معنى القناعة
*****
ربما يبدو لبعض الناس أنّ القناعة تعني القبول بالأمر الواقع
فإذا أراد الإنسان ـ وفق هذه النظرة ـ أن يكون قنوعاً
فعليه أن لا يفكّر في تطوير أوضاعه إلى الأفضل
أو تطوير إمكاناته إلى الأقوى
أو تطوير حياته إلى الأرحب
بحيث يظلّ يعيش في نطاق واقعه مستسلماً
لكلّ ما يفرضه عليه الواقع من فقر وذلّ وجهل وما إلى ذلك.
وربما يفكّر النّاس أنّ القناعة ضدّ الطموح
وأنّ على الإنسان أن لا يكون طموحاً
وأن لا يفكّر في تطوير واقعه وتغييره
وبعض النّاس يؤكّد على الإنسان أن يكون قنوعاً
فليس من الضروريّ أن يأخذ بأسباب العلم إلى الذّروة
أو يكون قنوعاً في الواقع السياسي
فيقبل الاستسلام لحكم الظّالمين والمستكبرين.
وكذا الحال في الواقع الاجتماعيّ
عندما يواجه قضايا التخلّف في الواقع
فإنّ عليه ـ حسب هذه النظرة ـ أن يقبل بذلك
وأنّ على المجتمع أن يقنع بما تركه الآباء والأجداد
من عادات وتقاليد أصبحت مقدّسة
ولو كانت من باب تقديس الخطأ والجهل والتخلّف.
ولكنّ هذا المفهوم خاطئ
فالله أراد للإنسان أن يكون طموحاً
وأن يظلّ في حركة تصاعديّة
بحيث إذا كان في درجة ما
فعليه أن يعمل لينطلق إلى درجة أعلى
ولذلك فقد جاء في الدّعاء
(اللهم اجعل مستقبل أمرى خيرا من ماضبة)
ليؤكِّد عنصر التّكامل في واقع الإنسان الإيجابيّ كلّه.
وفي الأذان نقول:
(حى على خير العمل)
وخير العمل هو أفضله
وإذا كان مفسّراً بالصّلاة
فإنّ الصّلاة نموذج لخير العمل
ولكنَّ الفكرة هي أن ينطلق الإنسان ليبحث عن العمل الأفضل والأحسن.
لذلك لا بدَّ للإنسان من أن يكون طموحاً
فإذا استطاع أن يوسّع في رزقه
فإن الله سبحانه وتعالى يشجّعه على ذلك
وقد اعتبر العمل في سبيل تحصيل الرزق من الحلال
والتوسعة على العيال
والتعطّف على الجار
والقيام بالمسؤوليّات الاجتماعيّة الإسلاميّة
عبادة، ففي الحديث الشّريف:
(الحياة سبعون جزءا
أفضلها طلب الحلال)
وقد جاء أحدهم إلى إمام من أئمّة أهل البيت
وأحسبه الإمام الصّادق
قال له:
إني هممت أن أدع السوق
قال:
(اذا يقل عقلك ولا ينتفع بك)
إنّك بذلك تفقد غنى في التّجربة
لأنّ التجارة ليست مجرّد عمل تحصل منه على رزق
ولكنّها تجربة تحصل من خلالها على خبرة وعقل اجتماعيّ واقتصاديّ
من خلال حركتك مع النّاس في تعقيدات التجارة كلّها.
فإذا قبلت بما عندك
فسوف لن ينتفع النّاس منك بشيء
ولكنّك إذا ثبتّ في التّجارة وكسبت رزقك
فإنّك سوف تنفع النّاس
سواء في الحاجات التجاريّة أو فيما تعين به النّاس في هذا المجال أو ذاك
وقد ورد في بعض أحاديث أهل البيت
أنّ الإمام الصّادق سئل عن شخص
قال:
أين هو
قالوا:
هو في البيت يعبد ربّه
قال:
( من يقوتة؟)
قالوا:
فلان
قال:
(انة أشد عبادة منة)
لأنّ الله لا يريد لنا أن نجلس في المسجد طوال اللّيل والنّهار
(فاذا قضيت الصلاة فانشروا فى الأرضوابتغوا من فضل الله
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)
(فامشوافى مناكبها وكلوا من رزقة والية النشور)
فالإسلام لا يريد للإنسان أن يتقاعد في أيّ سنّ
بل أن يظلّ يعمل
وإن كان لكلّ مرحلة من العمر عملها
لكن أن يبقى ينتظر الموت ولا يعمل ولا يكتسب رزقاً
فإنّه بذلك يعطّل طاقاته
بعكس صاحب المصنع الضّخم الّذي قيل له:
لقد أصبح لديك مال كثير يكفيك ويكفي أجيالاً من بعدك
فلماذا لا تتقاعد؟
فقال:
إذا تقاعدت فماذا أعمل؟
أمّا بالنّسبة إلى العلم
فإنَّ الله أراد للإنسان أن يستزيد منه
كما علّم رسوله(ص):
(وقل ربى زدنى علما)
فكلّما بلغت مرحلة من العلم
فعليك أن تستزيد منه
وأن تبقى في طلبه، كما ورد في الحديث الشّريف، من المهد إلى اللحد .
وهكذا الحال في كلّ جهد يقوم به الإنسان
وكلّ طاقة يفجّرها مما يحتاجها النّاس ويرتفع بها مستوى الحياة
فهي مسؤوليَّة الإنسان
وربما يصل الأمر إلى حدّ الوجوب
عندما تكون الحاجة فى مستوى القضايا الكبرى والحاجات الملحّة للمجتمع
فالإسلام لا يقول لك كن قنوعاً ولا تكن طموحاً
بل كن طموحاً في كلّ شيء
ولكن ليكن طموحك في خطّ طاقاتك وإمكاناتك
فعليك أن تطوّر أوضاعك وطاقاتك وطموحاتك في حجم إمكاناتك
وحاول أن تجعلها تتحرّك بطريقة وبأخرى
لتوسّع حياتك وحياة الآخرين أيضاً.