إن التبتل مصدر تبتل بمعنى انقطع للعبادة وأخلص فيها، فيقال للعابد إذا ترك كل شيء
وأقبل على العبادة: قد تبتل، أي قطع كل شيء إلا أمر الله وطاعته سبحانه.
والبتول من النساء: المنقطعة عن الرجال، لا أرب لها فيهم، وبها سميت مريم البتول لأنها
انقطعت عن الأزواج، كما وصفت فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنها بالبتول لانقطاعها
إلى الله تعالى بالعبادة وإخلاصها النية له.
قال الله تعالى:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}(المزمل قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: أيأكثر من ذكره وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال:{فإذا فرغت فانصب} (الشرح :7) أي: إذا فرغت
من مهامك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه
فالتبتل الذي يقصدونه في هذا المقام هو الانقطاع إلى الله بالكلية، بحيث يكون العبد متجردًا
لسيده ومولاه، ولو أخذ من حظوظ الدنيا مما أحل الله وأباح فلا يتعارض هذا مع التبتل الذي
مداره على القلب وانقطاعه لربه وإخلاصه له، قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚقُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (33)} (الأعراف).
وإذا كان غاية شرف النفس دخولها تحت رق العبودية طوعًا واختيارًا ومحبة، لا كرهًا وقهرًا
كما قيل:
شرفُ النفوس دخولها في رقهم .. .. والعبد يحوي الفخر بالتمليكِ
فإن التبتل يجمع أمرين لا يصح إلا بهما: الاتصال ، والانفصال.
أما الانفصال فيُقصد به: انقطاع قلب المتبتل عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب، وعن
التفات قلبه إلى ما سوى الله تعالى .
وأما الاتصال: فهو اتصال القلب بالله تعالى، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له، حبًا وخوفًا،
ورجاءً وإنابةً وتوكلاً
أيها الحبيب: إن من صح فراره إلى الله، صح قراره مع الله، ومن انقطع إلى الله أغناه
عمَّن سواه.
هذه مريم البتول انقطعت إلى الله؛ فآثرها على نساء العالمين، وأجرى لها من الكرامة ما
أجرى؛ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}(آل عمران: 37) .
وهذه آسيا انقطعت إلى الله وآثرته على الملك والجاه، فآثرها الله بالقرب منه في جنته ودار
علاه، وجعلها مثلا للمؤمنين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ
ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(التحريم 11).