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل, لينشئ مكانها علاقات جديدة, رشيدة, قوامها إنسانية الإنسان...!!
  

  ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع أمراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر, فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!
 

  ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..
ولكن متى كانت معارك الإيمان معارك كثرة..؟؟
هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم, مقتحما رماح العدو نباله وسيوفه, لا يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء, ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة, ورفرفها الأخضر, تخفق أمام عينيه كالأعلام, تنبئه أن اليوم يوم زفافه..
وكان هو يضرب, ويقاتل, لا يطوّح رؤوس مقاتليه, إنما يفتح الأبواب, ويفضّ الإغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع, إلي سيدلف منه إلى دار السلام, وجنات الخلد, وجوار الله..
 

  وعانق زيد مصيره...
وكانت روحه وهي في طريقها إلى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها, لا يلفه الحرير الناعم, بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..
ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة, وهي تبصر ثاني الأمراء جعفراً يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها, وليحملها قبل أن تغيب في التراب....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صالح المحلاوى

صالح المحلاوى


اعلام خاصة : رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 192011_md_13005803803
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 18119
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
الموقع الموقع : المحلة - مصر المحروسة
العمل/الترفيه : اخضائى اجتماعى
المزاج : متوفي //

رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)   رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم) - صفحة 2 I_icon_minitimeالأحد 5 أبريل 2015 - 5:17

زيد بن ثابت (جامع القرآن)


إذا حملت المصحف بيمينك, واستقبلته بوجهك, ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات, سورة سورة, وآية آية, فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم, رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!
وان وقائع جمع القرآن في مصحف, لا تذكر إلا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..
وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع إليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه, فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور, لحظ عظيم..
  

  هو أنصاري من المدينة..
وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا, إحدى عشرة سنة, وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله, وبورك بدعوة من الرسول له..
وصحبه آباؤه معهم إلى غزوة بدر, لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه, وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول يحملون إليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..
وكان أهلوهم أكثر ضراعة وإلحاحا ورجاء..
ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة, وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..
لكن أحدهم وهو رافع بن خديج, تقدم بين يدي رسول الله, يحمل حربة, ويحركها بيمينه حركات بارعة,وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:
" إني كما ترى رام, أجيد الرمي فأذن لي"..
وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة, النضرة, بابتسامة راضية, ثم أذن له..
وانتفضت عروق أترابه..
وتقد ثانيهم وهو سمرة بن جندب, وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين, وقال بعض أهله للرسول:
" إن سمرة يصرع رافعا"..
وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية, وأذن له..
 

  كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة, إلى جانب نموهما الجسماني القوي..
وبقي من الأتراب ستة أشبال, منهم زيد بن ثابت, وعبدالله بن عمر..
ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة, وبالدمع تارة, وباستعراض عضلاتهم تارة..
لكن أعمارهم كانت باكرة, وأجسامهم غضة, فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..
بدأ زيد مع إخوانه دوره كمقاتل في سبي الله بدءا من غزوة الخندق, سنة خمس من الهجرة.
 

  كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا, فهو لم يبرع كمجاهد فحسب, بل كمثقف متنوع المزايا أيضا, فهو يتابع القرآن حفظا, ويكتب الوحي لرسوله, ويتفوق في العلم والحكمة, وحين يبدأ رسول الله في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي كله, وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها, يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..
وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا, وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..
يقول الشعبي:
" ذهب زيد بن ثابت ليركب, فأمسك ابن عباس بالرّكاب.
فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا, هكذا نصنع بعلمائنا"..
ويقول قبيصة:
" كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء, والفتوى والقراءة, والفرائض"..
ويقول ثابت بن عبيد:
" ما رأيت رجلا أفكه في بيته, ولا أوقر في مجلسه من زيد".
ويقول ابن عباس:
" لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..
إن هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الإسلام كله..
مهمة جمع القرآن..
  

  منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه إلى رسول الله ليكون من المنذرين, مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}العلق)..
منذ تلك البداية, والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويخف إليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..
وخلال سنوات الرسالة كلها, حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى, وحيث يحبط مكيدة وحربا, ليواجه خصومة بأخرى, وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..
 

  كان الوحي يتنزل, والرسول يتلو, ويبلّغ, وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم, فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع, وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة, يحتفظون بالآيات مسطورة.
وخلال إحدى وعشرين سنة تقريبا, نزل القرآن خلالها آية آية, أو آيات, تلو آيات, ملبيا مناسبات النزول وأسبابها, كان أولئك الحفظة, والمسجلون, يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..
ولم يجئ القرآن مرة واحدة وجملة واحدة, لأنه ليس كتابا مؤلفا, ولا موضوعا.
إنما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة, لبنة لبنة, ويوما يوما, تنهض عقيدتها, ويتشكل قلبها, وفكرها, وإرادتها وفق مشيئة إلهية, لا تفرض نفسها من عل, وإنما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..
ومن ثمّ, كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما, ومجزأ, ليتابع التجربة في سيرها النامي, ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.
توافر الحفاظ, والكتبة, كما ذكرنا من قبل, على حفظ القرآن وتسجيله,وكان على رأسهم علي بن أبي طالب, وأبيّ بن كعب, وعبدالله ابن مسعود, وعبدالله بن عباس, وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..
  

  وبعد أن تمّ نزولا, وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله, كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..
وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهداء من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر إلى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا إليه في إلحاح أن يسارعوا إلى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.
واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:
" إنك شاب عاقل لا نتهمك".
وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم, مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..
ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الإسلام كله كدين..!
وأبلى بلاء عظيما في انجاز أشق المهام وأعظمها, فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ, ومن مواطنها المكتوبة, ويقابل, ويعارض, ويتحرّى, حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..
ولقد زكّى عمله إجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها, لا سيّما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..
وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..
" والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه, لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!
أجل..
فلأن يحمل زيد فوق كاهله جبلا, أو جبالا, أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ, في نقل آية أو إتمام سورة..
كل هول يصمد له ضميره ودينه.. إلا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصود..
ولكن توفيق الله كان معه, كان معه كذلك وعده القائل:
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}الحجر)..
فنجح في مهمته, وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.
 

   كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..
بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..
 

  وعلى الرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية, فإن التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدها جميعها في مصحف واحد.
ففي خلافة عثمان رضي الله عنه, والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحفهم, مبتعدين عن المدينة, مغتربين عنها..
في تلك الأيام, والإسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه, المبايعين إياه, ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي إليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..
هنالك تقدم إلى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..
 

  واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..
وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت, استنجد به عثمان أيضا..
فجمع زيد أصحابه وأعوانه, وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها, وكانت محفوظة لديها, وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..
كان كل الذين يعاونون زيدا من كتاب الوحي, ومن حفظة القرآن..
ومع هذا فما كانوا يختلفون , وقلما كانوا يختلفون, إلا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.
  

  والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا, أو نسمعه مرتلا, فإن الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!
تماما مثل الأهوال التي كابدوها, والأرواح التي بذلوها, وهم يجاهدون في سبيل الله, ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما, وليبددوا ظلامها بنوره المبين.. 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 3انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» رجال حول الرسول(صلى الله علية وسلم)
» من قول الرسول-صلى الله علية وسلم
» من أقوال الرسول\صلى الله علية وسلم.....
» من أقوال الرسول-صلى الله علية وسلم
» ولد الهدى(مدح الرسول صلى الله علية وسلم)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المصـــــــــــراوية :: المنتديات الدينية :: السيرة النبوية { حبيبي يارسول الله } صل الله عليه وسلم-
انتقل الى: