تمكن يوسف من العلم وبلغ فيه مبلغه، فكان من اليسير السهل أن يفسر لصاحبيه رؤاهما بكل ثقة، بل ولثقته في صدق علمه ودقة تفسيره طلب من أحدهما (الذي سينجو من الحبس)، أن يذكر الملك بقضيته التي ظلم فيها مما يدل على منتهى الثقة فيما علمه الله له، ثم الأخذ بأسباب النجاة الذي لا ينافي التوكل على الله. فكان رد السماء بعض المهلة في السجن حتى يتم ثقل يوسف ويبلغ من الصبر ما بلغ وحين موعد انقضاء الأجل سيحرك الله له من الأسباب ما تعجب منها الأنفس وترتفع لها الرقاب، سيحرك له ملك الملوك سبحانه ملك الأرض ويجعله في أشد الحاجة إليه، ثم سيجعل الأرض كلها في أشد الحاجة لعلمه وحكمته، ليرتفع شأنه بين الأنام ويتولى قيادة خزائن الأرض. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 41-42]. قال السعدي في تفسيره: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا، فإنه يخرج من السجن {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} أي: يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا، وذلك مستلزم لخروجه من السجن، {وَأَمَّا الآخَرُ} وهو: الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه. {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير، بلحم رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل في محل، تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما، أنه لا بد من وقوعه فقال: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره. { وَقَالَ } يوسف عليه السلام: { لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا } وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرًا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: اذكر له شأني وقصتي، لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا فيه، {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}أي: فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه، ومن جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه. {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} والبضع من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره، وهو رؤيا الملك.