توارت عن الأنظار مرتين، وتحدت الفيضانات والزلازل والحروب على مدى
قرون عديدة، حكاية هذه المئذنة تشبه الأساطير، فقد صمدت أمام صروف
الدهر، وبقيت شامخة ومتماسكة، بمعمارها البديع وشكلها الهندسي المميز.
وظلت هذه المئذنة الرائعة، التي يبلغ ارتفاعها 65 مترا، طويلة على طول
الزمن منسية بين الجبال الشاهقة في ولاية غور وسط أفغانستان، مكتفية
بعزلتها وبقدرتها الذاتية على الصمود.
شيد السلطان الغزنوي غياث الدين محمود، هذه المئذنة، التي تتسم بتناسقها
البديع في القرن الثاني عشر، وتحديدا في عام 1192 في واد وعر بمحاذاة
نهر هاريرود واستعمل في بنائها الطوب الحراري وهي تتكون من أربع قطع
أسطوانية متدرجة، زُين سطحها الخارجي بالكامل بنقوش وزخارف إسلامية
وبآيات قرآنية، كما انها زودت من الداخل بدرج حلزوني مزدوج.
نسي الناس هذه المئذنة إلى أن عثر عليها من جديد عالم الآثار الفرنسي
أندريه ماريك عام 1957، وترك وصفا وافيا لها ولزخارفها. ومن بعد،
تواصلت أعمال المسح والتنقيب في المنطقة حتى سبعينيات القرن الماضي،
وتوقفت بفعل الحروب حتى مطلع الألفية الثانية.
وبدأ العالم ينظر بجدية إلى هذه المئذنة في عام 2002، حين أدرجتها منظمة
اليونيسكو في قائمة التراث العالمي، ومع ذلك فإن هذا الصرح العتيد الذي كان
من المعالم النادرة التي نجت من التدمير أثناء اجتياح المغول للمنطقة في عام
1222، لم تجر عليه أي عملية ترميم منذ إنشائه قبل أكثر من 800 عام.
ويقول الخبراء إن الشواهد تدل على أن المئذنة كانت ملحقة بمسجد صغير لا
يتناسب حجمه مع علوها الشاهق، وهم يشيرون أيضا إلى العثور على بقايا
قلاع وأبراج مدينة قديمة إلى الشمال من المئذنة، وآثار تحصينات إلى الشرق
منها، يرجحون أنها كانت محاطة بمعسكرات للجيش.
وكشفت هذه الأطلال الواقعة إلى الشرق من المئذنة للمنقبين عن اسم مهندسها
وتبين أنه يدعى علي بن إبراهيم النيسابوري.
وفي عام 2003، اكتشفت مجموعة من علماء الآثار، كانت في مهمة لتقييم
تأثيرات مشاريع بناء طرق وجسور على المئذنة التاريخية، نحو 10 أنفاق
تركها وراءهم باحثون عن الكنوز ولصوص آثار، وتبين أن هؤلاء حفروا
تحت قواعد المعالم الأثرية بحثا عن مخابئ سرية تحت الأرض.
وخلال أعمال تنقيب لبعثة أخرى استعانت بصور للأقمار الاصطناعية في عام
2005، اكتشف الخبراء أن نشاط لصوص الآثار فاق جميع التوقعات حيث تم
العثور على 121 نفقا في هذه المنطقة الأثرية الهامة، ما دفعهم للتعبير عن
مخاوف على مستقبل المئذنة ذاتها بسبب أعمال النهب والتخريب ولامبالاة
السكان بمصير كنوزهم التاريخية الحضارية.
وأسهمت تضاريس هذه المنطقة الوعرة، المحاطة بجبال يصل ارتفاعها إلى
2400 متر، في حجب هذا الصرح المعماري الفريد عن الأنظار، وفي عزلته
عن العالم الخارجي لحقب طويلة، إلى أن لمحه صدفة البريطاني توماس
هولدتش في عام 1886، أثناء مهمة له في المنطقة ضمن اللجنة الأفغانية
للحدود، وذكرها في أحد تقاريره.