{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{26} تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ{27} الآية آل عمران26
{ قُلِ اللَّهُمَّ } خطاب من الله عز وجل يأمر فيه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الدعاء ، ما هو هذا الدعاء ؟
{ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } يعني يا مالك الملك .
و { اللَّهُمَّ } أصلها ( يا الله ) فحُذفت حرف النداء من أول هذه الكلمة وعوض عنها حرف ( الميم ) في آخرها فكانت ( ميما مشددة ) يعني عبارة عن ميمين ، وهذه الميم تدل على الجمع ، ولذلك شُددت ، ولذا إذا نطق الإنسان بها ضم شفتيه ، فمع دلالتها على الجمع فإنها تدل على الضم ، وهذا يفيدنا بأن هذا الدعاء { اللَّهُمَّ } جمع أسماء الله عز وجل كلها وصفاته كلها ، فمن قال ( يا الله ) فكأنه دعا بكل اسم من أسمائه عز وجل التي أعلمها خلقه والتي استأثر بعلمها ، فهذا الاسم العظيم ( اللهم ) يدل على جميع أسماء الله عز وجل وصفاته ، وقلنا إن الميم إذا نُطق بها ضُمَّت الشفتان فهذا يؤكد أن على الداعي إذا دعا الله عز وجل أن يجمع قلبه على ما يدعو به كما اجتمعت شفتاه على هذا الدعاء ( اللهم )
والدعاء – عباد الله – عبادة ، كما بيَّن ذلك عليه الصلاة والسلام قال ( الدعاء هو العبادة )
والدعاء له ثلاث مراتب كما قال ابن القيم رحمه الله :
المرتبة الأولى :
أن يدعو الله عز وجل بأسمائه وصفاته ، كما قال تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ }الأعراف180 ، كأن تقول ( يا الله – يا غفور – يا ودود – يا شكور )
المرتبة الثانية :
ألا تذكر اسما ، وإنما تذكر حالك وافتقارك وذُلَك ، فتقول ( أنا المذنب – أنا الفقير – أنا البائس )
المرتبة الثالثة :
أن تذكر حاجتك ، كأن تقول ( أسألك هدايتك )
قال ابن القيم رحمه الله " وأكملها أن تجتمع الثلاث مراتب " أن تدعو الله عز وجل بأسمائه وصفاته ، وأن تكون أنت أيها السائل مبينا ذُلَك وافتقارك إلى الله عز وجل وأن تذكر حاجتك "
إذاً يكمل دعاؤنا إذا ذكر الداعي في دعائه " السائل الذي هو الداعي والمسؤول الذي هو الله عز وجل وأن تُذكر الحاجة "
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المراتب الثلاث في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما في الصحيحين ( لما قال يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي ، فقال عليه الصلاة والسلام قل " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ) هذه تدل على السائل ( وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) هذه تدل على المسؤول وهو الله عز وجل ، لأن المغفرة بيده جل وعلا ( فاغفر لي مغفرة من عندك ) هذه الحاجة التي يحتاجها العبد ، ثم ختم الدعاء باسمين مناسبين وهما ( إنك أنت الغفور الرحيم )
{ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } يعني يا مالك الملك ، إذاً المُلك لله عز وجل ، ومع أنه مالك للملك فإنه يتصرف في هذا الملك ، ولذا أتت الجمل التي بعدها مبينة لهذا ، بعض الناس يملك الشيء ولا يتصرف فيه ، وبعض الناس يتصرف في الشيء وهو لا يملكه ، لكن الله عز وجل هو مالك للملك ويتصرف فيه ، ومِن تصرفه عز وجل في الملك أنه قال بعد ذلك :
{ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء }
وانظروا إلى اختلاف الكلمتين { تُؤْتِي } تختلف عن { تَنزِعُ }
فقوله { تُؤْتِي } دل على أن خير الله عز وجل ما أسرع إتيانه للعبد ، ولذلك يقول بعض الناس إذا رأى نعمة على شخص أتت فجأة ، قال " من أين له هذا " ولذا يقول بعض الشعراء :
ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
وكما ذكرت لكم في كلمة سابقة هناك عبد الرحمن الناصر لدين الله في الأندلس ، تولي الخلافة وهو صغير مع وجود أعمامه ، وما كان في تصور أحد أن يتولى الخلافة إلا أعمامه .
{ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء } كما ينزع الجلد من البهيمة ، لأن بعض الناس إذا ملك شيئا فإن ذهاب هذا الشيء منه عسير ، يتشبث به تشبثا عظيما ، ولذلك يقول القدماء من العرب " الملك عقيم " يمكن للملك الذي يملك وطنا ، يمكن أن يضحي بأبيه وأن يضحي بابنه من أجل هذا الملك ، ولذلك كان الأسلوب مناسبا { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء }
ثم قال عز وجل :
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء }
هذا الدعاء أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله ، وهذا ظهر ، ألم يُظهر الله عز وجل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه على صناديد قريش ، وقد خرج الصحابة رضي الله عنهم وليس بأيديهم مال ولا متاع ؟ ألم يظهر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود الذين كانوا مسيطرين على المدينة وضواحيها ؟ ألم يظهر الله عز وجل الصحابة فقهروا فارس والروم ؟ وهذه سنة الله عز وجل لا تتغير ولا تتبدل ، لكن كيف تكون لنا العزة ؟ كيف يكون لنا النصر ؟ بطاعة الله عز وجل ، بموالاة الله ، ولذلك في دعاء القنوت ( إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت ) يعني من والاه الله عز وجل فإنه لا يكون ذليلا ، ومن كان عدوا لله عز وجل فإنه لا عزة له ولا نصرة ، ولذا من أراد أن يكون عزيزا في دنياه وعزيزا في أخراه فعليه بتقوى الله عز وجل فإنها الطريق الموصل ، ولذلك نرى أن الخلافات الإسلامية السابقة لما بدأت في أوائلها كانت قوية ، قوية بماذا ؟ بطاعة الله عز وجل ، لكان لما أتى أواخرها من خلفائها فعصوا أمر الله عز وجل تهاوت وسقطت ، الخلافة الأموية ، الخلافية العباسية ، الخلافية العثمانية ، وهكذا ، فهذه سنة الله عز وجل ، ولا يبقى إلا من والى الله عز وجل {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }المائدة55 ، فمن أراد العزة ففي طاعة الله عز وجل . ثم قال عز وجل :
{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } فيه إثبات صفة اليدين لله عز وجل ، فلله عز وجل يدان ، كما قال عز وجل في حق إبليس { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }ص75 ، وهذه تليق بجلاله وعظمته ، لا تشبه أيدي المخلوقين { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }مريم65 {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }الإخلاص4 ، فنحن نثبت أن الله عز وجل يدين كما يليق بجلاله وعظمته ، هي بالنسبة لنا أبعاض وجوارح ، لكن بالنسبة إلى الله عز وجل نقول هذه صفات أخبر بها الشرع فنثبتها دون أن نكيفها ودون أن نشبهها أو نمثلها بأيدي المخلوقين .
{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } وهو الذي خلق الشر ، لكن الشر لا يُنسب إليه جل وعلا ، ولذا في دعاء الاستفتاح عند مسلم ( والشر ليس إليك ) فلا ينسب الشر إلى الله عز وجل ، ولتعلموا أنه ما يقع من شيء في الأرض ولا في هذا الكون كله إلا بأمر الله عز وجل ، فهو الذي خلق المرض ، وهو الذي خلق الفيضانات والزلازل ، وما شابه ذلك مما لا يلائم البشر ، لكن هذا الفعل منه عز وجل خير ، إنما الشر في مفعولاته ، فالشر في مخلوقاته ، ولذا لا يمكن ان يخلق الله عز وجل شرا محضا ، المرض شر بالنسبة إلى هذا المخلوق الذي نزل به هذا المرض ، لكنه خير باعتبارات أخرى ، فإذا رأى الطغاة مثلا أن هذا الرجل الطاغية العاتي نزل به المرض ولم يستطع أن يدفع عن نفسه المرض ، ربما اتعظوا ، أليس في هذا خير ؟ بلى ، يمكن أن يكون هذا الطاغية المتكبر الذي سلَّط الله عز وجل عليه المرض يتراجع عن طغيانه ، وإذا تراجع عن طغيانه وعاد إلى الله أليس هذا خيرا ؟ بلى ، فالله عز وجل لا يخلق شرا محضا أبدا ، فخلقه وفعله خير ، إنما الشر في مفعولاته ، ولا ينسب الشر إليه تأدبا مع الله ، ولذلك قال عز وجل عن أيوب { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }ص41 ، ولم ينسبه إلى الله عز وجل تأدبا ، وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }الشعراء80 ، ولم يقل ( أمرضني ) نسب المرض إليه ، فالشر لا ينسب إلى الله عز وجل تأدبا ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة .
إذاً ما مضى من نزع الملك من بعض الناس خير ، إذلال بعض الناس ممن يشاء الله عز وجل إذلاله خير ، ولذلك قال :
{ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يعني ليس قادرا على ما مضى فقط – لا - وإنما هو قادر على ما هو أعظم من هذا مما يتصوره العقل ومما لا يتصوره ، لأن كلمة { كُلِّ } هي أعظم صيغ العموم ، يعني كل شيء كبر أو صغر .
ثم قال عز وجل :
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ }
الولوج هو الدخول ، يعني يدخل الليل على النهار ويدخل النهار على الليل تعاقبا ، أو أن أحدهما يدخل على الآخر فينقص من ساعاته فيطول الليل أحيانا ويقصر أحيانا ، وكذلك الشأن في النهار .
و الليل والنهار – أيها الأحبة في الله – لهما فائدة وعبرة ، فإن ذكر الليل والنهار يدلان على أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، وإنما هي في حالة دوران وذهاب وزوال ، كما قال تعالى مبيِّنا الحكمة من ذلك {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } لماذا ؟ { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }الفرقان62 { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } آل عمران191.
ثم قال عز وجل :
{ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ }
مثل النخلة أصلها نواة وهي ميتة ، والنخلة تخرج الثمرة وهذه الثمرة فيها النواة وهي ميتة ، الحبة يُخرج الله عز وجل منها الحي وهي السنبلة ، والسنبلة تُخرج هذه الحبة وهي ميتة ، الدجاجة تخرج البيضة وهي ميتة ، والبيضة وهي ميتة تُخرج الدجاجة التي هي حية ، وكذلك يُخرج الله عز وجل المؤمنين من أصلاب الكفار ، ويخرج من أصلاب المؤمنين الأموات وهم الكفار .
{ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ }
بغير مقدار ، فالله عز وجل إذا رزق عبده رزقه من غير تقتير ومن غير تقدير ، ومثل هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات توضح لنا أن من هو قادر على إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل ، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، ورزق من يشاء بغير حساب هو قادر على أن ينزع الملك من أي شخص، مهما كانت قوة هذا الشخص ، وقادر على أن يعطي الملك من يشاء مهما كان ضعف ذلك الشخص ، وهو عز وجل قادر على أن يعز من يشاء ولو كان ذليلا عند الناس ، وقادر على أن يُذل من يشاء ولو كان عزيزا في نظر الناس ، والواقع يشهد بهذا ممن سقط نظامه وسقط حكمه ، والقنوات الإخبارية تنقل لنا بعض ما جرى ويجري ، وهذا يدل على أن العبد لا يأمن هذه الدنيا ، ولا يقول إن لدي قوة أو أن لدي مكانة ، فإن البعض من الناس لو قيل له إن بعض الحكَّام سيسقط قبل أن يتنازل وقبل أن يتنحى لما تصور هذا ولو بنسبة واحد في المائة ، لكن مع ذلك { إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .