المواجهة الرحيمة : قالت عائشة : فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس عندى -ولم يجلس عندى منذ قيل فىَّ ما قيل - وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى شئ.قالت : فتَشَّهَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال :أما بعد يا عائشة -فإنه قد بلغنى عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل ..وإن كنت هممت أو لممت بذنب فاستغفرى الله عز وجل وتوبى إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحس منه قطرة .فقلت لأبى : أجب عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟فقلت لأمى : أجيبى عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟قالت عائشة : وانا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن .. قلت :بلى إنى والله قد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إنى بريئة -والله عز وجل يعلم أنى بريئة- لاتصدقونىوإن اعترفت لكم بأمرٍ والله يعلم أنى منه بريئة تصدقونى وإنى والله لا أجد لكم ولى مثلا إلا كما قال أبو يوسف :" فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "
قالت : ثم تحولت فاضجعت على فراشى.ــــــــــــــ
وسام البراءة :أرأيت وقد ضاقت السبل على عائشة ..رسول الله يكتفى بالقول :ما علمت على أهلى إلا خيرا ..ولكنه لا يستطيع أن يصدر القرارالحاسم الجازم إلا بوحى من الله تعالى .. فإن قلبه الرحيم يتسع للصفح وطلب المغفرة من الله تعالى إن كانت همت بذنب أو ألمت به الأب ليس لديه ما يجيب به على نداء ابنته ..الأم كذلك ليس لديها ما تجيب به ..لقد أُسْتُنفِذت جميع الطرق ولم يبق أمام الصديقة بنت الصديق إلا طريق واحد .. هو " أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "لقد استمسكت فى محنتها القاسية بالصبر الجميل ولجأت إلى الله وحده المستعان ..واستجاب الله تعالى لنداءها بأكثر مما كانت تتوقع ! قالت : " وأنا والله حينئذ أعلم أنى بريئة ..وأن الله عز وجل مبرئى ببراءتى ..ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحى يتلى ..ولَشأْنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله عز وجل فىَّ بأمر يتلى ..ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم رؤيا يبرئنى الله عز وجل بها قالت : فوالله مارام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسهولا خرج من أهل البيت أحد ..حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاءِ عند الوحى ، حتى إنه كان ليتحدر منه مثل الجُمانِ من العرق فى اليوم الشاتى من ثقل القول الذى أُنزل عليه ، فسُجِىَ بثوبه ووُضِعت له وسادة من آدم تحت رأسه ..( جلد تحت رأسه)فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ..فوالله ما فزعت ولا باليت .. قد عرفت أنى بريئة ، وأن الله عز وجل غير ظالمى وأما أبواى فوالذى نفسى عائشة بيده ، ما سُرِىَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس ..والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم مادخل على آل أبى بكر فى تلك الأيام ثم سُرِىَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول وهو يضحك :" أبشرى يا عائشة .. أما إن الله تعالى قد برأك "
فقالت لى أمى : قومى إليه ..فقلت : والله لا أقوم إليه .. ولا أحمد إلا الله تعالى .. وهو الذى أنزل براءتىقال تعالى : " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم
لاتحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم
لكل أمرئ منهم ما اكتسب من الأثم
والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم "
قال أبو بكر رضى الله عنه وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذى قال لعائشة فأنزل الله تعالى :" ولا يأْتَلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى .. إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " فقال أبو بكر : بلى والله إنى لأحب أن يغفر الله لى فَرَجَعَ إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبداً .وهذا جانب من جوانب الخير الذى أشارت إليه الآية ..وكأن الله تعالى كرم عائشة بوسام البراءة .. هذا الوسام القرآنى الذى يُتْعَبدُ به إلى يوم القيامة ..كما كرم أبا بكر باثبات براءة ابنته وبما ذكره من صفات العفو عن المسئ فى أعز شئ لدى الإنسان وهو عرضه ..كما كشفت هذه الآيات عن سمو خلق عائشة رضى الله عنها وأنها قابلت بالتقدير وعرفان الجميل كل من وقف إلى جانبها وقال فى حقها كلمة طيبة .قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبى صلى الله عليه وسلم عن أمرى فقال :" يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ "
فقالت : يارسول الله أحمى سمعى وبصرى "والله ماعلمت إلا خيرا "قالت عائشة : وهى التى كانت تسامينى من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع . وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك. ــــــــــــــ
تفاخرت عائشة وزينب رضى الله عنهما ..فقالت زينب : أنا التى نزل تزويجى من السماء وقالت عائشة : أنا الذى نزل عذرى فى كتاب الله حين حملنى صفوان بن المعطل على الراحلة فقالت لها زينب : يا عائشة : ماذا قلت حين ركبتيها ؟قالت عائشة : قلت حسبى الله ونعم الوكيل قالت زينب : لقد قلت كلمة المؤمنين ورغم أن حسان بن ثابت الشاعر شارك فى إذاعة حديث الإفك إلا أن عائشة كانت ترجو له العفو عند الله تعالى اكتفاء بما أصابه فى الدنيا لأنه كان ينافح بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عائشة أنها قالت :ماسمعت بشعر أحسن من شعر حسان ولاتمثلتُ به إلا رجوت له الجنة .. قوله لأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه وعند الله فى ذاك الجزاءُ فإن أبى ووالده وعرضـى لعرض محمد منكم وقـاءُ أتشتمه ولست له بكـفء فشركما لخيركما الفـداءُ لسانى صارم لاعيب فيه وبحرى لاتكـدره الدلاءُ أنها مُحِبةَ للرسول .. ومُحِبةَ لمن يدافع عنه .. وذواقة للشعر الجميل قيل لها : يا أم المؤمنين أليس هذا لغوا ؟قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساءقيل : أليس الله يقول :" لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم "
قالت : أليس قد ذهب بصره وضرب بالسيف ؟تعنى الضربة التى ضربه إياها صفوان ابن المعطل السلمى حين بلغه عنه أنه يتكلم فى ذلك فعلاه بالسيف وكاد يقتله ومن الدروس المستفادة فى حديث الإفك ما جاء به من تأديب المؤمنين بحسن الظن بأنفسهم كما قال تعالى :" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين "
أى الكلام الذى رميت به أم المؤمنين رضى الله عنها وقاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولىَ والأحرى كما فعل أبو أيوب خالد بن زيد النصارى قالت له امرأتهأم أيوب : يا أبا ايوب ..أما تسمع مايقول الناس فى عائشة رضى الله عنها ؟قال أبو ايوب : بلى . وذلك الكذب ..أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟قالت : لا والله قال : فعائشة والله خير منك وبهذا الميزان الصادق استطاع أبو أيوب أن يكتشف براءة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها " ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والآخرة
لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم
إذ تلقون بالسنتكم وتقولون بأفواهكم
ما ليس لكم به علم
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم "
يقرر الله أنه يقبل التوبة ممن عنده إيمان كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش .. أما من خاض فى هذا الحديث الكاذب من المنافقين كعبد الله بن أُبىُ ابن سلول وأضرابه فليس أولئك مرادين فى هذه الآية لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا أو ما يعارضه ويحذر الله تعالى من الاستهانة بالخوض فى مثل هذه الأحاديث فقد جاء فى الصحيحين :" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله
لا يدرى ما تبلغ يهوى بها فى النار
أبعد مما بين السماء والأرض "
وفى رواية .. " لا يلقى لها بالاً "وتنفيذاً لحكم القرآن أُمِرَ بمسطح بن اثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش فضرب كل منهم ثمانين جلدة .. وعادت عائشة ظافرة عزيزة مكرمة إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .