ابن تيمية قضى أعواما في السجن يغتسل لكل جمعة ويلبس أنظف ثيابه
ثم يتوجه لباب السجن -وهو موقن بغلقه-حتى يقيم الحجة على سجانه
من جهة،وحتى لا يحرم نفسه من سنن الجمعة ولو كان وحده من جهة
أخرى..
فقد كان يحمل قلبَ طليقٍ وهو سجين، ونفسَ منطلِقٍ وهو محبوس
لذا أثر عنه قوله:
أنا جنتي إيماني، وإيماني في قلبي،
وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا الله.
يقول ابن القيم حاكيا عن أستاذه ابن تيمية:
قال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى،
والمأسور من أسره هواه.
ويقول أيضا حاكيا عنه:
لما دخل القلعة(ليسجن فيها) وصار من داخل سورها
نظر إلي وقال :
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}.
السعادة في طهر النفوس لا في تعليق الفانوس...
ومتعة السجدة في قلب الساجد قبل المساجد
قد يؤلمنا غياب بعض الأجواء ، وعدم صدح المساجد بالصلاة...
وقد يوجعنا حرماننا من جماعة التراويح، وسلام ما بعد الصلاة،
ولقاءات الإفطار، والاعتكاف مع الأخيار...
لكن وجع غياب الشكل لا ينبغي أن يلهينا عن المضمون..
فلنجعل بيوتنا مساجد، وأبناءنا أئمة، وزوايا حجراتنا محاريب...
ولنستبدل بأيادينا المصافحة جيوبا تخرج قروشا قد تكون أدفأ ليد
الفقير من ألف يد..
ولنعش رمضان الخلوات والختمات وحكايا السيرة للبنين والبنات..
لنعش رمضان الهادئ إلا من أنين التائبين، وطنين التالين، وتلاوة
المتهجدين.
فمن يدري، فلربما علم الله طول انشغالنا بصخب الشوارع،
وتزيين البيوت عن تزيين القلوب وسكينة النفوس فهيأ لنا الأسباب لرمضان
نقرأ فيها مخلصين كما كان مالك بن دينار يفعل عندما يغطي مصحفه،
ويخفض صوته إذا اقترب من الباب طارق أو زائر...
أو مثل آخر كان يأتيه أخوه وفي عينيه دموع الخشية فيقول مواريا:
ما أشد الزكام
عيشوا رمضان الأدب لا الصخب، وجربوا ختمات السر لا العلن،
وابكوا في زوايا الغرف لا المساجد،
وادعو الله مستشفعين بأيدي أطفالكم الصغيرة لمغفرة ذنوبكم الخطيرة،
وغيبوا عن الأنظار وتعرضوا في خلوات بيوتكم لنظر الغفار...
عيشوا رمضان متصدقين بصدقة سر لفقير... لا بنفقات كانت تنفق في
ولائم ملآى بالتبذير كأن المدعو إليها وزير
عيشوا رمضان الأبوة والزوجية...والأخوة والوالدية..
عيشوا رمضان القلوب والجيوب.
عندها ستعلمون أن ما قدره الله من الفيروسات...
كان إنقاذا لقلوبكم من كثير من الانشغال بصخب الحياة.
رمضان مبارك على الجميع