جاءت اللحظة التي سيلتقي فيها جبريل عليه السلام مع رسولنا صلى الله عليه
وسلم للمرَّة الأولى، وكان هذا في رمضان من السنة الأولى من البعثة، وقد بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعين سنة، يقول عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما: "بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ
بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ
وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ".
هذه الرواية حدَّدت مددًا معيَّنَة لكل فترة من فترات حياته صلى الله عليه وسلم
فهناك أربعون سنة مرَّت عليه قبل البعثة
وهناك ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، ثم توفي بعدها رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
والبعض قد يظن أن هذه أرقام تقريبية؛ لأن جبريل عليه السلام جاء في
رمضان؛ بينما نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في ربيع الأول
وبهذا يكون في حساب البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا
الشهر -أعني شهر رمضان الذي جاء فيه جبريل عليه السلام- قد تجاوز
الأربعين بستة أشهر، وتُصبح فترة مكة في هذا الحساب ثلاث عشرة سنة
ونصف؛ لأنه هاجر في ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من البعثة؛ بينما
تبقى فترة المدينة عشر سنوات كاملة؛ لأنه مات في ربيع الأول كذلك من العام
الحادي عشر من الهجرة.
وواقع الأمر أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان دقيقًا جدًّا في حسابه؛
لأنه أدخل فترة الرؤيا الصادقة في الوحي، ونصُّ عائشة رضي الله عنها في
البخاري يُؤَكِّد أنها داخلة فيه؛ حيث قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ".
وقد بدأت هذه الفترة قبل رمضان بستة شهور، أي في ربيع الأول، وبذلك تُصبح
النبوَّة عند سن الأربعين تمامًا، وهذا دليل جديد على أن فترة الرؤيا الصادقة
كانت ستة أشهر، وهذا تُؤَكِّده رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في البخاري
كذلك: "بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً".
فكلمة أنس رضي الله عنه هذه: "عَلَى رَأْسِ". تُوَضِّح أن البعثة كانت بعد تمام
الأربعين مباشرة (أي وهو يبدأ عامه الواحد والأربعين).
ومن الثابت أن قدوم جبريل عليه السلام كان في رمضان؛ إذن أول البعثة التي
كانت على رأس أربعين سنة كانت في ربيع الأول عندما بدأت مرحلة الرؤيا
الصادقة؛ وبذلك تُصبح فترة مكة ثلاث عشرة سنة تمامًا؛ لأن هجرة الرسول
صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول وكذلك فترة المدينة عشر سنوات
كاملة، ويُصبح عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين سنة كما قال
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
من الواضح أن سن الأربعين له أهمية خاصة في حياة الإنسان؛ حتى إن الله
عز وجل ذكره على وجه التخصيص في كتابه الكريم حين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]
، فهذا التمام في العقل، وهذا النضوج في الأخلاق
وهذا العمق في الرؤية، وهذه القدرة على فهم الأمور فهمًا صحيحًا، بدأت عند
سن الأربعين. ولكن يلفت الأنظار هنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى هذه
اللحظة -مع ما كان يتميَّز به من الشرف والمكانة والأخلاق الحميدة والحكمة-
لم يكن يحمل دورًا قياديًّا في مكة
وكانت أمور مكة تُدار ببعض الرجال الآخرين من قبائل مختلفة، لم يكن من
بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن الممثِّل لبني هاشم في قيادة
مكة كان عمُّه أبو طالب، وهذا بالطبع لعوامل السن، وعوامل القيادة في بني
هاشم ذاتها.
لكن النقطة التي أُريد أن ألفت لها الأنظار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد سن الأربعين سيبدأ لا أقول في قيادة مكة وحدها و قيادة العرب، بل سيبدأ
في قيادة الدنيا بكاملها، وهنا لفتة لكل المسلمين الذين يقرءون سيرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم