الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تذكرة بما سبق :
أيها الأخوة المؤمنون . . . انتهى موضوع الزكاة ، وبانتهاء موضوع الزكاة نكون قد أنهينا في العبادات الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، وكنَّا قد تحدَّثنا عن الحج عدَّة مرَّاتٍ في سنواتٍ سابقة ، وتحدَّثتُ عن الحج في هذا العام في الخُطَبْ الأسبوعيَّة ، وكنَّا من قبل ذلك قد أخذنا موضوع النكاح وهو من أبرز الموضوعات الشخصيَّة ، وبقينا فيه أكثر من سنة ونصف تقريباً ، وكنَّا قبل هذه الموضوعات قد أخذنا المُعاملات ، كل هذا من كتاب فقه السُنَّة ، وأنا في صَدد أن نبدأ موضوعاً جديداً لم نأخذه من قبل وهو موضوع العقائد ، بدل كتاب الفقه في الدرس القادم إن شاء الله سنبدأ بالحديث عن العقائد الإسلاميَّة الصحيحة ، وربَّما اخترنا كتاباً من أوثق الكُتُبِ في موضوع العقائد ، وقد نمضي فيه مدَّةً طويلةً ، لأن موضوع العقائد هو الموضوع الأوَّل في الإسلام ، لأنه إذا صَحَّت العقيدة صَحَّ العمل ، وإذا فسدت فسد العمل ، وسوف نتابع إحياء علوم الدين ونحن الآن في الجزء الثاني منه ، وربَّما أضفنا في دروسٍ قادمة بعض قصصٍ من السيَر النبويَّة ، أو من سير الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
فدرس الأحد نختار فيه فصلاً من كتاب العقائد ، وفصلاً من إحياء علوم الدين ، وبعضاً من سِيَرِ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعين .
من حقوق الأخوة في الإسلام :
الوفاء و الإخلاص :
والآن إلى إحياء علوم الدين لنُنْهي الحقوق التي تجب على الأخ الذي يعقد أخوَّته مع أخٍ في الله .
وصلنا في الحقِّ السابع الذي عنوانه : الوفاء والإخلاص ، وعرَّفنا معنى الوفاء بأنه الثبات على الحبِّ وإدامته إلى الموت وبعد الموت مع الأولاد والأصدقاء ، وإنما الحب بين الأخوين في الله إنما يُراد للآخرة وليس للدنيا .
من آثار الوفاء :
1 ـ ألا يتغير حال الأخ مع أخيه في التواضع وإن ارتفع شأنه :
وصلنا إلى أن من الوفاء ألا يتغيَّر حال الأخ مع أخيه في التواضع وإن ارتفع شأنه. فالإنسان في الدنيا قد ينتقل من مكانٍ إلى آخر ، من منصب إلى آخر ، من عمل إلى آخر ، فإذا ارتفع شأنه فمن باب الوفاء مع إخوانه في الله ألا يبتعد عنهم ، وألا يزوَّرَّ عنهم ، وألا يرى نفسه فوقهم ، فمن صفات الكرماء المؤمنين أنه هو هو مع إخوانه ، ومن صفات المنقطعين عن الله عزَّ وجل أنه إذا ارتفعت مكانته نسي إخوانه .
فالتَرَفُّع عن الإخوان بما يتجدَّد من الأحوال لؤمٌ ، أي أن أحد أنواع اللؤم أن تترفَّع عن إخوانك إذا عَلَت منزلتك ، سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حينما فَتَحَ مكَّة ، ودانت له الجزيرة العربيَّة بأكملها ، وخضعت له القبائل ، وصار قمَّة هذا المجتمع الجديد ، خشي الأنصار رضوان الله عليهم أن يؤثر النبي عليه الصلاة والسلام البقاء في مكَّة بلده ، فلمَّا أعلنوا عن قلقهم قال :
((إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، قَالَ : فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ : وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ ))
[ أحمد عن أَبُي هُرَيْرَةَ ]
((لو سلك الناس فجَّاً وسلكت الأنصار فجَّاً لسلكت فَجَّ الأنصار ، اللهمَّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناءِ الأنصار))
هذا هو الوفاء ، لمَّا وصل النبي الكريم إلى مكَّة فاتحاً تنازع أصحابه في أي بيتٍ سيبيت فقال : "انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة "
وفاءً لهذه الزوجة التي صَدَّقته حين كذَّبه الناس ، وقامت معه لمَّا قعدوا ، وواسته بمالها ، وحدبت عليه بعطفها ، وأيَّدته وآمنت به ، وكان وحده ، قال : "انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة " فيكاد يكون الوفاء خُلُقَ المؤمن الأول ، الوفاء لإخوانه ، لمن كانوا معه ساعة العسرة ، لمن كانوا معه في ساعة الشدَّة ، ولا يتكبَّر على أخٍ إذا عَلَت منزلته إلا لئيم ، قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
* * *
وهذا الذي يتزوَّج امرأةً وتصبر عليه ، فإذا أغناه الله بَحَثَ عن أُخرى ، هذا والله عين اللؤم ، رضيت بكَ حينما كنت فقيراً فلمَّا اغتنيت لم ترض بها ؟! قد يلقى الله وهو عليه غضبان . وأوصى بعض السَلَف ابنه فقال: " يا بني لا تصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قَرُبَ منك ، وإذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، وإن عَلَت مرتبته لم يرتفع عليك "
وقال بعض الحكماء : " إذا ولي أخوك ولايةً فَثَبَتَ على نصف مودَّته لك فهو كثير"
صديقان عاشا أيَّام الصِبا ، وكانا يعيشان حياةً خشنة ، فقال أحدهما للآخر : لو أنك تَسَلَّمت منصباً رفيعاً هل تذكرني ؟ قال : أعوذ بالله أنا لا أنساك أبداً ، قال : وكيف ألتقي بكَ ؟ قال : قِفْ لي أمام هذه الشجرة - عيَّن له شجرة في المدينة - فلمَّا دارت الأيام وتسلَّم أحدهما منصباً رفيعاً صار هذا الصديق الأخ يقف عند الشجرة ، فتقع عين صديقه عليه فلا يُسَلِّم عليه ، فلمَّا أُزيح عن منصبه التقى به ، قال: ألم تكن ترني ؟ قال : " والله لم أكن أرى الشجرة كلَّها " ليس أنت بل لم أكن أرى الشجرة ، فالإنسان قد يكون في عمى ، لذلك قال بعض الحكماء : إذا ولي أخوك ولايةً فثبت على نصف مودَّته لك فهو كثير .
وحكى الربيع أن الشافعي رحمه الله آخى ببغداد رجلاً ، ثمَّ إنَّ أخاه ولَّي ولايةً له ، فتغيَّر له عما كان عليه ، آخى رجلاً هذا الرجل تسلَّم ولايةً فتغيَّر له ، فكتب إليه الشافعي هذه الأبيات و بعثها إليه برسالة وقال :
اذهب فودُّك من فؤادي طالـــقٌ أبداً وليس طلاق ذات البين
فإن ارعويت فإنها تطلــقةٌ ويدوم ودُّك لي على ثنتيـــــن
وإن امتنعت شفعـــــــتها بمثالها فتكون تطليقين في حيضين
وإذا الثلاث أتتــك مني بتَّةً لم تغن عنك ولاية السيبـــــن
* * *
هذه أول نقطة ، أي أن من الوفاء إذا ارتفعت أنت ألا تنسى أخاك الذي كان في أيَّام ضيقك وفقرك .
2 ـ ألا توافق أخاك على شيءٍ لا يرضي الله :
النقطة الثانية : واعلم أنه ليس من الوفاء أن توافق أخاك فيما يخالف الحق في أمرٍ يتعلَّق بالدين ، ليس من الوفاء أن تسكُت عن معصيته ، ليس من الوفاء أن توافقه على معصية ، ليس من الوفاء أن تعرف أن دخله حرام فلا تنصحه ، ليس من الوفاء إذا ضَيَّع فرض صلاةٍ أن تسكت عنه ، هذه خيانة ، من وفائك لأخيك المؤمن أنه إذا انحرف أو أخطأ أو قَصَّر أن تنبِّهه وأن تُذَكِّره من دون أن يكون هذا أمام ملأ من الناس لأن في هذا تشهيراً وليس في هذا نصيحةً .
بل من الوفاء له المخالفة ، فالشافعي رضي الله عنه آخى محمَّد بن عبد الحكم وكان يقرِّبه ويقبل عليه ، ويقول : " ما يقيمني بمصر غيره " فاعتلَّ محمدُ ، فعاده الشافعي رضي الله عنه فقال :
مرض الحبيب فعدته فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيبُ يعودني فبرئــــــــــت من نظري إليه
* * *
أي شفيته ، ظنَّ الناس لصدق هذه المودَّة وتمامها أنه يفوِّض أمر حلقته إليه بعد وفاته ، لما بينهما من مودَّة ، فقيل للشافعي في عِلَّته التي مات فيها : إلى من نجلس بعدكَ يا أبا عبد الله ؟ أي من خليفتك ؟ فاستشرف أبو محمد ، محمد بن عبد الحكم ، استشرف أي ارتفع، وبَيَّن وظهر أمام تلامذة الشافعي ، وهو عند رأسه ليومئ إليه ، فقال الشافعي : " سبحان الله أَيُشَكُّ في هذا ؟ أبو يعقوب البويطي "
كانت كالقنبلة ، مفاجأةٌ كبيرة ، كل الناس يظنُّون أنه سَيُخَلِّفُ من بعده محمد بن عبد الحكم ، فانكسر لها محمد ، ومال أصحابه إلى البويطي ، مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله ، لكن هذا الذي خَلَّفه من بعده كان أقرب إلى الزُهد والورع ، فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ، ولم يؤثِّر رضا الخلق على رضا الحق ، فلمَّا توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ، ودرس كتب مالكٍ رحمه الله .
هذه النصيحة ، أي من تمام الوفاء ألا توافق أخاك على شيءٍ لا يرضي الله أبداً ، المقصود من هذا أن الوفاء بالمحبَّة من تمامها النصح لله تعالى .
قال الأحنف: " الإخاء جوهرةٌ رقيقة إن لم تحرسها كانت معرَّضةً للآفات ، فاحرسها بالكظم حتَّى تعتذر إلى من ظلمك ، وبالرضا حتَّى لا تستكثر من نفسك الفَضلَ ، ولا من أخيك التقصير " أي أن الأخوَّة جوهرة رقيقة ، سريعة العطب ، احفظها من أن تنكسر بالانتقاد ، أو بالشعور بأنك ممتنٌّ عليه ، أو بإحساسك أن أخاك مقصِّر في حقِّك ، أو أنه إذا أساء إليك اعتذر عنه حفاظاً على هذه الجوهرة .
3 ـ أن تكون شديد الجزع من المفارقة :
ومن آثار الوفاء بل من آثار تمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ، كما قيل :
وجدت مصيبات الزمان جميعها سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
***
فرقة الأحباب من أشدُّ أنواع المصائب في الدنيا .
قال ابن عُيينة : " لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنةً ما يُخَيَّلُ إلي أن حسرتهم ذهبت من قلبي "
الأخ الراقي ، الأخ الوفي ، المؤمن ، الصادق ، المحب ، المتواضع ، هذا إذا فارقك فإن حسرةً سوف تلسع القلب .
أن تكون شديد الجزع من المفارقة :
4 ـ ألا تستمع إلى أقوال الناس في صديقك :
الآن من الوفاء أيضاً ألا تستمع إلى أقوال الناس في صديقك ، لاسيما من يُظْهِرُ أولاً أنه محب ، فالناس يفسدون هذه العلاقات على الشكل التالي : يقول لك من أصدقاؤك ؟ تقول له : فلان صديقي ، والله إنسان طيِّب ، والله أحسنت الاختيار ، نِعم هذا الصديق ، حينما يمدحه لك تسَر ، تستأنس ، يقول لك : فعلاً صديق جيد ، وفي ، أخلاقه عالية ، سبحان الله لكن من يومين وجدت له موقفاً أحزنني ، سبحان الله وجدت له موقفاً ما كنت أصدِّقه عنه ، تقول له : غير معقول ، ماذا فعل ؟ يقول لك بعض عيوبه ، هذا اسمه فخ ، حينما أثنى عليه من أجل أن تصغي إليه ، لو بدأ بهذه المنقصة لما استمعت إليه ، من أجل أن يضمن أن تستمع إليه بدأ بالثناء ، وثنىَّ بالنقد ، فمن تمام الوفاء لصديقك ألا تستمع إلى أقوال الناس فيه .
فذلك من دقائق الحيل في التضريب ومن لم يحترز منه لم تدم مودته أصلاً .
قال بعضهم : جاء رجل إلى حكيم فقال : قد جئتك خاطباً لمودتك ؟ قال : إن جعلت مهرها ثلاثاً فعلت - مودَّتي لها مهر – قال : ما مهرها ؟ قال : ألا تسمع عليّ بلاغةً ، ولا تخالفني في أمر، ولا تغُشَّني في نصيحة .
لا تستمع علي شيئاً ، ولا تخالفني في أمر ، ولا تغشَّني في نصيحة .
5 ـ ألا تصادق عدوَّ صديقك :
الآن من الوفاء ألا تصادق عدوَّ صديقك ، لك عدوٌ لدود ، يتكَّم عنك أشياء غير صحيحة ، يلفِّق عليك ، صديقك المُحِب الوفي يصادقه ، سيدنا عليٌّ رضي الله عنه قال: " أصدقاؤك ثلاثة : صديقك ، وصديق صديقك ، وعدوِّ عدوِّك ، وأعداؤك ثلاثة : عدوُّك ، وصديق عدوِّك ، وعدوُّ صديقك " . فالإنسان ليس له حق أن يصاحب عدو صديقه لأن هذا من عدم الوفاء هذا هو الحق السابع ، بقي الحقُّ الثامن والأخير .
التخفيف وترك التكلُّف والتكليف :
الحقُّ الثامن عنوانه : التخفيف وترك التكلُّف والتكليف وذلك بألا يكلِّف أخاه ما يَشُقُّ عليه ، نحن غداً إن شاء الله سنأتي لنتغدَّى عندك ، سمِّكها ، ما هذا ؟ هذا تكليف ، الإنسان بين عُسر ويُسر ، بين ضيق وتوسعة ، قد يكون غير مشغول ، قد تكون امرأته مريضة، قد يكون في بيته مشكلة ، قد يكون ميسور الحال ، أخي فلان الله عزَّ وجل ميسِّر أموره ، صحيح لكن قد يكون عنده في البيت مرض ، زوجته قعيدة الفراش ، من يطبخ ؟ قد يكون في مشكلة ، فأحياناً في البيت تجد مشكلات ، ابنته مخطوبة والخطيب لم يظهر ، يا ترى وافقوا أم لم يوافقوا ؟ هناك تشويش في هذا البيت ، أخي غداً الغداء عندك ، سمِّكها ، التخفيف وترك التكلُّف والتكليف .
بالعكس يجب أن تخفِّف عنه ، يجب ألا تحمِّله عبئاً ، يجب ألا تستمدَّ من ماله ولا من جاهه ، يجب ألا تكلِّفه التواضع لك ، والتفقُّد لأحوالك ، والقيام بحقوقك ، لا تكلِّفه ، أخي أنا أليس لي حق عليك ؟ اعزمنا ؟ أنت تكلِّفه بما لك عليه من حق ، أنا ألم أعمل لك عزيمتين سابقاً ؟ يظهر أن هذا لم يبين معك ؟ هذا تكليف ، يجب أن تحبَّه لله تعالى فقط ، كلَّما كان إيمانك أرقى كانت مؤونَتُك أخف ، لو عملت له ثلاثين عزيمة لا تطالبه بأية بعزيمة ، لو خادمه مليون خدمة ، ألم تخدمه لله ؟ انتهى الأمر . .
((اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، فإن أصبت أهلَه أصبت أهلَه وإن لم تصب أهله فانت أهلُه))
[ ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى الخطيب في تاريخه]
أنت ألم أهدك هديَّة قديماً بمناسبة زواجك ؟ أنا جاء لي مولود ولم تهدني يا أخي، أنت هكذا تطالبه بحقوق وقد يكون هو في عسر ، قد لا يملك ثمن الهديَّة .
فملخَّص الكلام أنه إذا كان لك أخٌ في الله يجب أن تخدمه لله ، من دون أن تنتظر أن يردَّ عليك بخدمةٍ مشابهة ، يجب ألا تستغل مودَّته بأخذ ماله ، ولا استعارة جاهه ، ولا أن تكلِّفه ما لا يطيق ، ولا أن تكلِّفه أن يتفقَّد أحوالك ، ولا أن يفي بحقوقك ، هذا كلُّه من ضَعْفِ الإيمان ، أنا ذاهب إلى المكان الفلاني هل تريد شيئاً ؟ نعم والله انتظر قليلاً عندي قائمة ، أعطاه قائمة تحتاج إلى خمس ساعات ، هذا أخونا ذاهب إلى محل يمكن أن يكون معه بضاعة ، أنت بهذا كلَّفته شيئاً فوق طاقته ، قل له: والله ممنون جداً ، شكراً ، لا تكلِّف ، يكون الإنسان ذاهباً إلى مشوار يجد التكاليف صارت فوق طاقته ، تحتاج إلى وقت عشر ساعات وهو ذاهب ليوم واحد، صار الحجم غير مقبول ، إنسان مسافر إلى بلد فأعطوه أغراضاً تحتاج إلى حقيبتين ، هو له عشرون كيلو ، والدفع بالعملة الصعبة ، هذا غير معقول ، لا تُكَلِّف أحداً فوق طاقته .
أمَّا لك أن تُكَلِّفه أن يدعو لك فهذه مقبولة ، لك أن تكلِّفَه أن يدعو لك ، لك أن تستأنس بلقائه ، لك أن تستعين به على أمر دينك ، أخي ادع لنا ، هذا من حقِّ الأخوَّة ، والله أنا آنس بك لو تزورني ، تدعوه لزيارتك ، أو زره ، أو استعن به على أمر دينك ، هذا مباح .
تقرَّب إلى الله بخدمته ، تقرَّب إلى الله بأداء حقوقه ، تقرَّب إلى الله بتحمُّل مؤونته ، هذا هو الأخ في الله ، قال بعضهم : " من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه فقد ظلمهم "
لك محل وله محل ، زرته في محلَّه اشتريت حاجة فقال لك : ليست بحاجة ، ليس لها قيمة خذها ، الثاني لم يزرك في محلَّك ولم يأخذ شيئاً أبداً دون مقابل ، إذاً أنت اقتضيت منهم ما لا يقتضونه منك ، ليس هذا من أخلاق المؤمن . ." من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه فقد ظلمهم ، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتعبهم "
أنت خدمته خدمة ، بعد أسبوعين كلَّفته بخدمة مشابهة ، أتعبته ، إذاً صارت هذه عمليِّة دين ووفاء ، لم تفعل هذا لله . ." من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه فقد ظلمهم ، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتعبهم ، ومن لم يقتض فهو المتفضِّل عليهم "
اخدمهم وإذا كان بالإمكان ألا تطالبهم بشيء فافعل ، فقد تفضَّل عليهم ، وقال بعض الحكماء : " من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثِمَ وأثِموا "
من جعل نفسه عند إخوانه فوق قدره أثِمَ وأثِموا :
نبينا صلى الله عليه و سلم هل في الأرض من هو أرقى منه ؟ هل في الأرض من هو أكمل منه ؟ من هو أقرب إلى الله منه ؟ من هو أعظم منه ؟ لا ، كان مع أصحابه ، أرادوا أن يذبحوا شاةً ليأكلوها ، قال أحدهم : عليَّ ذبحها ، قال الثاني : عليَّ سلخها ، قال الثالث: عليَّ طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " وعليَّ جمع الحطب "
يا رسول الله نكفيك ذلك ، قال : " لا ، إن الله يكره أن يرى عبده متميِّزاً على أقرانه" .
يكون الإنسان تافهاً يذهب نزهة مع إخوانه فيقول لهم : أنا تعبان أريد أن أرتاح ، يشترون الأكل ، ويطبخون ، ويقدِّمون الطعام ، تفضَّل ، يستيقظ ويأكل نعرف أنك تعبان !! يأكل وينسحب كأنه غير مكلَّف بشيء ، هناك أناس مكلَّفون بالخدمة ، وبغسيل الأطباق ، ليس هذا من أخلاق المؤمن ، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحق قال : " إن الله يكره أن يرى عبده متميِّزاً على أقرانه"
سيدنا الصديق رضي الله عنه وقع زمام ناقته وأصحابه حوله ، فنزل من على ناقته ليلتقط الزِمام ، تعجب أصحابه ، يا خليفة رسول الله نكفيك ذلك ؟ قال: " لا ، سمعت حبيبي رسول الله يقول : " لا تسألوا الناس شيئاً "
فأحياناً الإنسان يكون مريضاً ، قعيد الفراش ، إذا كلَّف أخوه بحاجة هذا شيء مشروع ، أما ما دام بقوَّته ، اقض حاجتك بيدك فهذا شكر قوَّتك . .
(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))
[ أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))
[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ]
(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))
[رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعاً وهو عند ابن لال عن أبي أمامة. وفي لفظ بضاعته بدل سلعته]
سيدنا رسول الله في معركة بدر عندماً وجد الرواحل قليلة قال : " كل ثلاثة على راحلة ، وأنا وعليٌ وأبو لبابة على راحلة " ركب النبي على راحلته ، انتهت نوبته في الركوب ، جاء دور عليّ وأبي لبابة فتوسَّلا إليه أن يبقى راكباً ، قال: لا .
قدم رسول الله لعدي بن حاتم الطائي وسادة من أدمٍ محشوَّةً ليفاً ، قال لعدي : اجلس عليها ، قلت: بل أنت ، قال: بل أنت ، قال: فجلست عليها وجلس هو على الأرض ، هذه النبوَّة .
من جعل نفسه عند إخوانه فوق قدره أثِمَ وأثِموا . . أثمَ لأنه رفع نفسه فوقهم ، وأثِموا لأنهم لم ينصحوه ، أوهموه أنه هو بهذا المستوى ، ما دام إخوان من نفس المستوى فليقولوا له : قم عاونا ، إذا سكتوا معنى هذا أنه أعلى مستوى ، أوهموه . . أثِمَ وأثِموا ، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم ، ومن جعلها دون قدره سَلِمَ وسلِموا .
من تمام التخفيف طيُّ بساط التكليف :
وتمام التخفيف طيُّ بساط التكليف ، حتَّى لا يُستحيا منه ، قال الجنيد : " ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتسم إلا لعلَّةٍ في أحدهما ".
أبشع عادة بالأسر مثلاً يدخل الصهر إلى بيت عمِّه يرحِّبون به ، يحترمونه ، يدلِّلونه كذلك هو يتأدَّب معهم ، يذهب إلى البيت فيقول لزوجته : كان الجبن مالحاً زيادة ، والزيتون كان قليلاً في الصحن ، والبيض كان مقلياً بسمن نباتي و ليس بالسمن البلدي ، ينتقد هذا الطعام لزوجته ، تخجل ، تعاتب أمها ، يظهر التكلَّف ، معنى هذا أنه ينتقد ، معنى هذا أنه يراقبنا مراقبة دقيقة جداً ، يصير هناك جفاء ، إذا كنت بطلاً لا توجد حالتين بل حالة واحدة ، هناك تكلُّف لا تزرهم ، تحبُّهم ارفع التكلُّف ، هكذا المؤمن ، انتقاد ، تكون الزوجة مسكينة فتتحطَّم ، زوجها ينتقد أهلها ، تدافع عن أهلها يقول لها : لا تدافعي ، ألم أقل لكِ أن أهلك لا يوجد بهم ذوق ، شيء يحيِّر ، إن سكتت لا يسكت ، وإن دافعت يمنعها من المدافعة ، هذه كلها أخلاق الجهل ، أخلاق الجاهليَّة . .
(( إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ))
[ أخرجه الطبراني عن حسين بن علي ]
والله الذي لا إله إلا هو لا يتعلَّق بالسفاسف مؤمن ، هذه سفاسف .
أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام تمرةٌ كانت تَسُدُّ رمقهما ، وضع لك العشاء ، فمعنى هذا أنك غال عليه ، هذا الذي عنده ، كأن هناك فواكه لم يضعوها لي ، في البراد أنا رأيتهم ، فتحت لأحضر الماء فرأيتهم في البراد ، ما هذا الصهر ؟ " ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتسم إلا لعلَّةٍ في أحدهما ".
شرُّ الإخوان من تتكلَّف له :
وقال عليٌّ رضي الله عنه: " شرّ الأصدقاء من تكلَّفت له " هذا شر الأصدقاء .
كان لي صديق يحضر من بلد مجاور فيحضر مجلس علم ، ينام عندي أحياناً ، يقول لي : الذي عندك قدِّمه لي ، تجد أنه مسرور جداً ، لو طرق بابي دائماً لا أنزعج أبداً ، ظله خفيف ، الموجود أضيفه منه ، ينام بالمكان المُتاح ، الطعام الموجود أضيفه فيه ، لا أشعر بثقل أبداً من مجيئه لأنه رافع التكليف ، كنت أزوره في بلده الشيء نفسه يفعله ، الموجود يضعه لي ، هكذا المودَّة تدوم ، أحياناً يكون هناك سهرات ، هذا وضع كاس شاي ، وفي المرة الثانية وضع كعكة وشاي ، و في الثالثة وضع أرزاً بحليب ، وفي الرابعة عمل قشطة ، وبعد هذا عشاء ، وبعد هذا عشاء وحلويات ، وبعد هذا وقف الدور ، التغى الدور كله ، غير معقول أن يستمر هذا ، اجعل الموضوع عادياً جداً ، اجعل اللقاء هو أهم شيء ، اللقاء هو الأهم ، التكلُّف يمنع الألفة ، لا تتكلَّف ، كن طبيعياً ، تتكلَّف مرَّة فلن تستطيع أن تعيدها مرَّة ثانية ، وإذا تكلَّفت هذا المرَّة قد يكون الذي أكرمته دخله محدود لا يتحمل أن يقدم لك مثل هذا العشاء ، هذا العشاء سيُذْهِبْ بنصف معاشه ، أنت آذيته وقطعت علاقته معك ، كن طبيعياً ، عندك قهوة قهوة ، ما عندك شاي ، القهوة صارت غالية ، ما كان عندك قهوة ضع شاياً ، لا يوجد شاي ضع مليسة ، سكرة، قدم سكراً ، اجعل القضيَّة من دون تكلُّف هذا الذي يديم المودَّة . . شرُّ الأصدقاء من تكلَّفت له ومن أحوجك إلى مداراةٍ . . يقول لك : أنا لا أتحمَّل كلمة . ويلجئك إلى اعتذارٍ . . ثلاث صفات : " شرُّ الإخوان من تتكلَّف له ، ومن أحوجك إلى مداراةٍ ، و ألجأك إلى اعتذارٍ " .
معنى هذا الأخ الراقي لا تحتاج أن تتكلَّف له ولا أن تعتذر إليه ، يعرفك محباً انتهى ، والله أنا لم أقصد هذه الكلمة ، لا تغضب ، على كل حال لابأس ، تجد أنه يكسِّر ويقول: مشي الحال ، أتحبُّه ويحبُّك انتهى الأمر ، أما هذا التدقيق فهذا من صفات الجاهليين ، قال له : " يا ربي أنا ربُّك وأنت عبدي " بدوي ضيَّع ناقته فوجدها فمن فرحته أخطأ ، قال له : " يا ربي أنا ربُّك وأنت عبدي " فالنبي عليه الصلاة و السلام قال : " لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته"
هناك شخص حقود لا يمررها أبداً ، يقول لك : أنت تكلَّمت هكذا بزمانك لا أنساها لك ، هذا شرُّ الأصدقاء من تكلَّفت له ، وأحوجك إلى مداراةٍ ، وألجأك إلى اعتذار .
وقال الفضيل : " إنما تقاطع الناس بالتكليف "
قلت لكم ذات مرَّة : إن دوراً استمرَّ سبعة عشر عاماً ، كل يوم ثلاثاء ، استغربوا لأن الأدوار كلها تنتهي بعد سنة أو سنتين ، اقصى شيء سنة ، فالتكلُّف يقطعها ، سبعة عشرَ عاماً قال أحدهم : ما سبب ذلك ؟ قالوا : لأنه لا يوجد غيبة ، ولا نساء ، ولا تَكَلُّف ، لا تكلُّف ولا غيبة ولا نساء ، إذا كان هناك نساء انتهى ، صار هناك حرام و معصية و اختلاط ، نظرتِ إليه ، والله لم أنظر ، يعمل لها مشكلة في المساء ، أنتَ عينك عليها ، شيء يقرِّف ، هذه علاقات أهل الدنيا ، أما المؤمنون فلا يوجد عندهم اختلاط ، لا يعرف أحداً . . إنَّما تقاطع الناس بالتكليف . . يزور أحدهم أخاه فيتكلَّف له فيقطعه ذلك عنه .
وقالت عائشة رضي الله عنها : " المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه " ما معنى يغتنمه؟ أي يستغلُّه ، يقول : هذا مُدْهِن ، ترفَّع ترقى عند الله ، الذي أعطاه يعطيك ، إيَّاك أن تجلس إليه فتذلَّ نفسك أمامه . ." لا يغتمنه ولا يحتشمه"
كذلك يجلس بوقار فوق الحد المعقول ، خذ راحتك قليلاً وانفرد ، هذا أخوك .
وقال الجنيد : " ما تواخى اثنان في الله واحتسم أحدهما من صاحبه أو استوحش إلا لعلَّةٍ في أحدهما "
قال لي أحدهم البارحة ، ركب معي ، حكيت له حديثاً قدسياً فدمعت عينه وقال لي: جزاك الله خيراً ، ركبت معك وآنستني بهذا الحديث ، قلت له : والله شيء طبيعي ماذا نتحدَّث إذاً ؟ قال لي : البارحة ركبت مع إنسان على قدر ما استعلى بسيَّارته وعلى قدر ما تكبَّر ونظر لي شزراً ، قال لي : والله هممت مرَّات عديدة لأقول له : قف لأنزل ، لم أتحمَّل ، ما تكلَّم ولا كلمة ، لأنه ركَّبه بالسيارة وأوصله ، هذا الكبر أعوذ بالله . .
وانظر إلى الأكحال وهي حجارة ٌ لانت فصار مَقَرُّها في الأعينِ
* * *
الابتعاد عن التكلف و التحفظ :
والله يا أيها الأخوة الأكارم . . . على قدر ما تواضعت تعلو عند الله وعند الناس والمتكبِّر محتقرٌ في نظر الله ، لا توجد صفة أبشع من التكبُّر ، على ماذا ؟ من أنت ؟ نطفةٌ أولك وجيفةٌ آخرتك ، بعد الموت ، وأي غلطة في حياتك تجد أن الإنسان فقد حواسّه ، بحصة في الكلية لا تنام منها الليل ، ويطلب لك الإسعاف . وقيل لبعضهم : من نصحب ؟ ، قال : " من يرفع عنك ثِقَل التكلُّف وتسقط بينك وبينه مؤونة التحفُّظ " التحفُّظ كذلك مشكلة ، تكون خائفاً أن تتكلَّم بكلمة فينتقدك عليها ، ما هذه الحياة ؟ ما هذه الصداقة والمودَّة ؟ خائف ، تكلَّمت بكلمة رأيت أنه سكت ، هل هناك شيء ؟ لا ، لا يوجد ، حزنت مني ؟ لا لم أحزن ، أما المؤمن فلا يوجد عنده هذا ، ما دام وقعت المحبَّة ارتفع التكلُّف ، ذكر اسمك ولم يقل أستاذ ، لم يوقِّرني ولم يعرف قيمتي ، نسي يقول لك أستاذ ، ماذا قال لك : أبو فلان ، لماذا غضبت كل هذا الغضب ؟ الله عزَّ وجل ذكر كنية واحدة في القرآن الكريم فقال :
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾
[ سورة المسد : 1]
ما ذكر غيرها ، أما يا يحيى ، يا زكريا ، يا عيسى ، أحبابه الأنبياء بأسمائهم أما عدوه فبكنيَّته . .
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾
[ سورة المسد : 1]
إنسان ما أحب أن يقول لك : أستاذ فناداك باسمك ، قال لك : أبو فلان ، لابأس ، نسي اسم ابنك فناداك باسمك ، كذلك التحفُّظ يقطع المودَّة .
جعفر الصادق رضي الله عنه يقول: " أثقل إخواني علي من يتكلَّف لي وأتحفَّظ منه وأخفُّهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي "
أحدهم ذهب إلى مكان ما فأخذ معه رفيقه ماذا أخذت معك ؟ والله عندنا قليل من البرغل فأخذناهم مع صحن مخلَّل ، والله هذا لذيذ ، أكل معك ، فعلامة الصديق الناجح من إذا كنت معه كأنك وحدك ، زارك ضيف ، إذا كان هذا الضيف فيه تكُّلف يجب أن تلبس ، لا تقدر، تلبس ثوباً أبيض نظيف استقبلته فيه ما الذي حصل ؟ أخي ما عرف قيمتي ، ما ذهب ولبس ، " أثقل إخواني عليّ من يتكلَّف لي وأتحفَّظ منه ، وأخفُّهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي " هذا أعظم أخ .
وقال بعض الصوفيَّة : " لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده بِدِرٍ ، ولا تنقص عنده باثمٍ ، يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء ، وإنما قال هذا لأن به يتخلَّص عن التكلُّف والتحفُّظ ".
إذا إنسان نام عند صديقه فاستيقظ بعد الشمس ، يجب أن تعذره ، فهو متعب ، أين صلاة الصبح أذهبتها ؟ هكذا المؤمن ؟ فاستحى على حاله ، و لن يزورك أبداً ، الإنسان تصير معه ، النبي مرَّة صلاها لكي يعلِّمنا أنه ممكن لإنسان مرّ بأمر قاهر إذا نام الساعة الثالثة و لم يستطع أن يستيقظ ليصلي الصبح لأن ابنه لم ينم طوال الليل ، فاستيقظ فرأى الشمس قد طلعت ، لا تتكلَّم ولا كلمة ، لأن هذا يصير معك أيضاً .
الصاحب الحقيقي هو من يتوب عنك إذا أذنبت ويعتذر إليك إذا أسأت :
قال بعضهم : " كن مع أبناء الدنيا بالأدب ، ومع أبناء الآخرة بالعلم ، ومع العارفين كيف شئت"
مثلما تريد لأن التكلُّف مرفوع . لا تصحب إلا من يتوب عنك إذا أذنبت ، ويعتذر إليك إذا أسأت ، و يعتذر إليك إذا أسأت ، هو الذي يعتذر عنك ، أحياناً تخدم إنساناً وتقول له: لا تؤاخذنا ، كيف أفعل هذا وأنت الذي خدمتني ؟ آخذ على لسانه لا تؤاخذنا من تواضعه ، يخدمك ويقول لك : لا تؤاخذني من كرم أخلاقه ، إذاً : " لا تصحب إلا من يتوب عنك إذا أذنبت ، ويعتذر إليك إذا أسأت ، ويحمل عنك مؤونة نفسك ويكفيك مؤونة نفسه"
رجل قال للجنيد: " قد عزَّ الأخوان في هذا الزمان . . لم يبقَ أخ صديق وفي . . أين أخٌ لي في الله ؟ " ، الجُنيد أعرض عنه حتى أعاده ثلاثاً ، فلمَّا أكثر ، قال له الجنيد : " إن أردت أخاً يكفيك مؤونتك ويتحمَّل أذاك فهذا لعمري قليل ، وإن أردت أخاً في الله تحمل أنت مؤونته وتصبر على أذاه فعندي منهم الكثير"
لا تقل لا يوجد ، الأخوان في الله كثير ، ولكن لا تطلب منه يخدمك ويتحمَّل أذاك، إذا كنت تريد إنساناً تخدمه وتتحمَّل أذاه يوجد منه كثير ، ما أكثرهم فسكت الرجل .
العلم يحتاج إلى جهد و مُدارسة و مذاكرة :
هذا الموضوع له تتمَّة طويلة ننهيها في الدرس القادم إن شاء الله ، على كل أنا متأكِّد أنكم في أثناء الدرس تستفيدون من هذه المعلومات ، ولكن لو أن أحداً منكم سأل نفسه بعد شهر عن هذا الموضوع . . عن الحق الثامن . . كم يذكر منه ؟ أغلب الظن لا يذكر شيئاً، إذاً العلم يحتاج إلى مُدارسة ، فإذا إنسان عنده وقت فراغ واشترى هذا الكتاب وبدأ يراجع الذي يسمعه ، القراءة المتكرِّرة مع التجارب اليوميَّة هذا ربَّما يقلب هذه الحقائق إلى سلوك ، إلى عادات ، إلى خُلُق ، فالمقصود ليس إعطاء معلومات ، العلم في حدِّ ذاته لا قيمة له إلا إذا طُبِّق ، مهما أتحفتكم بأفكارٍ دقيقة من هذا الكتاب ، والله الذي لا إله إلا هو لا وزن لها عند الله أبداً ما لم تنقلب إلى أخلاق تعيشونها ، وعادات تتبعونها .
فلذلك الإنسان إذا أراد أن يكون طالب علم حقيقي ، عندما كنَّا في الجامعة كان عندنا نظام للاستماع وطالب نظامي ، بقي أربع سنوات يعطى المستمع شهادة خاصَّة لا قيمة لها ، مستمع ، أما الطالب النظامي فعليه امتحانات ، و مذاكرات ، و أعمال كتابيَّة ، و تقارير، و أطروحة ، وأشياء دقيقة جداً ويُحاسب حساباً خاصاً .
فنحن الاستماع فقط لا يفيد ، الكتاب موجود في الأسواق ، فإذا إنسان حاول أن يراجع هذا الموضوع لوحده في البيت يتذكَّر كل تعليق علَّقت عليه أنا ، كل تعليق علَّقت عليه يتذكَّره ، فالذي أرجوه أن تكون هذه الحقائق عاداتٍ ، أخلاقاً ، سلوكاً نعيشه ، إذا فعلنا هذا والله كان المجتمع كالبنيان المرصوص ، هذه أخلاق ثمينة جداً ، هذه حقوق إذا أحب الواحد أن يطبعها لوحدها كرسالة حقوق الأخوة في الله والله شيء جميل ، عمل طيِّب ، إذا إنسان أخذ من الكتاب حقوق الأخوَّة في الله وطبعها ووزَعها مجَّاناً يكون قد أدَّى خدمة كبيرة ، هذا الفصل لوحده موضوع .
فالواحد لا يكتفي بالسماع ، العلم يحتاج إلى جهد ، إلى مدارسة ، إلى مذاكرة ، إلى مراجعة ، إلى تطبيق ، حتَّى أن بعضهم أخذ هذا الموضوع - الحق الثامن - وسجِّل عنده النقاط الرئيسة ، في آخر الجمعة يقول : ماذا طبَّقت منه ؟ عمل زيارات أو زاره أقرباؤه هل طبَّق هذه المعلومات ؟ رفع التكلُّف ؟ لم ينتقدهم أبداً ؟ ما حاسب حساباً دقيقاً ؟ ما تحفَّظ ؟ ما أوجس الناس منه ؟ أما كمعلومات فليست لها قيمة ، إنسان توفي فترك مئتي مؤلَّف ، فلمَّا سأله تلميذه في المنام قال له : يا سيدي ماذا فعل الله بكَ ؟ قال له : طاحت تلك العبارات ، وذهبت تلك الإشارات ولم يبق إلا رُكَيْعَات ركعناها في جوف الليل .
إذاً العلم في حدِّ ذاته لا قيمة له ، العلم ليس مطلوباً لذاته إنما هو مطلوبٌ لأن تعمل به ، ومن عمل بما علم علَّمه الله ما لم يعلم ، ولن تكون عالماً حتَّى تعلم ما علمت ، تعلَّموا ما شئتم فوالله لن تؤجروا حتَّى تعملوا بما علمتم ، أي لو أنك فعلت مع أخيك المؤمن حالةً من هذه الحالات لكان هذا أفضل لك من حفظ هذا الكتاب كُلِّه ، لو حفظته كلَّه أقول لك كما قال الغزالي: " زادت نسخة " ، في السوق على مستوى القطر فرضاً توجد ثمانية آلاف نسخة ، لو حفظته غيباً خلال خمسة أعوام لقلت لك : زادت نسخة ، فلو طبَّقت بعض أحكامه لارتقيت عند الله عزَّ وجل فالعبرة بالتطبيق ، أما الحفظ وحده فلا يكفي .
والحمد لله رب العالمين