على نكهة كبة (السراي) الشهيرة المحشية بـ (اللية واللوز)
وحلاوة (شربت زبيب زبالة) العريق ، كان (الباشا) يسبق دوامه الرسمي بتناول
هذا الفطور المميز في (سراي الحكومة) .
ولم يكن (الباشا) والمقصود نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي هو
الوحيد الذي (اغرم) بهذه الاكلة الشعبية التي يعشقها البغداديون كثيراً ،
فالملك فيصل الاول والوصي على عرش العراق الامير عبد الاله كانا من زبائن
مطعم كبة السراي الذي افتتح في العام 1933 في مدخل سوق السراي ، اشهر سوق
للوراقين في بغداد .
وعلى ذكر شربت زبالة ، فان محل الحاج زبالة افتتح في العام 1914 في مدخل
جسر الشهداء الحالي ، ثم انتقل الى موقعه الحالي في شارع الرشيد امام جامع
الحيدر خانة ، وقيل ان من ابرز زبائنه كان الملك غازي والرئيس عبد السلام
محمد عارف ورئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وكبار ضباط وزارة الدفاع انذاك ،
فيما كانت الملكة عالية والدة الملك فيصل الثاني ترسل سائقها ليشتري لها
الشربت.
وقد اختص هذا المحل بتقديم سندويشات (جبن العرب) اللذيذة مع شربته ذي
المذاق الفريد ، وهو ما جعل معظم رواده يختارون تناول فطورهم هناك او فى
الاقل ارتشاف كأسين من شربت زبالة قبل ذهابهم الى العمل.
وفي موازاة اكلة (الكبة) ، تحتل اكلة (الباجة) مكانة مرموقة في اذواق
البغداديين وخاصة الذين يعملون في مهن تتطلب القوة البدنية كالحدادة
والبناء.
ويعرف الكرخيون ، على سبيل المثال ، مدى قوة تأثير باجة حجي رشيد ابن طوبان
على من يتناولها وخصوصاً في الصباح الباكر ، حيث يخرج العمال مبكرين الى
عملهم ويتجهون الى مطعم ابن طوبان الواقع قرب مقبرة الشيخ معروف لتناول
(ماعون) الباجة الذي يغنيهم من الجوع الى حين عودتهم الى البيت في وقت
متأخر من اليوم، وذلك لان باجة ابن طوبان (دهينه).
واذا اردت التغيير قليلاً وتجنب الملل في نوع الفطور ، فما عليك الا التوجه
الى احد مطاعم (الباقلاء بالدهن) الشعبية ، وستقودك قدماك حتماً الى مطعم
(قدوري ابو الباجلا) في شارع (ابو نؤاس) قرب جسر الجمهورية ، الذي اصر
انتحاري قبل سنوات ان يدفع ثمن فطور 35 شخصاً من رواد المطعم بطريقته
الخاصة وذلك بتفجير حزامه الناسف منهياً حياتهم بطريقة بشعة.
يقول حميد علوان احد رواد المطعم السابقين : اعتدت تناول فطوري صباح كل يوم
في مطعم قدوري قبل ذهابي الى المحل الذي اديره في شارع الخيام ، ما عدا
اليوم الذي حدث فيه الحادث المروع ، فقد كنت خارج بغداد في عمل خاص.
ويستذكر علوان بحزن اجواء المطعم : كان المطعم يعج يومياً بالناس ومن جميع
شرائح المجتمع ليتناولوا (ثريد) الباقلاء المقشرة المغطاة بالبيض المقلي
بالدهن الحر وشرائح الطماطم وبجانبها صحن يتكون من النارنج الذي يعصر فوق
صحن الباقلاء المغطى بـ (البطنج) والبصل والطرشي . وبعد الانتهاء من الطعام
يستقبلك (استكان الشاي السنكين والمهيل على الفحم) ليريح معدتك ويعدل
مزاجك.
اما في جانب الكرخ ، فلا يزال (حمادة ابو الباجلا ومخلمته التي تحسده على
مذاقها امهر ربات البيوت) الى جانب (علو ابو الباجلا) يستقبلان زبائنهما في
مطعميهما المتواضعين قرب ساحة الشهداء ، في صمود قل نظيره يوم كانت
منطقتهما (اشد سخونة) من الدهن الذي يسكب على (ثريد) الباقلاء ، تلك الاكلة
(الحلاوية) الاصل.
وبين ازقة سوق الصفافير يعلو في الطابق الاول من احدى البنايات القديمة
مطعم (ابو حقي) الملتقى الطبيعي لاهل الذوق من (البغادة) التسمية الشائعة
لاهل بغداد الذين يتميزون بذوق رفيع في الطعام.
واذا كنت حديث العهد بمطاعم بغداد العريقة واضعت مكان هذا المطعم ، فلا
تقلق لان رائحة (دهن الحر) و (التمن العنبر) لابد ان ترشدك الى (الحاج ابو
حقي) بملابسه البغدادية المكونة من بدلة الدميري وقد أحاط خصره بـ
(الباشتمال) وعلت رأسه طاقية اشتهر بها ، ومطعمه العتيد الذي يقدم (تبسي
الباذنجان) و(الباميا المطبوخة بلحم الدوش الدهين) و(تشريب الطماطم)
و(القوزي على التمن) وهي الاكلة التي اشتهر بها وغيرها من الاكلات
البغدادية التي تأبى الا ان تبقى محفورة في ذاكرة عشاق بغداد القديمة.
وكان شارع الرشيد يتميز بكثرة المطاعم في تلك الايام الخوالي .. واشهرها
مطعم (عمو الياس) في منطقة المربعة والذي كان يتميز بتقديم وجبات الدجاج
المشوي مع أنواع الطبيخ البغدادي ، وكانت الخدمة في هذا المطعم مشهوداً لها
بالتميز وكان ملتقى الطبقة الراقية في المجتمع البغدادي والسواح الاجانب
وغيرهم .. حتى فقد بريقه اثر سقوط النظام الملكي في العام 1958.
ومن المطاعم المشهورة التي احتضنها هذا الشارع العريق ، مطعم الجمهورية
الذي يقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان قرب سوق الهرج وكان هو
الآخر من المطاعم المشهورة بتقديم الطبيخ العراقي المنوع .
وفي العام 1968 افتتح (ابو يونان) ، وفي ركن صغير من بناية دائرة الكمارك
التي كانت واقعة في شارع الرشيد قبل هدمها لبناء جسر السنك الحالي ، مطعماً
صغيراً قدم فيه وجبات سريعة من الهمبرغر التي صارت عنواناً لأفضل وجبات
الطعام التي بدأت العوائل والشباب وكبار السن وحتى الأطفال يقبلون عليها.
وطارت سمعة مطعم (أبو يونان) الصغير الى الافاق ، لتصبح حديث كل الأوساط
وحتى المسؤولين الذين كانوا يحرصون على تناول همبرغر (أبو يونان) الذي
افتتح محلاً أكبر في منطقة العلوية مضيفاً إلى الهمبرغر الكص (الشاورمة)
الذي عرف أيضاً بـ(كص أبو يونان) وكان يقدم معهما أيضاً اللبن وقناني
الكولا.
وفي شارع السعدون ، اشتهر مطعم (الشمس) الذي كان يقع بجوار سينما السندباد
بتوصيل طلبات الزبائن بواسطة الدراجات الهوائية ، وكان ينافس هذا المطعم ،
مطعم (تاجران) الذي كان يقابله من الجهة الثانية من الشارع..اما مطاعم (ابن
سمينة) فقد تجاوز صيتها حدود بغداد وكانت مشهورة بتقديم (القوزي).
ونعود الى (صوب) الكرخ وتحديداً في مدخل شارع حيفا في مكان وزارة الثقافة
الحالية ، حيث كان مطعم شباب الكرخ الذي لا يقل شهرة عن باقي مطاعم بغداد
القديمة ، الا ان ما كان يميزه بعض الشيء هو احتضانه لاغلب دعوات العشاء
التي ترافق حفلات الزفاف لعرسان الكرخ وغيرهم.
وبنظرة ملؤها الحسرة على ايام الخير ـ كما يصفها ـ يتذكر الحاج عبد اللطيف
شكر من سكنة الكرخ انه مع اصوات الفرق الموسيقية الشعبية كان المدعوون
يتناولون طعامهم الشهي مع (العريس) في هذا المطعم وسط مظاهر البهجة والفرح
التي تعم تلك المنطقة الشعبية ذات التقاليد البغدادية العريقة.
