الثورة العرابية على ذكر تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
عاش الشيخ محمد عبده قبل الثورة العرابية، وشهد عهدها، وبقي بعدها زمنًا مديدًا، وهو في رأينا أوثق مصادر تاريخها وحوادثها، وليس يضعف هذه الثقة به أنه كان يعترض على الطريق الذي أخذه عرابي والاتجاه الذي مال إليه، فقد كانت خصومته لعرابي خصومة رأي، وكان لبعد نظره ونفاذ بصيرته يلمح المغبة السيئة التي انتهى إليها أمر العرابيين، ويتوقع الاحتلال الإنجليزي الذي أسفرت عنه حركتهم، على أنه لم يسعه حين وقعت الواقعة إلا أن يجعل ضلعه مع الثائرين مخطئين كانوا أو مصيبين، وأن يحتمل نصيبه من النفي والتشريد، ولم يكن هناك خلاف في الغاية، وإنما كان الخلاف على الوسائل، فكان عرابي وزملاؤه يلهجون بالاستبداد والحرية والحكومات المطلقة والدستورية، وينادون بأن إنشاء حكومة مقيدة قد آن في مصر أوانه، ويسعون لذلك بقوة الجيش، وكان الأستاذ الإمام يعارض في ذلك ويقول إن تربية الأمة أول ما يجب البدء به لإخراج رجال قادرين على الاضطلاع بأعباء الحكومة النيابية «على بصيرة مؤيدة بالعزيمة»، وقد أساء بالعرابيين فهم ما يقصد إليه الأستاذ وحنقوا عليه، ولعلهم كبر عليهم أن يروا رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا ويسمع منه ومن أتباعه ما يكره، وأن يروا إلى جانب ذلك أن هذا الشيخ لا يخاف بأسهم ولا يبالي قوتهم، ولا يحجم عن الجهر بمعارضته لهم في حفل يضم زعماءهم، فغضبوا وكاشفوا المرحومين السيد أحمد علي محمود وإبراهيم أفندي الوكيل — وكانا من خلصاء الأستاذ — بما أضمروا له من السوء، فدخل هذان في الأمر وأرادا الوساطة، وأعدَّا احتفالًا في منزل قريب ثانيهما في قصر الشوق — بيت جدي لأبي — شهده كل ذي جاه ومقام ليصلحا ذات البين، فتوالى الخطباء حتى جاء دور الأستاذ فقام ليفسر مقصده من خطبة سابقة، فجاء التفسير أسوأ وقعًا في نفوس العرابيين.
وهنا يقول السيد رشيد رضا مؤرخ الأستاذ الإمام — وقد أصاب: «ولا يلتبس على القارئ معارضة الأستاذ الإمام للعرابيين في مشروع مجلس النواب وتقييد السلطة، مع أنه كان الداعي الثاني إلى ذلك بعد أستاذه (السيد جمال الدين)؛ فإنه إنما كان يحاول أن يكون ذلك برضى الأمير وحكومته لا بالخروج عليه، وأن يكون في البداية من قبيل التمرين والتعويد مقرونًا بالتربية والتعليم إلى أن تبلغ النابتة الجديدة أشدها وتصل من طريق الحكمة إلى رشدها، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالإصلاح عند مهب الفتنة، ولم يلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة؛ لأنه في فكره وسط بين الطرفين وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: «عليك بالهدوء والسكينة وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين».»
وكان الشيخ محمد عبده يعتقد بحق — كما أريناك في الفصل السابق — أن برلمانًا يجيء بقوة الجيش لا جرم يكون آلة مسخَّرة في يد القابضين على أزمة هذا الجيش، وكان أعرف بحال بلاده من أن يرجو خيرًا من برلمان يكون وليد القوة من ناحية والدسائس الأجنبية من ناحية أخرى، ثم كان أدرى بطبائع الناس من أن يقبل عقله أن تجيء المطالبة بتقييد السلطة الحاكمة من ذوي المصلحة في إطلاقها من القيود، وقد خطب مرة مبينًا أن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن القيام على أن الحكومات الاستبدادية وتقييد سلطتها وإلزامها الشورى والمساواة بين الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيها التعليم الصحيح والتربية النافعة، وحسن إدراكها لحقوقها، وعمق شعورها بسوء ما هي فيه، وصار لها رأي عام، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء، ورجال الحكومة يطلبون مساواتهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم ومحو استئثارهم بالجاه والوظائف، والتبرع بإشراك الطبقات الدنيا فيما لهم من ذلك، قال مخاطبًا زمرة الأغنياء وأصحاب الجاه: «فهل تغيرت سنة الله في الخلق وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت فيكم الفضيلة حدًّا لم يبلغ إليه أحد من العالمين حتى رضيتم واخترتم عن رويَّة وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في جاهكم ومجدكم وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث لا تدرون وتعملون ما لا تعلمون؟»
فهو غير متحيز للعرابيين؛ لأنه كان معارضًا لهم في نهجهم ولم يكن عدوًّا لهم؛ لأنه كان يطلب مثل غايتهم مع خلاف في الوسيلة، وقد انضم إليهم آخر الأمر لما عمَّت الفتنة وصار الأمر بين مصر ودولة أجنبية، فحكمه عليهم حري بأن يكون عادلًا لا يؤتى من جنيف.
على أنه اتُّهم بكراهته للأسرة المحمدية العلوية ورُمِيَ بإضمار العداوة لها، وما أرى هذا إلا ظلمًا له وعجزًا عن فهم موقفه حيال أفرادها، فما كان يبغض الأسرة كلها ولكنما كان يدرك مواطن الضعف في رجالها، وكان يعلم قيم رجالها، غير أنه لم يكن يجهل أخطاءهم، ولم يكن يكتم رأيه في هذه الأخطاء، وكان عيبه أنه بعيد النظر في وقت لم يكن الناس ينظرون فيه إلى ما هو أبعد من أنوفهم، وكان هؤلاء وأولئك يشعرون بمعارضته فلا يفهمون الباعث عليها ولا يستطيعون أن يروا بعينه وتثقل عليهم وطأة هذه المعارضة التي لا يدركون كنهها فيخيلونها على بغض في نفسه لأسرة محمد علي، وبحسبنا أن نورد هنا طائفة قليلة من الأمثلة؛ فقد روى الأستاذ الإمام في مذكراته ما حدث مرة من قلق الضباط من تأخر رواتبهم وإحساسهم بانحراف الخديوي عن نظَّار حكومته، ومهاجمتهم لنظارة المالية وضربهم لناظرها الإنجليزي وإهانتهم لرئيس النظار نوبار باشا، وشد أحدهم له من شاربيه حتى جاء الخديوي إسماعيل بنفسه وصرفهم، وكيف أن حركتهم إنما كانت بتحريك منه توسلًا إلى إسقاط وزارة نوبار باشا فتمَّ له ذلك، ولكن لم يمكن إسقاط الناظرين الأوروبيين، فأدخلا في الوزارة الجديدة التي تألفت برياسة توفيق باشا ولي العهد، وزاد تضييقهما على الخديوي في التصرف، فتوسل إلى عزلهما بوسيلة أخرى، وهي طلب أعيان البلاد لذلك؛ إذ اجتمعوا في دار السيد البكري، ووضعوا اللائحة الوطنية المشهورة التي تعهدوا فيها بوفاء ما على مصر لأوروبا من الديون وأنهم ضامنون لها.
وقد بيَّن الأستاذ ما في هذين العملين — تحريك الضباط، وجمع الأعيان للتعهد بوفاء الديون — من الخطل وقصر النظر؛ فأما تحريك الضباط فأمره واضح، وأما الالتجاء إلى الأعيان فقد قال في ذلك: «إنه أحدث في الناس شعورًا بقوة لم يكونوا يعرفونها من قبل، فقد أيقنوا أن الحاكم القوي السلطان قد صار في حاجة إليهم، ولا قوام لأمره إلا بالاعتماد عليهم؛ فزادهم ذلك ولوعًا بما كانوا يميلون إليه من وجوب اشتراكهم في أعمال الحكومة دفعًا للمضار التي نشأت من استقلال الحاكم بالرأي وانفراده بالسلطة.»
وعدَّ الأستاذ هذا الحادث من التمهيدات للثورة العرابية. وبعد أن بيَّن سيرة إسماعيل بعد ذلك، وكيف أنه عاد إلى التصرف في أموال الدولة وإلى التبذير وما أفضى إليه ذلك من سوء الحالة العامة وذهاب رياض باشا ونوبار باشا إلى أوروبا للإقامة فيها، وكيف سعى نوبار لإقناع فرنسا وإنجلترا بالسعي لخلع الخديوي إسماعيل، ثم إرسال فرنسا للمسيو تريكو مندوبًا خاصًّا فوق العادة ليعمل مع وكيل إنجلترا في مصر على مطالبة الخديوي بالتنازل لولي عهده، واستشارة الخديوي لحاشيته في الأمر وإشارة فريق بألا يتنازل ما دام الجيش حاضرًا يؤيده، وإشارة من كان يقال إنه أعلمهم بأن يتنازل — قال الأستاذ إن الرأي الأول كان عين الصواب، وإن الخديوي لو ظهر لمندوبي الدولتين بجلد الأسد الذي كان يلبسه للمصريين وأفهمهما أن دون التنازل الحرب لأمكنه لأن يرضيهما بوسيلة أخرى مع بقائه على العرش.
ومن الأمثلة أيضًا أن السيد جمال الدين كان قد أسَّس حزبًا في مصر باسم «الحزب الوطني الحر»، وكان بينه ويبن ولي العهد توفيق باشا محادثات في هذا الشأن؛ فانحاز ولي العهد إلى هذا الحزب، فلما تولى الخديوية بدأ عهده بما يرضي طلاب الإصلاح، وفي طليعتهم الأستاذ الإمام، فكتب إلى شريف باشا في اليوم الثاني من ولايته أمرًا بتشكيل الوزارة بعد قبول استعفائها صرَّح فيه برغبته في تحقيق آمال الأمة فيه، وإخراجها من حالتها السيئة بالاقتصاد في نفقات الحكومة والاستقامة في مباشرة الوظائف العامة وإصلاح القضاء والإدارة، ثم كتب في اليوم الخامس أمرًا آخر إلى مجلس النظار فصل فيه ما يحقق الآمال بجعل الحكومة شورى ونظارها مسئولين إلى آخر ذلك، ولكن وكيل فرنسا أخذ يسعى في إقامة الموانع دون إعطاء النواب حق النظر في تصحيح الموازين وتقرير الأمور المالية، ودعا وكيل إنجلترا لمعاونته على إقناع الخديوي بضرر هذه الإصلاحات، وساعدهما بعض المصريين من رجال الحاشية، فتأثَّر الخديوي بذلك، وعدل عما كان قد مال إليه من الإصلاح، ورفض لائحة شريف باشا؛ فاستقال فشكَّل الخديوي وزارة برياسته، ثم ثنى فنفى السيد جمال الدين بعد أن كان يقول له: «أنت موضع أملي في مصر أيها السيد.» ولو مضى الخديوي توفيق في الإصلاح لما وجد من الأستاذ إلا معينًا ومؤيِّدًا، ولا نحتاج أن نُذكِّر القراء بما رويناه في الفصل السابق من مظاهر إخلاص الأستاذ في النصح للخديوي السابق عباس حين كان يلجأ إليه في الملمَّات، فليست هناك كراهة لأسرة، ولكنما هناك رجل يقول الحق ولا يرضيه الزيغ عن طريقه أميرًا كان المخطئ أم وزيرًا.
كتب الأستاذ الإمام تاريخ الثورة العرابية — أو على الأصح بدأه — بطلب من أمير البلاد يومئذ الخديوي السابق عباس حلمي، وكان سموه يومئذ «مُوَادًّا للأستاذ الإمام شديد الرغبة في استفادة الأمة من معارفه، ولكنه لم يكد يتم القسم الأول من الكتاب، وهو ما تقدم الثورة من المقدمات والأسباب، ففتح لها الطاق والباب، حتى نجمت نواجم التناكر بين الأمير والأستاذ، وانتهت إلى المغاضبة الشديدة المعروفة، وكان مفسدو ذات البين قد ألقوا إلى الأمير أن الأستاذ عدو له ولبيت محمد علي، وأنه لا يزال يسعى لسلب الإمارة منهم، وبهذا سار تأليف الكتاب للأمير مشكلًا؛ لأنه قد يعد مؤيدًا لتهمة المفسدين بما فيه من إلقاء تبعة الثورة على الخديوي توفيق باشا مباشرة، وجعل ما كان من إسراف الخديوي إسماعيل باشا وسوء إدارته للبلاد، أسبابًا ممهدة لها».
نقول: هذا وحده ينقض تهمة العداء لبيت محمد علي؛ إذ لو كان الإمام يضمر لهذا البيت العداوة ويطوي أضالعه على إرادة السوء بها، لكان حقيقًا أن يمضي في تأليف الكتاب إلي ختامه غير عابئ برضى الأمير أو غضبه، بل لاغتنم هذا الغضب فرصة لتحرير قلمه من قيد المجاملة في كتاب يضعه للأمير وبأمره، لكنه أثر الأولى كراهة منه لهذا المعنى.
وقد قال في الخطاب الذي صدر به كتابه في الثورة: «مولاي: أرفع إلى سدتك السنية ما وقفت عليه بنفسي غير ناظر في كتاب ولا راجع إلى مقال سبقني به غيري، اللهم إلا بعض الأوامر الرسمية أو شيء من المخابرات السياسية التي أُضْطَرُّ في بيان الوقائع إلى الإشارة إليها.» واستهل كتابه بوصف حالة البلاد وحكومتها لمَّا نزل إسماعيل باشا عن إمارتها ووليها بعده توفيق باشا، وذكر ما كان من تدخل فرنسا وإنجلترا في الشئون المالية وغيرها، وتأثير المحاكم المختلطة في إضعاف سلطة الحكومة والتصرف في ثروتها وثروة الأمة، وما كان من سوء أحوال رجال الحكومة وأحوال الجند؛ واستنزاف المرابين لأموال الأمة ومساعدة الحكومة لهم، والاضطراب العام في البلاد وإشرافها على المجاعة، وما كان عليه الناس من الاعتماد على الحكومة فيما جلَّ ودقَّ، وكيف أنهم يعدون أنفسهم ملكًا لها، ثم انتقل إلى الكلام على بداية النهضة وفضل السيد جمال الدين الأفغاني، وكيف انطلقت الألسنة وتحرَّرت الأفكار، وشعرت النفوس بحقوقها، وتعلقت بالإصلاح لولا سوء حال الحكومة وفساد رجالها ودسائس الأجانب. وبعد أن أتى بإيجاز على عهد إسماعيل انتقل إلى ولاية توفيق باشا وافتتاحه عهده بالتظاهر بالإصلاح ثم وقوعه تحت تأثير الأجانب وبطانة السوء، فلم تلبث وزارة شريف باشا أن استقالت، وتلا استقالتها نفي السيد جمال الدين.
وقبيل استقالة شريف باشا سرح عدد عظيم من الجنود إلى بلادهم، وتقرر جعل الجيش اثني عشر ألفًا فقط، فقدَّم جماعة من الضباط التماسًا إلى الخديوي بعزل ناظر الجهادية، وبنوا ذلك على أسباب منها رداءة المأكل وضررها بصحة العساكر، ومنها سوء حال المستودعين وعدم النظر في إصلاح معاشهم، وبعد أيام استقالت وزارة شريف باشا، ولم يُعْنَ أحد بالتفكير في علاج هذه الفوضى التي ظهرت بوادرها في الجيش. قال الأستاذ: «وإنما قلت إنها فوضوية؛ لأن للضباط حق الشكوى مما يصل إليهم من الأذى أو ما يجدونه من الضرر، ولكن لا حقَّ لهم في طلب العزل والنصب، فما فعلوا كان خارجًا عن حد النظام، ولهذا كان جديرًا بالالتفات.»
وكان الخديوي قد تولَّى رياسة الوزارة نحو شهر، فأقنعه القناصل بغير ذلك، وانتهى الأمر بدعوة رياض باشا وتعيينه رئيسًا للوزارة، وكانت المسألة المالية هي المهمة، وهنا يحسن أن ننقل من مذكرة الأستاذ قال: «كان معظم الاهتمام منصرفًا إلى إرضاء الأجانب ووضع أساس مكين يضمن لهم وفاء ما كانوا ينالون من فوائد الدين الباهظ. ظهر عجز الحكومة عن تأدية بعض أقساط من دينها في أوقاتها المحددة سنة ١٨٧٦، وكان الخديوي الأسبق (إسماعيل) يريد أن يكون ذلك العجز معروفًا عند الدول ذات النفوذ، ويجب أن يتداخلن أيضًا في تحديد وجوه الوفاء وطرق التسديد ظنًّا منه بأنه متى ثبت عجز المالية المصرية عن أداء الدين ولم يبقَ من وجوه الوفاء ما يكفي له أعلنت الدول قطع مرتب الأستانة (الجزية)، ونادت به ملكًا مستقلًّا على مصر، لا يؤدي خراجًا إلى سلطان آخر، وكان يَسُرُّه أن يكون ملكًا ولو على بلاد خربة ورعية ضئيلة وبين خليط من الأجانب يصرفونه في داخلية بلاده حسب ما يريدون، ثم لم يكف الخديوي الأسبق عن تصرفه الخفي في المالية المصرية بما يزيد ارتباكها، وكلما تقدَّم الزمن ظهر الاختلال فيها فيدعو وكلاء الدول السياسيين للتدخل في إصلاحها، ثم هم يجيبونه إلى ما يدعوهم إليه تمكينًا لحقِّ التدخل في الشئون المصرية، إلى أن جر الأمر إلى تعيين لجنة التفتيش العليا، ولم يكن فيها إلا مصري واحد.»
وبعد أن سرد أدوار التدخل، إلى أن تولى رياض باشا الوزارة، انتقل إلى بيان وجوه الإصلاح التي عالجها هذا الوزير كإلغاء السخرة بنوعيها ومبالغته في التشديد في ذلك «حتى إنه آخذ مدير القليوبية مرة على إرسال بعض أشخاص من أهاليها لحفر الترعة التوفيقية التي تصل إلى أراضي القبة؛ لأنها خاصة بالخديوي. ووبَّخ المدير توبيخًا شديدًا، وعرض الأمر على الخديوي فاستحسنه، ولكن ذلك لم يذهب بلا أثر في نفسه؛ فإن مبالغته في العدالة إلى هذا الحد مما لا يلتئم مع السلطة العليا في مصر مهما كانت منزلة الحاكم من الكمال. فانظر ماذا يكون في نفوس أكابر رجال الحكومة السابقين بل الحاليين من رياض بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج».
وعمل رياض باشا على توزيع ماء النيل بالعدل والقسط، وألغى أكثر من ثلاثين ضريبة من الضرائب الصغيرة التي أضرَّت بالصناعة والتجارة والزراعة، وترك بقاياها، وزاد ضرائب الأطيان تعويضًا لما فات بإلغاء تلك الضرائب، فخف بذلك عن الفقراء ما ثقل على الأغنياء، فبقي أثر ذلك في نفوس الفريقين. ونظم الميزانية وسوى بين الأغنياء والفقراء والأجانب في التحصيل، وكان الأغنياء والأجانب يماطلون عدة سنين ثم يعفون من الأداء، وظهر عند التنفيذ أن بعض الأجانب كان في ذمته ضرائب سبع سنين فحصلها رياض بقوة الحكومة، وهذا ما لم يكن يسمح به من قبل. وأبطل الكرباج في تحصيل الأموال الأميرية «فقال كثير من الناس: كيف يمكن أن يحصل مالًا من الفلاح بدون ضرب؟ وأنكره كثير من المديرين، وظنوا أنه قد هدم ركنًا عظيمًا من سلطان الحكومة».
وشدد في منع الحبس لتحصيل الحقوق، سواءٌ أكانت أميرية أم شخصية. قال الأستاذ: «ومن غرائب آثار تعوُّد الظلم ورؤيته ملازمًا للسلطة في مصر أن الذين حُفظت أبدانهم من الضرب والجلد، وأرواحهم وأجسامهم من الحبس في سبيل اقتضاء الحقوق — سواء كانت للحكومة أو للأفراد — كانوا يعدون تلك الأوامر مخالفة لما يجب أن يعاملوا به، وأنه لا يفيد إلا الكرباج، وكانوا يهزءون بتلك الرحمة، اللهم إلا الذين لمع في عقولهم نور الفهم، ووصل إلى أبصارهم شعاع الإحساس بما للإنسان من حق التكرمة التي خصه الله بها.»
ثم سعى رياض لتصفية الديون فصدر قانونها، وكان حدًّا فاصلًا بين ماضٍ قلق ومستقبل معروف. «وأهم ما غنمته الحكومة من رضى أوروبا عن الحالة التي قررها، واطمئنان الأهالي والجناب العالي على مسند الخديوية، وانقطاع المخاوف التي كانت المشاكل المالية تثيرها في الأوهام عندما يخطر بالبال حادثة فصل إسماعيل باشا.» وأصلح نظام العسكرية فجعل مدة خدمة الجندي خمس سنين يرجع بعدها إلى أهله «تحت الاحتياط» مدة ست سنين، أما الضباط فحصر «تعيينهم فيمن ينال المعارف العسكرية بالتحصيل في المدارس الحربية».
وهنا يُثْنِي الأستاذ على كلٍّ من الخديوي ووزيره، ويقول إن بناء الحكومة لم يكن قائمًا على الأَثَرة والاستبداد، ويذكر من مناقب الخديوي العفة واللين والتحبب إلى الرعية وتعرُّف أحوالها بالسياحة وبُعده عن الإسراف واكتفاءه من النساء بأميرة واحدة، وأثنى على سيرته في الحكومة، ولا سيما اتفاقه مع وزرائه وسائر كبار رجال الدولة على ما يخفف عن الرعية أثقالها ويرقِّي عقولها، مع شدة تمسكه بحفظ مسنده وتقوية سلطته، وأن هذا رفع من قدره في عيون الأجانب أيضًا، وأن الناس تناسوا بهذه السيرة ما أتاه في أول حكومته من النفي بغير محاكمة، والمسارعة إلى تعيين المراقبين الأجانب وإعطائهم الحقوق الواسعة، وذكر الأستاذ من سيرة الوزراء الإخلاص في العمل لخير البلاد. «ولم يكن لأحد منهم شهوة الاستبداد بالأمر في عمله لمحض إعلاء سلطته ووضع مَنْ دونَه تحت قهره، واستبعاد الرغائب والإرادات لرغبته وإرادته، وجمع ما تيسَّر له أن يجمعه مدة استعلائه على مرسى الوظيفة.» واستثنى منهم اثنين: واحدًا قيل إنه كان يمد يده على بعض الحطام في الأعمال الجزئية التي لا يظهر لها أثر في كلياتها، وآخر كان يطيع العصبية الجنسية.»
قال: «وكان أهل الإصابة في الرأي يتمنون لو استمر سير الحكومة في سبيلها تلك عشر سنين على الأقل؛ فيأخذ الشعور بمنافع البلاد مكانه، ويستوي سلطان الإرادة السليمة على عرشه، وترسخ الملكات الحسنة في نفوس المستبدين، ولكن وا أسفاه! حال دون بلوغ تلك الأماني أمور منها ما كان منشؤه رياض باشا نفسه وبعض النظار، ومنها ما له علاقة بالجناب الخديوي، ومنها ما سببه امتداد السلطة الأجنبية الجديدة، ومنها نهوض الساخطين لاستعمال ما وعدوا في ذلك من الوسائل لإثارة الفتنة لقلب وزارة رياض باشا.»
فأما رياض باشا فكان من خيرة أهل طبقته، ذكيًّا بالفطرة، مجربًا، حازمًا قوي العزم، صادق النية مخلص السريرة، ولكن معارفه جزئيات متفرقة يعوزها ما تحور إليه وترجع في الكليات، وكان له نشاط عظيم في عمله وفيه مزية التفويض للعامل في عمله ومنحه الحرية إذا وثق به، ولكن ثقته كانت على غير قاعدة، وكان إذا غضب خلط إحساسه الخاص بالعمل العام، وكان يحب المصرية، ولكنه يحب أن يراهم كأرقى ما يكونون، ولهذا كان يتسخَّط ويذمهم؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتجرَّدوا مما حملتهم الأيام الظالمة، وقد أعجزه هو نفسه التجرد من ذلك ونفض غباره، ولم يكن يرتاب في سكون المصريين إلى الطاعة حملًا لهم على سالف عهدهم والمألوف من طبيعتهم، فكان مطمئنًّا من ناحيتهم؛ فلم ير على قول الأستاذ أن «ينظر فيما عساه أن يثيرهم من جهة المقابلة في تنفيذ السلطة، أو من ناحية الساخطين عليه من الوطنيين والأجانب».
وكان وزير الحربية عثمان رفقي باشا، وفيه يقول الأستاذ: «كان رجلًا ساذجًا محدود الإدراك بعيدًا عن التبصر في العواقب، لم يكن يهمه بعد قبض راتبه الشهري سوى أن يُرضي ميله ويَروي ظمأه إلى حصر السلطة العسكرية في بني جلدته من الجراكسة، وتجريد من ساء حظهم بالولادة في مصر منها مع معاملتهم بالاحتقار، كان يطيع في ذلك تلك العصبية الممقوتة التي يبطنها بعض الغفل من الجراكسة المقيمين في مصر، كأن مصر وأهلها جنوا عليهم جناية مست آباءهم أو تعقَّبت أدبارهم، أو كأن أهل مصر سلبوهم شيئًا مما كانوا يملكونه أو منعوهم حقًّا كانوا أهلًا لأن ينالوه.»
ومن أعاجيب الدنيا أن تكون الحسنات في بعض الأحيان مفضية إلى الشر، فقد كان مما أثمرته سيرة رياض باشا على حسنها وعدلها في الجملة:
أولًا: أن إبطاله السخرة كان عدلًا لا ينكر، ولكنه أحنق عليه جميع الوجهاء الذين كانوا يستغلون أبدان الرعية وأموالها، فشكلوا لمقاومته جمعية تسمى جمعية حلوان، وكان قد اشتد على بعض الجرائد فألغاها لأسباب لم تكن بالقوية، فأتاح بذلك فرصة لتهييج الآراء لمقاومته؛ فذهب «أديب إسحاق» — أحد محرري تلك الجرائد المعطلة — إلى أوروبا، وأنشأ هناك جريدة سماها «القاهرة» لم يكن لها موضوع سوى رمي رياض باشا بالظلم والاستبداد والرغبة في بيع البلاد إلى الأجانب، حتى لكانت تسميه «رياضستون». ويقول الأستاذ الإمام: إن الذي كان ينفق على تلك الجريدة الخديوي الأسبق وبعض البشوات من الساخطين.
ثانيًا: زاد حنق الأغنياء عليه لزيادة أموال الأطيان العشورية، فانتهز نوبار باشا الفرصة وألَّب عليه الأعيان، وكثر الاجتماع لذلك، فنفى من كان واسطة في إثارة المتظلمين وهو السيد حسن موسى العقاد وبرح نوبار باشا مصر بأمر يقال إنه صدر إليه.
ثالثًا: أساء بعض المديرين الذين وثق بهم إلى وجوه البلاد، ولم يكن يسمع منهم لاعتقاده أن هؤلاء الوجوه هم أصل البلاء وعلة الشقاء، ولهذا وقر في نفوس الأعيان أن رياض باشا عدوهم، وأنه يريد إسقاطهم ورفع من هم دونهم.
رابعًا: عُنِي بتوطيد الأمن على عادته في كل وزارة، وخوَّل المديرين سلطة أساءوا استعمالها؛ فأخذوا بالظن، ونالوا من كثير بالشبهة؛ فأزعج ذلك نفوس الباقين.
ولهذه الأسباب وأمثالها راح الناس يتمنون أن تسقط وزارة رياض باشا، وكثر الطعن فيها والتنديد بها. وهنا يقول الأستاذ الإمام: تلك الرغبة التي كانت تلعب بالنفوس وتجيش في الصدور آخرَ عهد إسماعيل باشا والأيام الأولى من حكومة جناب الخديوي السابق رحمه الله — تلك النزعة إلى تأسيس الحكومة على قاعدة الشورى، ومنح بعض منتخبين من الأهلين حق المشاركة في كليات أعمال الحكومة — ذلك الظمأ وجد مسكنًا من مبادئ الإصلاح فاطمأنَّت النفوس إلى عدل الحكومة في القضايا العامة، وفترت تلك الرغبة كأنها قد وجدت من حسن نية الحاكم عوضًا عن اشتراك الرعية في الحكم، لكن تلك النزعة انبعثت مرة أخرى بعد مدة من الزمان لهذه الأسباب التي سبق ذكرها ولأسباب أخرى سنذكرها، فرجع التحدث بين الناس إلى ما كان عليه. وأخذ الناس يقولون: «لا صلاح في الاستبداد بالرأي وإن خلصت النيات، فرأي واحد عرضة للخطأ وإن تحققت نزاهته من الغرض.» رياض باشا لم يكن يعرف أن في البلاد من يطلب هذا الأمر طلبًا صحيحًا؛ لأنه لم يختبر الناس، ولم يُصْغِ حق الإصغاء إلى ما كان يدور بينهم، وكان يعتقد أن في مجلس الشورى تعويقًا عن الإصلاح المطلوب؛ لأن أعضاءه تعوزهم الخبرة بالأحوال السياسية والإدارية فلا ينتظر منهم إلا المعارضات وإطالة البحث في أمور يجب فيها السرعة، وكان يوافقه في هذا الرأي كثير من العقلاء ويتمنون مع ذلك أن يبدأ بشفاء هذا الغليل بعد حل المشاكل المالية ووضع قانون التصفية، وتشكيل المراقبة الثنائية وبت أهم المسائل السياسية؛ إذ لم يبق بعد ذلك إلا الشئون الداخلية والقضائية، وكان يمكن تخويل المجلس بعض الحقوق التي منحها الأمر العالي من قبل والتوسع فيها بعد ذلك بالتدريج، وقد خاطبه بعض الوجهاء بذلك فرفض رفضًا باتًّا، فكان ذلك مما زاد الرغبة، ولو أنه أجاب بالرفق، ووضع المسألة موضع البحث وطاول في بتها سنين لكان قد أرسل الآمال تسرح في فسحة من النظر، ولم يكن قد دعاها للشدة إلى الانضمام إلى من يؤلب عليه ويثير الأحقاد حواليه.
هذا فيما يتعلق برياض باشا. أما الخديوي توفيق باشا فإنه بعد قانون التصفية واطمئنانه من ناحية أوروبا ومشاكلها وجد فراغًا من الزمن يسمع فيه ويلاحظ ما له مساس بسلطته كخديوي وحاكم أعلى لمصر، وكان للين عريكته أو لرعايته جانب والده أو لحسن ظنه بمن سبقت له أعمال في خدمة عائلته — قد أبقى الكثيرين ممن كانوا في خدمة أبيه، وكان هؤلاء ممن لا يقيمون لمصالح الرعية وزنًا، وكانت لهم مطامع لا تفتر ولا تنتهي، ولا سيما بعد أن ذاقوا من لذائذها الماضية ما ذاقوا. وقد عزَّ على هؤلاء إبطال السخرة والكرباج، وتحول مجرى النفوذ والسلطة عن رجال المعية إلى الوزارات، وكبر عليهم أن يجري عليهم من الأحكام العامة ما يجري على الأهالي؛ فوجدوا على رياض باشا وأضمروا له السوء.
وكان الخديوي يؤثر أن يكون محبوبًا من رعيته؛ فكان هذا يبعثه على إفاضة الإحسان بالرتب والنياشين، ولكن رياض باشا كان يجد في كثير من ذلك دواعي للمعارضة، وكان ربما أظهر للخديوي من ذلك ما يسوءُه. بل لقد ذهب رياض باشا إلى حد التهديد بالأجانب ووكلائهم. ورأى رجال السوء المحيطون بالخديوي أمارات الانفعال تظهر مرة بعد أخرى على وجه سموه؛ ففتحوا باب الدس على مصراعيه، وأخذوا يستدرجون الخديوي إلى بث ما في نفسه، فيفيض بما كان يجده ويفيضون هم في الشرح والتأويل والاختلاق، وتوفيق باشا يسمع ويستريح إلى ما يقولون. «وقد انتهى به الأمر — رحمه الله — إلى أنه كان يسمح لبعضهم بتقليد رياض باشا في كلامه وحركاته أثناء خطابه وهيئة جلوسه وما يبدو في مشيته من دلائل الخيلاء في زعمهم وما شابه ذلك.»
وهكذا أخذ غيظ الخديوي يزداد على رياض باشا كلما بدت منه معارضة في أمر صغير أو كبير بفضل هؤلاء المتملِّقين والداسِّين، وكلما رأى رياض باشا دلائل الانفعال اشتد ضجره، وكلما اشتد ضجره وظهر في قوله أو فعله التهب غضب الخديوي عليه وإن لم يظهره له، فوصل الأمر في أقل من سنة بعد إمضاء قانون التصفية إلى أن الخديوي لم تكن له أمنية إلا عزل رياض باشا. غير أنه كان يظن أن قناصل الدول — ولا سيما فرنسا وإنجلترا — يعارضون في عزله، فأخذ يلتمس الوسائل إلى التخلص منه على وجه يحمل الدول على الرضى بذلك بدون معارضة، فذكَّره بعض رجال الحاشية بالطريقة التي تخلص بها الخديوي الأسبق (إسماعيل باشا) من نوبار باشا، وقد أشرنا إليها فيما مرَّ بك، فارتاح إلى ذلك. وهنا نثبت من كلام الأستاذ وصف الطريقة التي لجأ إليها الخديوي توفيق باشا للتخلص من رياض باشا، فكانت من أكبر أسباب الثورة فيما بعد