قال الله عز وجل :
( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
الذاريات/ 49 .
ومعنى الآية :
أن الله تعالى خلق من جميع الكائنات زوجين
أي : صنفين متقابلين
كالذكر والأنثى
والليل والنهار
والحر والبرد ..إلخ
وذلك يدل على كمال قدرة الله تعالى
الذي يخلق ما يشاء
فيخلق الشيء ويخلق ما يخالفه في الصفات .
قال الطبري رحمه الله :
" واختلف في معنى
(خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)
فقال بعضهم :
عنى به : ومن كلّ شيء خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة ، والهدى والضلالة ، ونحو ذلك .
قال مجاهد :
الكفر والإيمان
والشقاوة والسعادة
والهدى والضلالة
والليل والنهار
والسماء والأرض
والإنس والجنّ .
وقال آخرون : عنى بالزوجين : الذكر والأنثى .
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد
وهو أن الله تبارك وتعالى
خلق لكلِّ ما خَلَقَ من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه
فكلّ واحد منهما زوج للآخر
ولذلك قيل :
خلقنا زوجين .
وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك
على قُدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء
وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه
إذ كلّ ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه كالنار التي شأنها التسخين
ولا تصلح للتبريد
وكالثلج الذي شأنه التبريد
ولا يصلح للتسخين
فلا يجوز أن يوصف بالكمال
وإنما كمال المدح للقادر على فعل كلّ ما شاء فعله
من الأشياء المختلفة والمتفقة "
انتهى من " تفسير الطبري " (22/439-440) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
" ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) أَيْ :
جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ أَزْوَاجٌ :
سَمَاءٌ وَأَرْضٌ ، وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ
وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ ، وَبَرٌّ وَبَحْرٌ
وَضِيَاءٌ وَظَلَامٌ
وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ
وَمَوْتٌ وَحَيَاةٌ
وَشَقَاءٌ وَسَعَادَةٌ ، وَجَنَّةٌ وَنَارٌ ، حَتَّى الْحَيَوَانَاتُ ، جِنٌّ وَإِنْسٌ ، ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ، وَالنَّبَاتَاتُ ، وَلِهَذَا قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أَيْ : لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ واحدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ " انتهى من " تفسير ابن كثير " (7/ 424) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" قوله تَعَالَى :
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) :
أَيْ صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ :
أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى
وَحُلْوًا وَحَامِضًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وقال مُجَاهِدٌ:
يَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
وَالسَّمَاءَ وَالْأَرْضَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
وَالنُّورَ وَالظَّلَامَ
وَالسَّهْلَ وَالْجَبَلَ
وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ
وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ
وَالْبُكْرَةَ وَالْعَشِيَّ
وَكَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الألوان مِنَ الطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَصْوَاتِ
أَيْ جَعَلْنَا هَذَا كَهَذَا دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا
وَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فَلْيَقْدِرْ عَلَى الْإِعَادَةِ"
انتهى من " تفسير القرطبي " (17/53) .
وقال ابن جزي رحمه الله :
" أي نوعين مختلفين
كالليل والنهار
والسواد والبياض
والصحة والمرض وغير ذلك
" انتهى من " تفسير ابن جزي " (2/310) .
وأما قوله تعالى :
(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)
الرعد/ 3 .
قال ابن كثير :
" أَيْ : مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ "
انتهى من " تفسير ابن كثير " (4/431) .
وقال القرطبي :
" بِمَعْنَى صِنْفَيْنِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الزَّوْجُ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ اثْنَيْنِ.
وَقِيلَ:
مَعْنَى" زَوْجَيْنِ" نَوْعَانِ
كَالْحُلْوِ وَالْحَامِضِ
وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ
وَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ
وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
" انتهى من " تفسير القرطبي " (9/280) .
وقال ابن عطية رحمه الله :
" الزوج في هذه الآية :
الصنف والنوع
ومنه قوله تعالى :
( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ )
يس/ 36
ومثل هذه الآية :
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)
ق/ 7 .
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان
فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين
فغير ضار في معنى الآية
ويقال:
إن في كل ثمرة ذكراً وأنثى
" انتهى من " تفسير ابن عطية " (3/293) .
وقال تعالى :
( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ )
ق/ 7 .
قال ابن كثير :
" أَيْ : مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ "
انتهى من "
تفسير ابن كثير " (7/ 396) .
وقال السعدي رحمه الله :
" أي :
من كل صنف من أصناف النبات
التي تسر ناظرها
وتعجب مبصرها
وتقر عين رامقها
لأكل بني آدم
وأكل بهائمهم ومنافعهم
" انتهى من " تفسير السعدي " (ص/804) .
فالزوج :
الصنف
والزوجان الصنفان المتقابلان
كالحلو والحامض
والعذب والملح
فالتفاح صنف
والبرتقال صنف
ولكل صنف طعم ولون .
ويمكن أن يكون الزوجان من الصنف الواحد
كالبرتقال والتفاح والبلح والعنب
ففيها الذكر والأنثى
والصغير والكبير
والأنواع المختلفة اللون والطعم .
وأما قوله تعالى :
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا)
النبأ/ 8
فهو كقوله عز وجل :
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا )
النحل/ 72
وقوله:
( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ) فاطر/ 11 ، وقوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا )
الشورى/11 .
فالخطاب هنا لبني آدم
والمعنى :
خلقناكم ذكورا وإناثا من جنس واحد
ليسكن كل منهما إلى الآخر
فتكون المودة والرحمة
وتنشأ عنهما الذرية .
" تفسير ابن كثير " (8/302)
" تفسير السعدي " (ص/906) .
والله أعلم .