يقول احد الكتّاب واصفا هذه اللوحة: لا توجد صورة أخرى على الأرض أجمل من هذه الصورة". قد يكون في هذا الكلام بعض المبالغة. لكن المؤكّد أن هذه اللوحة تُعتبر بشهادة العديد من نقّاد الفن إحدى التحف الفنّية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الايطالي. كما أنها تعكس، بطريقة جميلة ومحكمة، التصوّرات والأفكار المثالية التي كانت سائدة في ايطاليا في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. واحد أسباب شهرة اللوحة هو أنها تحكي عن قصّة إنسانية مؤثّرة. المرأة اسمها جيوفانا تورنابوني. وهي سليلة عائلة نبيلة من فلورنسا. كان ترتيب جيوفانا الثامنة بين أشقائها. وقد تلقت تعليما يتناسب مع فتاة في مثل مكانتها الاجتماعية. كان أهمّ حادث في حياة جيوفانا تورنابوني هو زواجها من لورنزو تورنابوني الذي كان هو الآخر وريث عائلة متنفّذة تربطها صلة قرابة بأسرة ميتديتشي المشهورة. كان الزوج أيضا مصرفيا بارزا وراعيا للفنون، بالإضافة إلى تبوّئه منصب سفير فلورنسا لدى البلاط البابوي. كان زواجهما أسطوريا. كان من البذخ والفخامة بحيث ظلّ الناس يتناقلون أخباره طوال المائة سنة التالية. وبعد مرور عام على الزواج، رُزق الزوجان الشابّان بطفلهما الأوّل. وأثناء حمل الزوجة بطفلهما الثاني مرضت ثمّ توفّيت فجأة قبل أن تكمل عامها التاسع عشر.وبعد عام على وفاتها، كلّف زوجها الفنّان دومينيكو غيرلاندايو برسم لوحة لها كي تُعلّق في قصر عائلة تورنابوني تخليدا لذكراها. وقد طلب الزوج من الفنّان رسم صورة استثنائية تُبرز الملامح الجسدية للمرأة وتكشف عن جمالها الداخلي. وعمل الرسّام على اللوحة بتركيز شديد. وحرص على إبراز ثلاثة عناصر رئيسية في شخصية المرأة: جمالها، ودورها كزوجة، بالإضافة إلى ما كانت تتصف به من تديّن وتقوى . وهذه هي الأفكار الثلاث التي تجسّدها اللوحة. بعد أن أتمّ غيرلاندايو رسم اللوحة، سرعان ما أصبحت صورة للمرأة المثالية. كما أصبحت نساء فلورنسا آنذاك يرين فيها النموذج النهائي لجمال المرأة. في ذلك الوقت، كانت السمات الأساسية للجمال الأنثوي المثالي هي الشعر الأشقر والعنق الطويل والعينان الواسعتان والصدر العريض. وكلّ هذه المواصفات مأخوذة من العصور القديمة. كما أنها متوفّرة في صورة جيوفانا تورنابوني.غيرلاندايو اختار أن يرسم المرأة جانبيا كي يوفّر مساحة تسمح بإظهار الأشياء التي ترتبط بشخصيتها. كما اتبع الأسلوب الكلاسيكي الذي يصوّر أعضاء الجسد بطريقة مثالية ويُظهِر ملامح الوجه خالية من أيّ تعبيرات أو انفعالات. في اللوحة تبدو المرأة واقفة بوقار أمام خلفية سوداء بينما تضع يدا فوق الأخرى. القلادة المصنوعة من الجواهر النفيسة والفستان المطرّز بالذهب والحرير يكشفان عن مستوى عال من البذخ. المجوهرات التي ترتديها تشير إلى مناسبة زواجهما. والإطار ذو الشكل المعماري البسيط الذي يقع خلفها هو المكان الذي يضمّ أشياءها ومتعلّقاتها الشخصية. من هذه الأشياء كتاب للصلاة ومسبحة ذات خرز احمر يرمزان إلى تديّنها. وهناك أيضا ورقة مكتوب عليها جزء من قصيدة لشاعر روماني قديم، في إشارة إلى الروح الجميلة للمرأة المتوفّاة. مما يثير الاهتمام أيضا في هذا البورتريه طريقة الرسّام البارعة في تمثيل الأطراف وخصلات الشعر الذهبية. وهناك أيضا نموذج وجه المرأة الذي يخطف الأنفاس بجماله ودقّة ملامحه. لكنه جمال متحفّظ كما تعبّر عنه طريقة الوقوف الرسمية. كانت البورتريهات التي تصوّر نساءً لوحدهن شيئا نادرا حتى منتصف القرن الخامس عشر. كانت المرأة تُرسم غالبا مع شريك رجل. وقد جرت العادة أن يُرسم الحكّام والنبلاء مع زوجاتهن في صورة واحدة. لكن هذا العرف سرعان ما تغيّر. وازدادت شعبية البورتريهات التي تصوّر نساء بدون معيّة الرجال. وبالإمكان القول أن اللوحة تكشف أيضا عن طبيعة الحياة في فلورنسا كمدينة متطوّرة ومزدهرة وعن علاقاتها الاجتماعية والتجارية والعائلية ومعتقداتها الدينية. تصوير الأشخاص جانبيا ظهر أوّل ما ظهر في بدايات عصر النهضة. وهو مستمدّ من التقليد الكلاسيكي في رسم الأشخاص على ميداليات ذهبية أو معدنية. هذا التقليد كان يعكس افتتان الناس بالماضي الكلاسيكي عندما كان القياصرة يصورّون أنفسهم على العملات الرومانية القديمة في وضع جانبي. ثم انسحب هذا الأسلوب على النساء المتزوّجات حديثا على اعتبار انه يُتوقع من المرأة أن تحفظ شرف عائلة الزوج بسلوكها الرزين ومظهرها المحتشم. لكن أسلوب التصوير الجانبي اختفى مع نهاية القرن الخامس عشر باستثناء حالات قليلة. عندما أكمل الفنان رسم هذه اللوحة وُضعت داخل إطار مذهّب ثم نُقلت إلى قصر تورنابوني واختير لها غرفة طُلي سقفها بالذهب قريبا من غرفة الزوج. وما تزال اللوحة بحالة ممتازة على الرغم من مرور أكثر من خمسمائة عام على رسمها.كان دومينيكو غيرلاندايو معروفا جيّدا في عصره. وكثيرا ما كان يدمج الصور التي يرسمها بمشاهد دينية. ولهذا السبب كان يتمتّع بشعبية كبيرة بين أثرياء فلورنسا الذين كانوا يحرصون على الاستعانة به في رسم صور لهم ولأفراد عائلاتهم. كما كان الفنّان بارعا أيضا في أعمال الديكور. وقد أقام محترفه في توسكاني. لكنه كثيرا ما كان يُستدعى إلى روما ليرسم الديكور الداخلي للكنائس والأديرة. وتضمّ لوحاته الدينية رسومات للعذراء ويوحّنا المعمدان. وتتميّز أعماله بمعمارها المعقّد وبكثرة الأشخاص فيها. وكان من عادته أن يولي أهميّة للعناصر الثانوية في لوحاته. وبعض أعماله موجودة اليوم في عدد من متاحف باريس ومدريد