من النعم التي أنعم الله بها على أمة الإسلام أن جعل لها قرآنًا محفوظًا من كل خطأ، فحفظه من التحريف بالأحرف والكلمات والمعاني، بل تعدى الأمر ليحفظ طريقة قراءته حتى، بتأسيس علم أحكام التلاوة والتجويد بتوفيق الله لثلة من علماء المسلمين الذين جعلوا هذا نظامًا يتلى من قلب رجل لقلب رجل آخر، فينتقل بينهم في سلسلة متواصلة حتى يبلغنا اليوم، لم يتغير منه حرف ولا تغير منه نطق أبسط صوت حتى.
فبدأ القرّاء بقراءة القرآن على الناس وتعليمهم إياه بالممارسة، ما رافقه أيضًا إيجاد التنقيط والحركات ليسهل على غير الناطقين بالعربية الأمر أيضًا، وبعد أن مرت السنين وازداد انتشار الإسلام عقد لذلك في الكتاتيب ودور العلم بابًا خاصًا في تعليم أحكام قراءة القرآن، ووضعوا لذلك المصنفات والأبيات الشعرية، فكان أول من بدأ ذلك هو الإمام الشاطبي، الذي دون رواية حفص عن عاصم بأبيات جميلة عنونة باسمه فيما بعد.
إنّ أهمية تعلم أحكام التجويد تكمن في تعليم الناس القراءة الصحيحة للقرآن وما يلازم ذلك من تعلم قراءة النبي له (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنزل والتغني به وتجميل الصوت، فمن أتقن أحكام التجويد سهلت عليه القراءة، وأصبح صوته رقيقًا جميلًا في القرآن يخشع القلوب ويسعدها.
وفي عصرنا الحالي تدرج علم التجويد وأحكامه إلى ثلاثة درجات، الأولى وهي التأهيلية، ويدرس فيها أحكام النون الساكنة والتنوين وأحكام الميم الساكنة ويدرس المد والوقف والوصل وبعض مخارج الحروف، ويليها العليا ويدرس فيها الأحكام اللازمة للقرآن كالقراءة المنحدرة أو السريعة وما يوجب هذا وذلك والزامات الوقف والوقف المحبب والممنوع، ويركز المعلم على تدريب طلابه على مخارج الحروف والأصوات ويبحث في شاذ الأقوال من الألفاظ بحيث يتقنها القارئين مع التركيز على نفس أحكام التأهيلية بدرجة أعلى من التدقيق والتحريز، وأخيرًا سند القراءة المتصل عن رسول الله، وفيه يقرأ القارئ كتاب الله غيبًا على قارئ ممتاز في القراءة حافظ متقن للتلاوة، فيقرأه كاملًا غيبًا بأحكام التلاوة من غير أي لحنٍ على القراءة، سواء كان في الحروف أو في الكلمات أو في جميع الأحكام الخاصة بالتلاوة والتجويد.
أخيرًا إنّ أحكام التجويد مسألةٌ مهمة، ولكنّها لا ترقى لأهمية مسائل الفقه وفهم الواجبات من الدين كأركان الإسلام مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج فالتجويد عمل يثاب عليه المرء، صحيحة صلاته حتّى لو لم يجيد التجويد، ولكنّه لا يقدم لإمامة الناس في ذلك، فالأصل أن يوازن الإنسان بين ما هو ضروري معلوم الضرورة من الدين الذي لا يصح الإسلام بغيره، مع تعلم قراءة القرآن الصحيح وإتقانها بصوت جميل تخشع له القلوب والعقول على حد سواء، فلا يجعل الإنسان من وقته ما يطغى فيفسد حياته بهذا أو ذاك، وليترك أيضًا وقتًا للعلوم ليتعلم فيها بجوار ضروريات الدين والقرآن، فالسلامة في القلب والعقل في ذلك. والله أعلم.