يُحْكَى أنَّ الملك الذي كان يحب الأذكياء، ويقرِّبهم إليه دائماً ، ويسعد بمجالستهم واختبارهم
بأسئلته الذكيَّة ، كان في أحد الأيام يتنزَّه مع وزيره في حديقة القصر الواسعة ، فمرَّا ببحيرة
رائعة تزيِّنها تماثيل أسود يخرج الماء العذبُ من أفواهها بطريقةٍ مُعْجِبَةٍ وساحرة.
شعر الملكُ بالعطش ، وطلب من الوزير أن يسقيه شربة ماء.. فتناول الوزير طاسة فضية
كانت على كانت على الحافة ، وملأها ، ثم سقى الملك ، وأعاد الطاسة إلى مكانها.
نظر الملك إلى الطاسة بعد أن استقرَّت في مكانها ، ثم التفت إلى الوزير، وقال:- أيّها الوزير
لقد تكلَّمتِ الطاسةُ ، فماذا قالت؟
وجمَ الوزيرُ، وكسا التعجُّبُ ملامِحَهُ ، ولم يدرِ بماذا يجيب.
فالطَّاسة جماد ، ولا يمكن لها أن تتكلم ، ولكن هل يجرؤ على قول هذا للملك؟!
ولمَّا طال صمتُ الوزير ووجومُهُ ، صاح به الملك:- أُمْهِلُكَ ثلاثة أيام لتأتيني بما تفوَّهت
بهِ الطاسة ، وإلاَّ نالكَ منِّي عقابٌ قاسٍ
عاد الوزير إلى بيته مهموماً حزيناً ، ثم دخل غرفته ، وأغلق على نفسه بابها ، وراح
يفكِّر ويفكِّر ، ولكنه لم يهتدِ إلى حلٍّ أو جابٍ مقنعٍ ، وراح يتساءل: (ترى ماذا يقصد
الملك بسؤاله؟.. هناك جوابٌ، ولاشك، يدور في خلده.. ولكن ما هو؟!).
طالت خلوةُ الوزير في غرفته ، فقلقت عليهِ ابنته الوحيدة ( قمر الزمان ) ، فاقتربت
من باب الغرفة ، ونقرت عليه بلطف ، ثم استأذنت بالدخول ، فأذن لها .
قالت ( قمر الزمان ) لأبيها :- مضى عليكَ يومان وأنتَ معتكفٌ في غرفتكَ ، وأرى
الهمَّ واضحاً على وجهكَ، فماذا جرى يا أبي؟!
قال الوزير :- حدثَ أمرٌ جَلَلٌ يا ابنتي .. لقد طرح عليَّ الملكُ سؤالاً صعباً ومستحيلاً
وأمهلني ثلاثة أيام لأجيبه عليه ، وإلاَّ عاقبني عقاباً قاسياً
قالت ( قمر الزمان ) :- وما هو السؤال يا أبي ؟
قال الوزير :- سَقَيْتُهُ الماء في طاسة ، ولمَّا أعدتُ الطَّاسةَ إلى مكانها ، قال لي :
لقد تكلَّمتِ الطَّاسةُ ، فماذا قالت ؟
ضحكتْ ( قمر الزمان ) ، وقالت- إنَّه سؤالٌ ذكيٌّ ، وجوابُهُ يجب أن يكون ذكيَّاً أيضاً
صاح الوزير بلهفة :- وهل تعرفينَ الجوابَ يا ابنتي ؟
قالت ( قمر الزمان ) :- طبعاً .. فالطاَّسةُ قالتْ : صبرتُ على النَّار ، وطَرْقِ المطارِقِ
وبعدها وصلتُ إلى المباسِمِ ، وما مِنْ ظالمٍ إلاَّ سَيُبْلَى بِأظْلَم
وعلى الفور ، لبس الوزير ثيابه ، وقصد مجلس الملك ، ثم نقل إليه الجواب كما قالته له ابنته.
أُعجِبَ الملك بالجواب الذي كان أذكى من السؤال ، ولكنَّه شكَّ في أن يكون الوزير هو الذي
اهتدى إليه...
وفي صباح اليوم التالي ، فاجأ الملكُ الوزيرَ قائلاً :- أيُّها الوزير أريدك أن تأتي إلى
مجلسي غداً لا راكِباً ولا ماشياً .. وإن فشلتَ، فإن عقابكَ سيكون قاسياً ، وقاسياً جدَّاً
صعق الوزير للطلب المُعْجِزِ ، وانصرف من مجلس الملكِ مهموماً ، وعندما وصل إلى بيته
استنجدَ بابنته ( قمر الزمان ) ، وحدَّثها عن طلب الملكِ ، وطلبَ منها الحل .
ابتسمت ( قمر الزمان ) ، وقالت لأبيها :- وهذا أيضاً حَلُّهُ هَيِّنٌ يا أبي
وفي صباح اليوم التالي ، أَحْضَرَتْ ( قمرُ الزمان ) لأبيها دابَّةً صغيرةً، فركب عليها ،
وذهب إلى قصر الملكِ ، وهو راكب على الدَّابةِ ، وقدماه على الأرض .
ذهلَ الملكُ لِحُسْنِ تصرُّفِ الوزيرِ ودَهاءِ حَلِّهِ ، فأدناهُ منهُ ، وهمسَ له :- قُلْ لِي مَنْ
يقولُ لكَ ذلكَ .. و لكَ الأمان
قال الوزير :- إنَّها ابنتي ( قمر الزمان ) يا مولاي
قال الملك - أحضِرها لي في الحال
ولما مثلت ( قمر الزمان ) بين يديِّ الملك ، أعجبه جمالها ، ولكنَّ ذلكَ لم يثنهِ عن
اختبارها في سؤالٍ مُعْجِزٍ ، تكون الإجابةُ عليهِ مستحيلة .
قال الملك :- سأتزوَّجكِ الليلةَ يا قمر الزمان ، وأريدكِ أن تحملي منِّي في الفور وأن
تَلِدِي الليلةَ ولداً يكبرُ في ساعات ، ويغدو في الصباحِ ملِكاً يجلس على عرشي
ابتسمت ( قمر الزمان ) ، وقالت :- أمركَ يا مولاي
واقتربت من النافذة المطلَّة على جزء كبير من الحديقة لا زرع فيه ، ثمَّ التفتتْ إلى
الملكِ وقالت :- أريدُكَ يا مولايَ أن تحرثَ هذه الأرض الليلة ، وتزرعها الليلة ،
وتقطف الزرع الليلة ، وآكل من ثمارها في الصَّبح
ذهل الملكُ ، ونهض صائحاً :- هذا غير معقول
قالت ( قمر الزمان ) :- كيف تريدني إذن أن أُنْجِبَ لكَ ولداً الليلة ، ويكبر في
ساعات ، ويغدو في الصباح ملكاً
سُرَّ الملكُ من جواب ( قمر الزمان ) ، ثمَّ عقد قِرانه عليها ، وأصبحت ملكة إلى
جواره ، وعاشا معاً حياةً هانئةً سعيدة.