السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
)*(*)(*
ساقي
لحسن حظه أنه وحده دون شركاء في المنزل .. فسكان بقية الغرف غادروا صبيحة هذا اليوم
المشمس إلى السوق للتبضع .. لذا وجدها فرصة،حيث قال بينه وبين نفسه أنها اللحظة
الأفضل كي يلوذ منهم بقليل من النوم ..
نام وفي نيته ان يرتاح قليلا مما عاناه في العمل ومما رآه في أحد الأفلام الهمجية
الهوليودية..
لكن الكوابيس فاجأته في عز الظهر، وأرته نجوم الظهر كما يقولون ..
ففي نومه او حلمه وجد نفسه دون إحدى ساقيه.. رأى نفسه بلا ساق .. لم يصدق ما رآه
وكيف حصل ذلك ومتى وأين ولماذا ..
أخذ يركض على ساق واحدة كأنه إنسان غير كل البشر.. خاف من نفسه وعلى نفسه ..
لا يتذكر كيف حصلت تلك المصيبة . كل ما يتذكره أنه رأى نفسه بدون ساق فأخذ يركض
ويصرخ بصوت عالي : آه .. ساقي .. ضاعت ساقي .. راحت ساقي .. فقدتها وفقدت القدرة
على الركض .
لم يلفت انتباهه أنه كان يركض على ساقيه وهو يصرخ مطالبا بساقه .. ولم يشعر بالألم
ولم ير الدماء. لكنه كان متأكدا من فقدانه الساق.. لقد دخل في حالة رعب وهلع أو في
حالة جنون وصرع . كل ما كان يسمعه هو صراخه :
ساقي !
أضعتها..
ترى هل أضاعها حيث ضاعت أحلامه الأولى ... وهل فقدها يوم فقد مدينته وجيرانه
والمدرسة والحارة وأجمل قميص أهدته له والدته في يوم عيد ميلاده.. كان قرر النوم
لأجل أن يحلم بعصافير تزقزق وطيور تغرد وحوريات ينثرن الورد وجميلات يسقينه شراب
الحب من ثمار الفردوس. نام كي يلتقي بشهرزاد لتقص عليه بعض قصص الحب العذري.. كان
مولعاً بالغراميات التي لم يعرفها سوى من القصص والحكايات. فهو لم يعلق في شباك حب
ولم يلفت انتباهه ما يمسك به من قلبه.
كان صبيا هادئا وفتىً ذو توجهات مدرسية ، يختلف عن أقرانه في الحارة والمدرسة. لم
يكره الحرب لأنها فرضت على شعبه،ولكنه بنفس الوقت لا يخفي رغبته بذهابها بلا رجعة.
فهي كالنار المستعرة تلتهم وتحرق كل من يقع في دائرتها. وهي التي أخذت بعض زملائه
وجيرانه . كما أنها قد تكون السبب في بتر ساق جارهم الحاج.
كان مع أقرانه من الأطفال يتجمدون خوفا من الحاج،إذ اعتبروه رجلا مخيفا لأنه بلا
ساق ، كانوا لا يفهمون أسراره حين يرونه يوم بساقين اثنتين ويوم آخر بساق واحدة.
وكانوا يتناقشون ويسألون بعضهم ويحللون ويجيبون على هواهم..
أما الحاج المثقل بهموم ساقه الاصطناعية ومشقة السير بها في الصيف الحار،حيث عادة
ما تكون درجات الحرارة مرتفعة والرطوبة مزعجة. مما يجعل احتكاك ساقه المبتورة
بأطراف الساق الصناعية أمرا مؤلما يتسبب بالأوجاع وبالجراح في كثير من الأحيان،بحيث
لا يعود الحاج يقدر على استعمال ساقه الصناعية بل يضطر مجبرا للسير بدونها ،
والظهور خارج منزله بساق واحدة، لكن بمساعدة عكازين صنعا خصيصا لمثل تلك الحالات.
هل أضعت شيئاً ما يا عزيزي ؟
جاءه الصوت من الممر الضيق الذي يقع بين غرفته والصالون المشترك لسكان المبنى
الصغير. لم يعرف هل السائل جاء من الخارج أم أنه جزء من كابوسه اللعين. خاصة انه
ظهر أمامه بعكازه الخيزراني، ونظر في بياض عينيه من بعيد.
للوهلة الأولى ظن أن هذا الرجل هو الحاج نفسه ، يقف أمامه على ساق صناعية وعصاً
معدنية. لم يعد بعد سنوات الغربة الطويلة يتذكر بالضبط شكل وهيئة الحاج. لكن الرجل
الذي يتحدث إليه أشبه ما يكون بحاج طفولته. نفس الوقفة ونفس اللحية ونفس الشارب
ونفس ثنية الساق وضخامة الركبة. ونفس العصا الخيزرانية التي كان يستعملها الحاج.
إذن هو هنا هذا الذي تعب وتحمل وصبر كي لا يخرج في كثير من الأحيان من منزله بدون
ساقه الصناعية... انه الحاج من جديد ويبدو انه على خير ما يرام. وبساقين مثل كل
الناس. هو مثل الجميع أما أنا فقد أصبحت مثله في الزمن السابق . بلا ساقي ، تلك
التي ذهبت كمن ذهب ولم يعد..
كان يتمتم بتلك الكلمات حين جاءه صوت الحاج :
- هي ليست أكثر من ساق من لحم ودم وعظم. وأنت لست الأول ولا الأخير في هذا العالم
الذي تصلح تسميته عالم بلا سيقان..
- كيف يمكن للمرء أن يسير على ساق واحدة ؟ أنا شخصيا لا أفهم ذلك وأجد صعوبة في
الإجابة على السؤال.
ولكي يخفف عنه عبء الإجابة قال له الحاج :
الإنسان حين يفقد ساقه او عضو من أعضائه عليه الصمود والتحلي بالصبر وفولذة
الإرادة. لأن العضو المبتور يذهب ولا يعود بينما الإنسان يبقى إلى أن يموت. وفي تلك
الفترة يجب عليه ان يتعلم الحياة من جديد، والسير من جديد. وان لا يجد في نفسه أية
فوارق عن الآخرين. لأن تصنيف النفس خارج المجموع في تلك الحالة يجعل الإنسان في خبر
كان. ويجعل ثقة الشخص بنفسه مهزوزة وضعيفة. مما يؤثر على كافة مسارات حياته. عليك
ان تقبل بالواقع الجديد وتتحداه وتمضي في مشوارك بهمة وعزم وجرأة.
استمع لنصائح وإرشادات وخبرة الحاج وهو يمشي إلى جانبه كل على عكازاته.. وفي لحظة
عابرة جمع قواه وسأل الحاج عن سر بتر ساقه. فرد عليه الحاج وهو مبتسم: كنت صيادا
أصيد السمك في البحر.. وذات يوم اقتربت من زورقي الصغير سفينة كبيرة كانت تعج
بالقراصنة الغرباء الذي وصلوا إلى بحرنا ونزلوا برنا فيما بعد. بأشكالهم وهيئاتهم
المخيفة التي تثير الرعب. طلبوا مني ان أكون دليلهم على الساحل. وافقت مجبرا وخوفا
من زعيمهم الذي كان بساق واحدة خشبية. وبعين واحدة وضع فوقها لفافة سوداء. عندما
وصلنا الشاطئ حدثت جلبة وإطلاق نار وفوضى وفجأة وجدت نفسي مصاباً وبدون ساقي.
صحوت فيما بعد على نفسي في غرفة بيضاء في المستشفى حيث كانت تتم معالجتي. بعد ان
شفيت عدت الى البحر ، الى الحارة القديمة وبقيت هناك حتى توفاني الله وأحضرتني
الملائكة الى هذا المكان. حيث يتم جمع الموتى الذين فقدوا أطرافهم في الحياة.
ماذا توفاك الله؟ موتى ومكان لل..
نعم توفاني الله! ومكان لل ..
بقدرة قادر في تلك اللحظة انتفض صاحبنا مرعوبا من الهلع،حيث ظن انه قد مات بعدما
بترت ساقه.. ولكنه وجد نفسه فوق سريره يلهث ويكاد يختنق . فتناول على عجل كأس الماء
الذي فوق الطاولة الصغيرة بالقرب من سريره.. شرب كل ما كان فيه.. وبعد أن هدأ قليلا
.. تحسس ساقه فوجدها في مكانها وفعل الشيء نفسه مع الأخرى حيث وجدها أيضاً مكانها..
ضحك من نفسه .. لكنه لم يعد للنوم ، ارتدى ملابسه وخرج يتمتع بالشمس خارج المنزل