والحديث عن (مطاعم الطبيخ البغدادي) سيكون بلا طعم اذا لم نعرج على (مطاعم
السمك المسكوف) التي كانت منتشرة بالعشرات على شاطيء دجلة في شارع (ابو
نؤاس) الشهير وتزدحم بالعوائل البغدادية واصحاب الذوق في الاكل البغدادي.
ويؤكد (ايوب العبيدي) صاحب اشهر مطعم للمسكوف في (ابو نؤاس) ان الطعم الاصيل لهذا السمك لامثيل له حتى وان استنسخ في اكثر من بلد.
ويوضح هذا الرجل (الكرادي) الذي تخطى عامه الخامس والسبعين ذلك بالقول :
كنا نختار السمك العراقي (الحر) بانواعه الثلاثة الشبوط والكطان والبني
الذي يتم صيده مباشرة من قبل صيادي منطقة الكرادة المشهورين ونضعه في
الاحواض.
ويشرح العبيدي طريقة الشواء قائلا: بعد ان تشق السمكة من الظهر وتخرج
احشاؤها ، ينظف داخلها بالماء ويرش عليه شيء من الملح, وتشق في جلد السمكة
فتحتان أو ثلاثة لمكان تعليق الأوتاد ، ثم توقد النار من خشب الصفصاف على
شكل دائري وتوضع أوتاد من الخشب الرفيع بارتفاع يعادل عرض السمكة على
المحيط الخارجي للنار ويعلق السمك على الأوتار ليشوى على النار وهي بعيدة
عنه أي (بطريقة الإشعاع) ويقوم المسؤول عن الشي بالسيطرة على النار وقوتها
ويقوم بتقريبها أو أبعادها عن حلقة السمك, وبعد نضوج بطن السمك يرفع من
الأوتاد ويوضع ظهر السمكة على قليل من جمر الخشب لشي جلد السمكة الخارجي.
ويضيف : يقدم السمك المشوي مع أنواع السلطة والعنبة الهندية الحارة والطرشي
والبصل الأخضر الطازج وخبز التنور الحار, ويؤكل باليد بدون شوكة وسكين, ثم
يتبع ذلك بـ (استكان شاي مهيل).
ومن بين تلك المطاعم ، تبرز مطاعم اخرى لاتقل شأناً ولها مكان في ذاكرة
البغداديين من بينها (باجة الحاتي) في محلة الشيخ عمر ومطعم (عنجر) في محلة
الفضل ومطعم كوخ دجاج في ساحة الفردوس الحالية ومطعم (قاسم ابو الكص) في
الاعظمية ومطعم كص وكباب الاخلاص في شارع المتنبي ومطاعم الكباب المشوي
الشهيرة عند سوق الاستربادي في الكاظمية بالاضافة الى مطاعم الكاهي والقيمر
في الكسرة والكرخ والحيدرخانة وغيرها كثير.
اما مطاعم الازقة والطرقات فان لها طعمها المميز وزبائنها المعروفين
وابرزها سلسلة المطاعم المنتشرة امام جامع الامام الاعظم التي تقدم وجبات
شهية من الكبة والمشويات والشوربة وغيرها من المأكولات الشعبية اضافة الى
المطاعم المماثلة في محلة باب الشيخ.
ويعتقد اهل بغداد ان الاميركان بغزوهم العراق ، ساهموا في تشويه الصورة
الجميلة لعاصمة الرشيد وقضوا على ما تبقى من ارث الاجداد عندما حولوا بغداد
حاضرة الدنيا الى خراب ما بعده خراب وفوضى عارمة اتت على كل ما هو جميل .
ويبدو ان فقدان الامن ادى الى عزوف معظم الناس عن ارتياد تلك المطاعم او ما
تبقى منها واضطرار بعض من اشهرها الى الهجرة مع روادها الى عواصم دول
الجوار وغيرها وافتتحت فروعاً فيها عسى ان تعود يوماً الى (اعشاشها) لتطل
على بيوت بغداد العريقة التي تغفو امام (روجات) دجلة الخالد