قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يجعل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:
قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو أخذ الناس كلهم
بهذه الآية لكفتهم"،
وقوله: {مَخْرَجًا} عن بعض السلف : أي من كل ما ضاق علي الناس ، وهذه
الآية مطابقة لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5] الجامعة لعلم الكتب
الإلهية كلها وذلك أن التقوى هي العبادة المأمور بها فإن تقوي الله وعبادته وطاعته
أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
ومن يتوكل علي الله مثال: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}
[هود:123]، وقال:{عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4]، وقال:
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشوري: 10].
ثم جعل للتقوى فائدتين: أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب.
والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج ، وإنما يطلب الخروج من الضيق
والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق ، فَبَين أن فيها النصر والرزق ، كما
قال:{ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[قريش: 4] ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم،
واستغفارهم" هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة.
وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي: كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من
حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال:{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر: 36]
خلافا لمن قال: ليس في التوكل إلا التفويض والرضا.
ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:
3] وقد فسروا الآية بالمخرج من ضيق الشبهات بالشاهد الصحيح والعلم الصريح
والذوق كما قالوا: يعلمه من غير تعليم بَشَرٍ ويفطنه من غير تجربة ذكره أبو طالب
المكي، كما قالوا في قوله:
{إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يجعل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] أنه نور يفرق به بين الحق والباطل
كما قالوا: بصرًا،
والآية تعم المخرج من الضيق الظاهر والضيق الباطن، قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ
أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]
وتعم ذوق الأجساد وذوق القلوب من العلم والإيمان، كما قيل مثل ذلك في قوله:
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة: 3]،
وكما قال: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} [الأنعام: 99]، وهو
القرآن والإيمان.
__________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية