حج الفريضة واجب على كل مسلم قادر، توفّرت فيه الشروط بإجماع العلماء، بل هو
أحد الأركان الخمسة التي عليها مدار الإسلام بالاتفاق، ومن جحد وجوبه كفر إجماعًا.
والتزوّد من النوافل خير{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 158] بيد
أن ثمّة نوافلَ تخص الفرد ذاته، كالصلاة والصيام، فهذه تعود إلى المتطوّع دون غيره
والأغلب أن الآخرين لا يتضرّرون منها، ولا يستفيدون منها بصفة مباشرة.
وثمّة نوافل تنفع النّاس، ويتعدّى برّها وخيرها لهم؛ كنوافل الصدقة والإحسان، فمهما
أكثر منها المرء كان فضلاً له، ونفعًا لغيره.
ولذا يُقال: "لا إسراف في الخير"، وإن كان هذا الأمر ليس على إطلاقه.
ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص عندما أوصى بماله كله، بأن
يُمسِك بعضه فهو خير له. رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين في قصة الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ونزلت توبتهم؛ قال كعب بن مالك:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ
مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ).
ويبقى قسم ثالث من النفل لا يتعلق بالمرء ذاته فحسب، بل له تعلّق بالآخرين؛ بسبب
المزاحمة في المكان أو في غيره.
والحج والعمرة من هذا القبيل، فإنّ المشاعر محدودة، والزمان موقوت لا يتقدم ولا يتأخر.
والصدقة بقيمة الحج أفضل في مثل هذه الأوقات التي تتعاظم حاجة النّاس فيها إلى المال، كم
ا في الكوارث التي تضرب بلاد الإسلام من الزلازل، أو المجاعات أو الحروب التي لم تنقطع منذ
عشرات السنين.
ذكر ابن مفلح في الفروع أن الإمام أحمد سُئل: أيحج نفلاً أم يصلُ قرابته؟ قال: "إن كانوا
محتاجين يصلهم أحبُّ إليَّ".
ونقل ابن هانئ في هذه المسألة أنّ الإمام أحمد قال: "يضعها في أكباد جائعة".
وفي الزهد للإمام أحمد عن الحسن قال: "يقول أحدهم: أحجُّ أحجُّ، وقد حججت! صِلْ رحمًا،
تصدّق على مغموم، أحسن إلى جار".
وفي كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي: "إن الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد".
وعن وكيع عن سفيان عن أبي مسكين قال: "كانوا يرون أنّه إذا حج مرارًا أن الصدقة
أفضل". وهو قول الإمام النخعي أيضًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والحجّ على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست
واجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم
مضطرون إلى نفقته".
وفي مثل هذه الأحوال التي يعاني الحجيج فيها من إشكالات عديدة في أداء النسك؛
بسبب الجهل والازدحام وسوء التنظيم وغير ذلك يكون الأمر ألزم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضى الله عنه: (يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ؛ لاَ تُزَاحِمْ
عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ) أخرجه
أحمد والشافعي والبيهقي في الكبرى.
وعن ابن عباس قال: "إذا وجدت على الركن زحامًا، فانصرف ولا تقف".
وعن منبوذ بن أبي سليمان عن أمه أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى
عنها- فدخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبعًا، واستلمت
الركن مرتين أو ثلاثًا. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: لا أجرك الله! لا أجرك الله!
تدافعين الرجال! ألا كبّرت ومرَرْت.
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنّها قالت: "كان أبي يقول لنا: إذا وجدتُن فرجة
من النّاس فاستلمن، وإلاّ فكبّرن وامضين".
نعم هنالك من يكون الحج أولى له، أو يلزمه بسبب غير سبب الوجوب الأصلي، كمن
يذهب مَحْرَمًا لزوجه أو قريبته، أو مصاحبًا لوالد مسِن، أو قائمًا على مسئولية تتعلق
بمصالح الحجيج، دينية كانت أو دنيوية، لكن يظل سواد عريض من مزمعي الحج هم
من غير هؤلاء