يقول الله تعالى
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ } (الحديد 20)
وصف من الله تعالى للدنيا الفاتنة الفانية ، التي من أجلها ترتكب المعاصي والآثام ، وتقطع الأرحام ، وتكفر النعم والآلاء وتراق الدماء . تلك حقيقتها في بيان خالقها وهو أعلم بها . وشتان ما بين حياة دنيوية زائفة زائلة ، وحياة الآخرة الخالدة وهي الحياة الحق: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]
والدنيا في ذاتها لا تساوي عند الله شيئا ،ولو جناح بعوضة ، كما في الحديث لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء) ( رواه الترمذي ). وهي التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم من فتنتها فقال : ( فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ ) (متفقٌ عَلَيْهِ). وصدق الصادق الأمين ، فهاهي ذي الدنيا تفتك بأكثر المسلمين فتشغلهم عن الله، هائمين وراء متاعها غافلين .
فليست الدنيا مذمومة باعتبارها أرضا ، فالأرض مهاد الإنسان وسكنه ومستقر حياته العاجلة. ولا هي مذمومة في زمانها وأيامها ، فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . ولا هي مذمومة بكونها مجال الأعمار ؛ فالأعمار نعم من الله عظيمة لا تقدر فرصها بثمن.
إنما هي مذمومة من حيث افتتان الناس بها ، غافلين بعبوديتهم لها عن عبودية الله تعالى وعبادته والعمل الصالح من أجل الآخرة . وإنما سميت دنيا ..لتدني منزلتهـا وحقارة شأنها وهي فانية،بالمقارنة مع الآخرة الباقية : {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } (الرعد 26).
ولقد أبان الإسلام في القرآن والسنة النبوية عن كل شيء من حقيقة الدنيا ، وحذر من الركون إليها والافتتان بمتاعها الزائل، وأكثر من ذمها وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى التعلق بالآخرة : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } النساء 77 .
ويصور رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحابته حقيقتها وحقارتها بمثال واقعي ،حين مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكّ ( صغير الأذنين) مَيِّت ، فعرض عليهم شراءه بدرهم، فقالوا : لا نشتريه لو كان حيا لعيبه، فكيف وهو ميت ، فَقَالَ: ( وَاَللَّه لَلدُّنْيَا أَهْوَن عَلَى اللَّه مِنْ هَذَا عَلَى أَحدكم ).
وبالمقارنة مع الآخرة تزداد الدنيا دونية وهوانا ، إذ الآخرة خير وباقية، وهي الغاية المطلوبة بفرصة الحياة الدنيوية : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى }. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يَجْعَل أَحَدكُمْ أُصْبُعه هَذِهِ فِي الْيَمّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِع ) (رواه مسلم )
إذا كنا نعلم كل هذه الحقائق عن الدنيا الفانية ؛ فلماذا نتهافت عليها هائمين وراءها بإرادة وهمة عالية ، غافلين عن الآخرة الباقية ؟ ولماذا أصبحنا نحبها حبا جما ونكره الموت الذي يدنينا من الآخرة ؟ . سؤال ألقاه سليمان بن عبد الملك على الفقيه الورع أبي حازم : فقال : يا أبا حازم ، مالنا نحب الدنيا ونكره الموت ؟ قال : " لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم ؛ فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب"( 1 ).
وفي حالها يقول الشاعر :
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَـــــا نَضَـارَةُ أَيْكَـــةٍ إِذَا اخْضَـرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَـفَّ جَانِــب
هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إلاَّ فَجائِــعٌ عَليْــها، وَلاَ اللَّذـَّاتُ إلاَّ مَصَائِـــبُ
فَلاَ تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ فِيهَا بدمعة عَلَى ذَاهِـبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ ذاهِـــبُ
وياللعجب من غفلة الإنسان ،كيف ينشغل بالدنيا الدنية ويغفل عن الآخرة الآتية وهو يدنو منها بالليل والنهار . يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل ).
وقد يزعم احدنا أنه يعلم حقيقة الآخرة ويؤمن بها وبما ينتظره فيها من أهوال القبور والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط ، والمصير النهائي إلى الجنة أو إلى النار.ولكن الواقع شاهد بغير ذلك على كثير من الناس ، وهم في الآخرة زاهدون وعلى الدنيا مقبلون، متهافتين متنافسين متصارعين متنافرين أو متحاربين
- منهم من يتراكضون مسرِعين خلف الدنيا مخافة أن تفوتهم، ولكن تراهم عن حضور الصلوات الخمس وهي عمود الدين وزاد الآخرة غافلون متقاعسون ؟! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ }
- ومنهم من يتحمل المشاق والآلام والأكدار من أجل الدنيا ومتاعها ، ولا يطيق الصبر القليل على طاعة الله تعالى وعبادته
- ومنهم من يمضون الساعات الطوال راضين مطمئنين في مجالس اللهو والعبث ، يقتلون ثمين الأوقات من أعمارهم، ولا يعطون لآخرتهم من ذلك إلا قليلا، أو لا يعطون شيئا
- ومنهم من ينفقون الجهد الفكري والجسمي وكثير الأموال من أجل عمران الدنيا الفانية ولا ينفقون شيئا من ذلك لعمارة آخرتهم . وهكذا حال أكثر الناس مع الدنيا متهالكين عليها هالكين من أجلها
- ومنهم من يغضبون إذا انتُقص شيء من دنياهم، ولا يغضبون إذا انتُقص شيءٌ من دينهم أو كرامتهم الإنسانية ؛ لأن دنياهم أغلى وأحب إليهم من كل ما عداها .
يُحكى أن رجلاً حاسب نفسَه، فعد سنوات عمره، فوجدها ستين سنة، وحسب أيامها، فوجدها واحدًا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ صرخة وخرَّ مغشيًّا عليه، فلمَّا أفاق قال : يا ويلتاه ! كيف أقبل على ربي بواحدٍ وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟
إن عرض هذه الحقائق لا تعني الدعوة إلى تعطيل دور الدنيا وتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولبس المرقع من الثياب، والجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، لا ،بل هو من أجل فهم الحياة الدنيا على أنها مرحلة ابتلاء واختبار عابرة ، وأنها مزرعة الآخرة ، لكي تكون في الأيدي وسيلة كسب الحياة الأخروية الأبدية ، ولا تكون في القلوب منتهى الغايات والآمال ، بل تؤخذ بميزان الاعتدال : كما في القول المأثور : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا ".
وأمام حال الناس بين هم الدنيا وهم الآخرة ،نقف مع الحديث الذي رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّه، جَعَلَ الله غناهُ في قَلْبه، وجَمَع له شَمْله ، وَأَتَتْه الدُّنيا وهي راغِمة . ومَن كانتِ الدُّنيا هَمَّه، جعل الله فقره بين عَيْنَيْه، وفَرَّقَ عليه شَمْله ، ولم يأتِه منَ الدُّنيا إلاَّ ما قدر له ) حديث صحيح رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجَهْ .
حديث نبوي بليغ ، يبين الفرق بين حال طلاب الآخرة الذين يعيشون على هم الانشغال بها راجين الفوز فيها بالجنة ، وحال طلاب الدنيا الذين يصرفون كل همهم لها ، غافلين عن الآخرة ومصيرهم فيها . فإذا كان الهم معلقًا بالآخرة ومعها، فهو محمود ومبرور، وصاحبه مأجور، وإن كان مُتَعَلِّقًا بالدُّنيا وغرورها، كان مذمومًا. وينتهي بصاحبه إلى الخسران
ـ فصاحب هم الآخرة جعل الله له ثلاث منح ينعم بها في دنياه قبل نعيم الآخرة :
فالمنحة الأولى :
يجعلَ الله غناهُ في قلبه، وهذا هو الغِنَى الحقيقي الذي يقول عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النَّفس ) (رواه مسلم) ، فيعيش على القناعة والرضا بما قسم الله له، مبرءا من الطمع والشره ودوافع الحرام كما في الحديث وارْضَ بما قسم الله لك، تَكُن أغنى الناس)رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني؛ فهو يستعف بغناه القلبي عما عند الناس؛ فيعيش بينهم أبيا عزيزا محبوبا (وازْهَد فيما عند الناس، يحبك الناس) رواه ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني.
لمنحة الثانية :
يحييه الله تعالى الحياة الطيبة ، مجموع الشمل ، لا يشكو اضطرابا ولا قلقا ولا ضنكا ، وذلك في كل شيء من أمره : في قلبه، وفكره، وأهله، وولده، وماله، وتجارته، ويجمع الله عليه القلوب، ويكتب له القَبول، فيجتمع له كل ما يحيط به مِن أمور الخير جميعًا.
لمنحة الثالثة :
ينعم بالتوفيق والتيسير من الله تعالى في أموره كلها ؛لآن الله معه بعنايته ، حيث تأتيه الدنيا وهي راغمة ، ينال رِزْقه فيها مِن حيث لا يحتسب هنيئا مريئا، ويجعل له ربُّه في كل أموره يسرًا : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }
صاحب الهم الأخروي يكافئه ربُّه بنظير قصده، وهل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان ، فلمَّا جَرَّد همه للآخرة، كَفَاهُ الله همَّ دنياه ،فهان عليه متاعها الزائف ، لا يفرح بما أوتي فرح اغترار ، ولا يحزن على ما ضاع حزن تحسر وندم ، لأنه يروم مستقره وبقاءه هناك، في الدار الآخرة ، لذلك يحيا دنياه وقد قويَ يقينُه، وطَارَتْ غفلته، ودامتْ خشيته، ،وسعى للآخرة سعيها، وهو مؤمن ، وقد نشطت همته في الطاعات والقربات وفعل الخيرات .{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }[الإسراء: 19]، . ولو امتلأت القلوب بهم الآخرة ، لتحرر الناس من كل أسباب الفتن والصراعات والمكائد والشرور التي تمليها شهوة الدنيا وطلاب متاعها الفتان
وليس يعني هم الآخرة أن يعتزل الإنسان الحياة وينزوي سلبيا دون جدوى ، ولكن المراد أن يعمل بمقتضى سنن الحياة؛ فيكون مسلما ايجابيا عاملا فاعلا للخير صالحا مصلحا ، يخالط الناس ويسدي الخير إليهم بأقواله وأفعاله وأخلاقه، مبتدرا فرص العمر استجابة لأمر الله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }
ـ وأمَّا صاحبُ همِّ الدنيا، فهو ذاك المَغْرُور، الذي ملكتْ عليه العاجِلة شغاف قلبه، واستلبته، فلا يرضى ويسخط إلا لأجلها ، ولا يوالي ويعادي إلا فيها ، هي أقصى مطلبه ومنتهى أمله ، لها يحيا ومن أجلها يشقى ، ويلهيه التكاثر والتفاخر عن الله وذكره وشكره وعبادته وعن فعل الصالحات ، حتى يفاجئه الأجل راكضا لاهثا خلف سراب متاعها ، وحينها يقول نادما حيث لا يجدي الندم :{ ياليتني قدمت لحياتي }، { رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }، لذلك يعاقب في العاجلة قبل الآخرة بثلاث محن هي من جنس العمل :
المحنة الأولى :
يجعل الله فقره ببن عينيه ، مهما ملك من متاع الدنيا ، يعيش أسير الطمع والشره وشقوتهما ، لا يعرف استقرار نفس ولا طمأنينة قلب ولا راحة بال ، بل يجرع التعاسة الدائمة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)رواه البخاري. حاله مع دنياه كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا .
والعقوبة الثانية:
يُفرق اللهُ عليه شمله، فتراه رغم المال أو المنصب أو الجاه ، مشتتَ البال، هائم الفكر، مضطرب النفس، كثير القَلَق، لا بركة في مالِه وَلا ولَدِه، فاقد التقدير الحق والمحبة بين الناس ، عديم القبول . وتلك المعيشة الضنك التي توعد الله بها المعرضين عن طاعته وعبادته :{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طـه:123) ،وذلك لأن عبوديته للدنيا أعمت بصيرته وبصره ، فعاش مبغوضا عند الله تعالى كما في الحديث إنَّ اللهَ يُبْغِض كل جَعْظَرِي جَوَّاظٍ، عالِم بأمر الدنيا، جاهِل بأمر الآخرة) (والجَعْظَرِي: الفَظُّ المُتَكَبِّر. والجَوَّاظ: يجَمَع المال، ويمَنَع حق الله فيه) .
والأمر الثالث:
أنه لا يأتيه من الدنيا إلا ما قدر له ، مهما أتعب نفسه وأشقاها في طلاب المتاع ، وتجرع من أجل ذلك السهر والقلق والوساوس والمخاوف والمتاعب ؛ لأن الأرزاق مقسومة معلومة ، وإنما يأتيها كل بحسب سعيه الطيب أو كسبه الخبيث ، وفي الحديث : ( أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطَّلَب)(حسنه الألباني).
وهذه حال حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ،وكان يستعيذ منها فيقول اللهُمَّ لا تَجْعلِ الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ).
نْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؛ فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ ) حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه،
حديث نبوي يرسم معالم الطريق القويم ، لمن يرجو محبة الله تعالى ومقام الرضا والقبول بين الناس . فطريق نيل محبة الله تعالى أن تتحرر من حب الدنيا وتزهد في التنافس عليها والتفاخر بمتاعها . فلا يعنيك من ذلك إلا ما فيه رضا الله عز وجل مما يخدم آخرتك . ولنيل محبة الناس ، أن تزهد فيما عند الناس تعففا وترفعا عن الطمع والشره والحسد .
استجمع همك وهمتك لآخرتك ،واحذر الغفلة فهي قاتلة ، واسْتَشْعِر هذا الهم في صبحكَ ومسائكَ، إذا أظْلَمَ عليكَ ليلكَ، فتَذَكَّر ظُلمة القبور، وإذا الْتَحَفْتَ فراشكَ فتفكر التحافكَ الأكفان، وإذا استيقظتَ من رقادكَ، فاستشعر قيام العالمين لرب العالمين. ولا تشغلنك الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية . قال بعض العقلاء : يا أيها الناس اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل.
فاعلموا أيها الإخوة الكرام أن الدنيا مهما اتسع ملكها وسلطانها ، لا تساوي عند المحن والابتلاءات شيئا ، وتلك لحظات انكشاف هوانها :فقد أراد ملك أن يعرف قدر الدنيا فسأل عنها أحد الحكماء ، فقال له :لو كنت أيها الملك مسافرا وتاهت بك الطريق إلى صحراء قاحلة وأوشكت فيها على الهلاك عطشا ، وعرض عليك أحد جرعة ماء مقابل نصف ملكك فهل ستعطيه ؟ قال نعم . قال: فإذا شربتها ثم انحبست وتعسر عليك خروجها ولا نجاة من الموت إلا أن تدفع نصف ملكك الباقي ، فهل ستفعل؟ قال نعم. قال : ألا ترى أيها الملك إن ملكك كله يساوى جرعة ماء واحده ، وتلك حقيقة الدنيا .