عندما كنت صغيراً، اعتقدتُ لوقت طويل أن أمي هي التي توقظ الشمسَ
قبل أن توقظني صباحاً للذهاب إلى المدرسة. فهذا النورُ الباهر الذي يشرئبّ
من خلف الجبال ليأخذَ مكانه رويدا رويدا بعناية في ملامح الأشياء، لم يكن
ليقهر عتمةَ الليل دون قوةٍ خارقة. حدسٌ ما طفولي، كان يشي إلى بأن أمي
كانتْ هذه القوة!
كنت أفتحُ عينيّ وفي اعتقادي أن أمي هي التي أيقظت القهوةَ وديكة
الجيران، وهدير السيارات في الشارع، وكلّ ما من شأنه أن يصنعَ الصباح
ويومي. فتُلبسني وتُمشّط شعري، تَمنحني كوبَ حليب ساخن أشربهُ، وكسرة
خبز بالشكولاتة أرفضُها فتضعها بمحفظتي، تقبلني ثم أركضُ إلى مدرستي
على متن دعواتها وديعةً في يد الشمس. فأحيي السماء في طريقي، أصافحُ
الزهور وأتبسم للطيور، أشكرُ الرصيف على ترفقهِ بحذائي، ثم أسابقُ ظلي
إلى يوم حافل بالفرح والسعادة.. فامرأةٌ توقظُ الشمس، كانت بكل اختصار
توقظُ الحياة.
أمي برغم كل شيء لا زالتْ تحسبني طفلاً، حتى أنه عندما يسألني أحدهم
عن عمري، أكاد أجيبه: أي عمر تقصد، عمري حسبَ الطبيعة أم حسب أمي؟
وإذا كانتْ كذلك، فهي عشّ المساء أيضا. كانت أمي تحبّ أن تحصي أصابعها
الحانية على خصلاتِ شعري قبل موعد نومي. تغني في الأثناء تراتيل الحمام
تارة، وتارة أخرى تسردُ حكايات لم أعرف يوما نهاياتها، ففي عمق اللحظة،
تدسّ خدر الحبكة في أطرافي لأستسلم للنوم. كانت تقولُ إنّ النوم سيصيرني
أكبر، فكبرتُ حتى أصبحَ الأمر لا يغريني حقا منذ أدركتُ أنه ما عادَ من اللائقِ
اقتحام غرفتها ليلاً إذا استبدت بي العتمة دون طرق الباب، أو مطلقاً حتّى!
ما لم تعرفهُ أمي؛ أني بتّ بعد ذلك أكرهُ النوم لأني صرتُ أخاف أن أكبرَ أكثر،
غير أن العمر فاشيٌّ يركض غير آبه. فقد كبرتُ وصرت فارع القامة وأصبحت
أعيشُ بعيدا عنها، واكتشفتُ أن الشمسَ دونها فائضة عن الحاجة وأن بعدها
والعدم سيان، فالحياةُ لم تكن في الحقيقة تشرقُ إلا من جذوة عينيها. من هناك،
من عينيها، كان ينتشرُ نور الصباح، ومن حضورِ يديها كان يضوعُ الدفء.
في الواقع، لا أتذكر أولّ مرة تعرفتُ فيها على أمي، فمنذ بدأتُ أعي وأدرك
وجودي،وجدتها بجانبي، فكنتُ قلبها وكانتْ نبضه. وهكذا، هي ليستْ إنساناً
عاديا، هي مهدُ الذاكرة وشرنقة القلبِ، كنزةُ الصوف وغيمة المطر، هي حكايةُ
امرأة أشهرَها الله في وجهِ هذا العالم البشع. وباختصارٍ مخلّ، أمي كانت وعدَ الله
بالجنة.
بالمناسبة، أمي برغم كل شيء لا زالتْ تحسبني طفلاً، حتى أنه عندما يسألني
أحدهم عن عمري، أكاد أجيبه: أي عمر تقصد، عمري حسبَ الطبيعة أم حسب
أمي؟ إحداهنّ قالت لي يوما: سأخبر أمكَ بأنك ما عدت طفلا فقد سرقتَ قلبي.
أوصلتُ ذلك لأمي فقالتْ ضاحكة: هكذا هم الأطفال، دوماً يسرقون قطع الحلوى