لا رَيب في أن أعظم التُحف العاجية في العُصور الإسلامية كافة هي تلك التي خلفها صُناع وفناني الأندلُس، والتي ترجع إلى القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري،
ومِما يزيد مِن أهمية تلك التُحف أن مُعظمها مؤرخ وعليها كتابات تُشير إلى إسم الشخصية التي صُنعت له، كما كانت تحتوي أيضاً على توقيع صانعها، مِما يَدل على إعتزاز الصُناع في الأندلس بفَنهم وإعتدادهم بشَخصيتهم، فقد وصلنا مِن الأندلس مَجموعة مِن العُلب والصناديق الصغيرة المَصنوعة مِن العاج، والتي كانت تُستعمل لحفظ الحَلَّي والمُجوهرات، وتُعتبر خير شاهد على ما حققه الصانع الأندلسي مِن تقدم في فن صناعة العاج، وما بلغه مِن رُقي في الذوق الفني بصفةٍ عامة،
وقد حظيت هذه الصناديق في العصور الوسطى بإعجاب أثرياء أوروبا، الذين اتخذوها كذلك لحفظ الحَلَّي والنفائس، كما كانوا يُقدمونها كهدايا في الأعراس، وبعد سقوط مُدن الأندلس تباعاً أنتقلت بعض هذه العُلب إما إلى مَتاحف العالم المُختلفة أو إلى الكنائس والأديرة المسيحية.
كانت هذه العُلب تَتخذ عِدة أشكال، بعضُها مُستطيلة ولها غطاء مُسَطَّح أو هَرمي الشكل، وبعضُها الاّخر أسطُوانية ذات غِطاء مُستوٍ أو مُقبب، كالعُلبة التي نحن بصَددها، المعروفة بعُلبة مُجوهرات المُغيرة، نسبةً إلى المُغيرة بن عَبد الرحمن، أصغر أبناء الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر لدين الله، والتي صُنعت في مَدينة الزهراء شمال غرب قُرطبة سنة 357 هـجرية/ 968 ميلادية،
ويبلغ قُطرها ثمانية سنتيمترات، وارتفاعها حوالي خمسة عشر سنتيمتر، وهي الاّن مِن مُقتنيات قِسم الفنُون الإسلامية بمَتحف اللوفر في مَدينة باريس.
العُلبة تُعد مِن أغنى التُحف الأندلسية فناً وأدقها صناعةً، بدنها مُزين بزخارف نباتية وأشكال آدمية وحيوانية، يُحيط بها أربعة قلائد مُتعددة الفصوص:
القلادة الأولى يتوسطها صورة مزدوجة لأسد يَقتنص ثور، في إشارة إلى النَصر والتمكين،
القلادة المُقابلة لها تحمل صُورة لشخصين يَجمعان البَيض من عُشّش الصقور، وهي صورة ترمُز إلى السيادة، حيث كان يُطلق على الأُمويين بدءً مِن مُؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن بن مُعاوية المعروف بعبد الرحمن الداخل لقب “صُقور قُريش ” كما كانت قُرطبة تُشَبَّه أحياناً بالبَيضة،
القلادة الثالثة تصور صيادَين على الجياد يَقطفان البَلح مِن أشجار النخيل، وهي إحدى الزراعات التي لم تكُن معروفة في شبه الجزيرة الأيبيرية قبل الفتح الإسلامي،
والقلادة الأخيرة يتوسَطها صورة لشابين مُتربعين يتوسطهُما عازف عود، الأول يساراً يحمل حنجوراً والخيزرانة المَجدولة الخاصة بالأُمويين، والآخر يميناً يَحمل مروحة شبيهة بالقُرص،
أما غطاء العُلبة فيُحيط به كتابات بالخط الكوفي المُورَّق، نصها “بركة من الله ونعمة وسرور وغبطة للمُغيرة ببن أمير المُؤمنين رحمه الله مِما عُمل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة” وسَطح الغِطاء لا يختلف في زخرفته ونقوشه عن سائر جوانب العُلبة.
صورة مزدوجة لأسد يقتنص ثور
جمع البيض من عشش الصقورقطف البلح من شجرة النخل
شابين يتوسطهما عازف عود