كانت أحسن نساء زمانها جمالا، وأفصحهن مقالا، وأكملهن عقلا، وأعظمهن أدبا، وكانت
معتنقة الديانة المسيحية ومتعبدة بها تعبدا زائدا وكانت إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها
طريقها بالحرير والديباج مغشى الخز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها
وترجع إلى منزلها وبقيت على ذلك وهي في غاية العز والإجلال إلى أن هلك النعمان فكلمها
الزمان، فأنزلها من الرفعة إلى الذلة، ولما نزل سعد بن أبي وقاص بالقادسية أميرا عليها
وهزم الله الفرس، وقتل رستم أتت حرقاء بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن
في زيها عليهم المسموح والمقطعات السود مترهبات تطلب صلته فلما وقفن بين يديه أنكرهن
سعد فقال : أيكن حرقاء ? قالت : ها أنا ذا قال : أنت حرقاء ? قالت : نعم، فما تكرارك
في استفهامي، ثم قالت : إن الدنيا دار زوال ولا تدوم على أهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال
حالا، كنا ملوك هذا المصر يجبي لنا خراجه ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما
أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا
سعد أنه ليس يأتي قوما بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول :-
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنـا إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف
فـــأف لـدنـيـا لا يـــدوم نعيـمـهـاتـقـلـب تــــارات بــنــا وتــصــرف
فقال سعد : قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر حيث يقول :-
إن للدهـر صـولـة فاحذرنـهـالا تبيتـن قـد أمنـت الـدهـورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزاولـقـد كــان آمـنــا مـســرورا
فبينما هي واقفة بين يدي سعد إذ دخل عمرو بن معد يكرب وكان زوارا لأبيها في
الجاهلية فلما نظر إليها قال : أنت حرقاء ? قالت : نعم، قال : فما دهمك فأذهب
بجودات شيمك أين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك فقالت : يا عمرو، إن للدهر عثرات
وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد
عز, إن هذا الأمر كنا ننتظره فلما حل بنا لم ننكره