طائر الزقزاق
الليبروجامى
(يشوة التنمية لأجل التماسيح)
طائر الزقزاق أحد الطيور التي لا غنى للتمساح عنها في تنظيف أسنانه والتخلص من فضلات الطعام المتبقية بينها، وكل ما يفعله التمساح هو أن يفتح فمه فقط، ليأتي الزقزاق ويمارس عملية التلميع والتنظيف!
ليس لوجه الله طبعاً، بل لأن الزقزاق يريد أن يعيش وهذه الفضلات المشتتة بين أسنان التمساح الضخمة تبقي هذا الطائر على قيد الحياة!
لهذا الطائر شوكتان في جناحيه، حين يغلق التمساح فمه.. يوخز بها اللثة دون إيذاء أو انزعاج من التمساح.. لكنه ينبهه بالرغبة في الخروج.. فيفتح له التمساح بوابة فمه ليغادر ..،،
الزقزاق طائر يبدوفي حالة حرص مبالغ فيه بشأن التمساح .. وقلبه "مرهف" تجاهه، وهذه النتيجة لاحظها علماء الطيور بعد أن وجدوا الزقزاق يقوم بعمل "الرادار" في أعالي الأشجار، يراقب الصيادين فحين يقتربون من المستنقع الذي يسكنه التمساح .. يبدأ الزقزاق الصراخ بشدة في إشارة تنبه التمساح باقتراب الصيادين.
وظائف الزقزاق هذه، هي تماماً ما يقوم بها التيار الليبروجامي مع أسنان التماسيح البشرية في الخليج! يزيدون على الوظائف سابقة الذكر، أنهم لا يقتصرون على تنظيف الأسنان فقط، بل يفتشون عن كل "وسخ" يعلق بالتمساح ويقومون بتنظيفه، وتلميع كل البقع السوداء حتى لو كان الثمن أن تنتقل إليهم وتلتصق بهم.
ليس هناك صيادون يقتربون من حكام الخليج ومع ذلك لا يكاد يمر يوماً إلا وتجد زقزاقاً ليبروجامياً يصرخ للتمساح، ولو تأمل ما يظنه الخطر.. لوجد شعوباً مجردة تريد الخلاص من هذه التماسيح البشرية التي أهلكتها، والملاذ أي ملاذ يمثل خطراً على التمساح كما يراه الزقزاق، لذا هو يصرخ دائماً!
* التيار الليبروجامي!
لا أقول التقاء "نقيضين" بل اشتراك في قبيح واحد.. أسوأ خليط عرفته البشرية في العصر الحديث..، تيار يرخص من قيمة الإنسان باسم "الدين"، وتيار يركس الإنسان في معطف "الليبرالية" .. لأجل "عيون الحاكم"، فهل يمكن أن يتسمم ذهن الإنسان بأبشع من هذا!
لا أريد أن أمثل دور المتفاجىء وأقول لكم سقطت ورقة التوت، لأنه لم يكن هناك توت في الأصل .. كانت هناك ثمرة فاسدة سقطت بعد الربيع العربي، وطفق الشباب في الخليج يجمعون قائمة للعار.. لأولئك "المسقفين" الذين وقفوا ضد الشعوب ضد من يفترض أن يدعموه على الأقل لأنهم كانوا ينظرون له.. ويتشدقون به في مجالسهم وندواتهم ..! فوجد الشباب قائمة العار تزيد مع انتشار فكرة «الأخويا" وموسم الهجرة إلى الإمارات .. بجوار ضاحي خلفان ،، ومن جاور السعيد يسعد!
من خبراء في الجماعات الإسلامية،، إلى خبراء في التنمية والتنظير لها ،، مرة ديمقراطية الصحراء .. ومرة ديمقراطية صامتة..! بنو إسرائيل قتلوا الأنبياء وكذبوا الرسول ونزلت عليهم الآيات فلم يصدقوها .. ومع ذلك تاهوا أربعين سنة فقط! ويل لنا .. وش سوو "ربعنا" ليتيهوا كل هذي السنين الطويلة!
لم يكن هناك لقاء فكري سابق قبل الربيع العربي بين الجامية والليبرالية، لكن جمع بينهما الموقف من حالة تحرر الشعوب وسقوط المستبدين، ففكرة مثل حماية جناب "الحاكم" هي الجامع الكافي بينهم، ويكفي فكرة مثل هذي أن تجعلهم في خندق واحد .. مع أن لكل واحد منهما مسعاه!
حدث في التأريخ مثل هذا، فلم يلتقي منصور النميري بابن هانئ الأندلسي .. لكن جمع بينهما الشعر ونفاق الحاكم فكتب النميري لهارون الرشيد: (أي امرئ بات من هارون في سخط .. فليس بالصلوات الخمس ينتفع )، وجاء بعده بسنوات ابن هانئ " الزقزاق التأريخي الكبير" وكتب للمعز الفاطمي: "ما شئت لا ما شاءت الأقدار … فأحكم فأنت الواحد القهار .. وكأنما أنت النبي محمد .. وكأنما أنصارك الأنصار .. أنت الذي كانت تبشرنا به .. في كتبه الأحبار والأخبار".
في الآونة الأخيرة، أصبح من الصعب ترقيع كل طوام المستبدين، لأنه يجعل موقفهم "بايخ" ليس أمام الناس بل حتى أمام فكرة آمنوا بها، لذلك قرر منظرو "الليبروجامية" أن يتحولوا من ترقيع الحاكم إلى ترقيع "عجلة التنمية"، وأصبحوا يتحدثون عن أهمية التنمية وتأجيل حريات الناس والمشاركة الشعبية!
وكان بالإمكان متابعة هذه الظاهرة، وإدراجها ضمن مواضيع مشابهة طرحت كثيراً في مؤتمرات وأبحاث منشورة في كل مكان، لكن الأيام أثبتت أن الحديث "المتواصى به" ليس من قبيل البحث العلمي ولم يرد بالفكرة التي يتم الترويج لها الصالح العام، بل اتضح أنه تبرير للحالة الاستبدادية فقط، والدليل على ذلك المسارعة في محاربة الشعوب التي تحررت من مستبديها، وتخوين المصلحين، ونبز الديمقراطية والتهويل من التحولات الاجتماعية.
وانتشر الترويج لسنغافورة نموذجاً للتنمية مع استبداد، والتخويف بدول ديمقراطية تعثرت في التنمية! وقالوا: أحسن لكم ارضوا بما أنتم فيه وما قسم الحاكم لكم .. تراكم أحسن من ليبيا والأرجنتين!
وتم تشويه التنمية والعبث بمعناها ومقصدها، ولا أدل على ذلك من اتهام بعض المصلحين بأنهم من معوقي التنمية، لأنهم قالوا للظالم "لا"!
الزقزاق الليبروجامي .. يريد أن يكرر علينا بلا حياء ما فعله الفيلسوف "جون ميل" في القرن التاسع عشر حين قال إن النظام الديمقراطي يستدعي تقدماً حضارياً فزكى الغرب وقال عنه إن قادر على أن يحكم نفسه بنفسه، لكن ذلك يتعذر على دول أخرى "غير راشدة"! وجاءت الهند فكسرت هذا التعالي، وهاهم يعيدونها "جذعة".
في هذه المقالة، سأحاول مناقشة بعض الأفكار التي يتم التسويق لها هذي الأيام من نخلة الجميرا في دبي، وقبل ذلك أريد أن أؤكد أنني لا أزعم أن "الديمقراطية" جنة رغم ما سأسوقه من تحليلات وإجابات.
لكن الذي أؤكده أن محاولة تكريس فكرة المقايضة بين التنمية والاستبداد في الخليج هي فكرة هزيلة وكاذبة يراد منها تخدير الناس والضحك عليهم فقط.
أولاً: ما هي التنمية؟ والفرق بينها وبين التنمية التي يسوق لها "الليبروجامي" في الخليج؟
كانت التنمية في الماضي تنحصر في مفهوم "النمو الاقتصادي"، إلا أن هذا التعريف المختزل لم يعد يٌعمل به، بل إن التنمية اليوم تركز في الغالب على " التنمية البشرية " التي تصل إلى التنمية الإنسانية الشاملة التي توسع خيارات الناس. لذا تعتبر الحرية فكرة جوهرية في عملية "التنمية البشرية" التي تمتد إلى الحريات المدنية والسياسية.
الباحث "محمد بوبوش" في ورقة "الحكامة الرشيدة والتنمية" يرى أن مفهوم التنمية مر بأربعة مراحل: "المرحلة الأولى، جرى التركيز على النمو الاقتصادي، وفي المرحلة الثانية على التنمية البشرية وفي المرحلة الثالثة، على التنمية البشرية المستدامة، وفي المرحلة الرابعة، على التنمية الإنسانية بمعناها الشامل".
إذا فالعالم اليوم حينما يتحدث عن التنمية، إنما يعني "التنمية الإنسانية الشاملة"، وليس بضعة ناطحات سحاب وشوارع نظيفة في مقابل تدمير "الإنسان" وبناء السجون والمعتقلات، وتزييف الإعلام، وتخوين المعارضين، وتجريم النقد والاعتراض! فتنمية من هذا النوع مصيرها السقوط..!
وإذا كانت التنمية في جانب معين مقبولة بغض النظر عن " الإنسان " وحرياته، فمن حق كوريا الشمالية علينا أن نمتدح " تنميتها" المقصورة في مجال التسليح لأنها تأتي في المركز الرابع عالمياً في تصدير السلاح بعد أمريكا وروسيا والصين! ونقول للإنسان المدمر في كوريا الشمالية يجب عليك أن تحمد ربك .. فلديك تنمية وقوة تسليح هائلة!
ما علاقة التنمية بالديمقراطية؟
الديمقراطية والتنمية مفهومان متكاملان يدعم كل منهما الأخر، فالديمقراطية مجموعة من التطبيقات والإجراءات المؤسساتية التي تهدف إلى ضمان الحقوق السياسية والمدنية للشعب، لكنها لا تنفك عن ضرورة دعمها للتنمية والتغيير الاقتصادي، وكذلك دعم العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات .
هناك من يرى أن التنمية عبارة عن تقاطع ثلاث دوائر مهمة: السياسة - الاقتصاد- المجتمع، فأي دولة تريد "تنمية مستدامة" لابد وأن يساهم المجتمع في دفع عجلة التنمية والاقتصاد وهذا بدوره بحاجة إلى إرساء القيم الإنسانية الكبرى "العدل والحرية والمساواة".
لذا من الضروري التأكيد على أن التنمية لا تلغي المشاركة الشعبية بل هي الأس في العملية الديمقراطية، فالتنمية تتأثر بالديمقراطية وتؤثر فيها، والحياة والتقدم المستمر دون مؤسسات المجتمع المدني التي تساهم في صنع القرار ودون حرية الأفراد في التفكير، ودون محاربة الفساد، ودون محاسبة المسؤول في الأجهزة الحكومية هو ضرب من الخيال، لأن الاستبداد يحمل في جيناته عوامل هدم التنمية .. ولا مناص من التحول الديمقراطي في أي بلد يتقدم تنموياً إذا أراد البقاء، أو لينتظر ساعة ترتكس فيها الأمور وتعود للوراء، فإذا تعذرت الديمقراطية فلا استدامة مع استبداد!
ومن جانب آخر، فإن النقاش حول إشكالات الممارسة وتوقيته مستساغ ومقبول! لكن يجب أن يبقى "الإنسان" دائماً هو المحور الأساس في كلا المفهومين..
وأي خلل في "الإنسان وحقوقه" يحدث تنافراً يشوه العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، فالتأريخ يثبت أن أي فصل يحدث بينهما ينتهي في غالب الأحيان إلى الفشل، حتى لو استمرت التنمية على سبيل المثال لفترة زمنية معينة في ظل استبداد، فإنه لا يلبث إلا وتنتكس ..! وكذلك لا جدوى من ادعاء بعض الأنظمة تطبيق الديمقراطية "الشكلية" إذا كانت التنمية بمفهومها الشامل آخر اهتماماتها، لأن الفقر والشتات بالمرصاد لهذه الدول، وليس هناك من سبيل لجعل هذه التنمية مستديمة ومستقرة مثل إرساء المفهومين معا.
ولنتأمل "النمور الآسيوية" التي ملأت العالم ضجيجاً في "التنمية" وفاجأت العالم بالتطور الكبير في جميع المجالات، حين قصمتها الأزمة الاقتصادية عام ١٩٩٧، ونجم عن ذلك هبوط كل شيء .. مستوى المعيشة .. العملة .. معدلات النمو .. وزادت في المقابل معدلات البطالة بشكل مخيف، هرع الباحثون لدراسة مسببات هذه الأزمة العنيفة وكيف هوى كل شيء فجأة ..!
فكتب الباحث "عبدالرحمن تيشوري" في مؤلفه "تجربة النمور الآسيوية والعوامل التي أدت إلى أزمتها": إن غياب الديمقراطية وانتشار الفساد في كل المجالات وسوء توزيع الدخل القومي لصالح فئة قليلة من المجتمع وغياب الشفافية، كل هذه العوامل أدت إلى تفاقم أزمة هذه البلدان!
* النقاش قديم حديث:
أرسطو يقر بوجود صلة بين الديمقراطية والتنمية وغيره من الفلاسفة والمفكرين يؤمنون بوجود ارتباط وثيق بين الرفاهية الاقتصادية والتنمية وطبيعة النظام السياسي في أي مجتمع.
عالم الاجتماع والسياسي الأمريكي "ليبست" قدم أطروحته: "بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية"، ومن ثم حولها إلى كتاب بعنوان "الرجل السياسي"، وفيه يوضح العلاقة الوثيقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذهب فيه إلى أن ارتفاع المستوى الاقتصادي للناس الناتج عن الصناعة والتعليم، يوثر إيجاباً في نظام الحكم، ويرى أن التنمية تأتي أولا وتدفع بالنظام إلى الديمقراطية حتماً.
وقام في دراسته بتقسيم البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية واستراليا إلى قسمين: ديمقراطيات مستقرة، وديمقراطيات غير مستقرة وديكتاتوريات.
ثم صنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات غير مستقرة ودكتاتوريات مستقرة.
ثم قام بعملية مقارنة بين تلك البلدان اعتماداً على ثروتها ودرجة التصنيع ومستوى التعليم باعتبارها أهم مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وخلص من هذه المقارنات ما يلي:
البلدان الأكثر ديمقراطية في كلا المجموعتين كانت الأعلى تنمية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وتفوقت بدرجات كبيرة على البلدان الدكتاتورية، وبناء على هذه النتيجة يفترض ليبست أن هناك علاقة قوية بين التنمية والنظام الديمقراطي!
آدم سميث أحد أبرز مفكري الاقتصاد الحديث، يقيس إبداء تقدم الأمم بحجم قدرتها على الإنتاج والتنمية، وفي كتابة "ثروة الأمم" يعتبر أن الحكومة التي تحكم أقل ما يمكن هي أفضل حكومة، ويبرر ذلك بأن هذا الحكم يفضي إلى الحرية الفردية ويركز على الكفاءة الذي ينعكس على النمو الاقتصادي، يوافقه العديد من علماء الاقتصاد فريدمان وهايك وغيرهم..
فالتنمية الاقتصادية يجب أن تركز على "الإنسان" وإسعاده، وإلا فإن أي فكرة جميلة مثل "الديمقراطية" تلغي الإنسان، يسهل إدعاءها ومن ثم التلاعب بها وتشويهها ..!
هنتغتون يقيد الديمقراطية بالتنمية ويشترطها، مما يعني إهمال عوامل محفزة كبيرة لا تتوفر إلا في ظل الديمقراطية، مثل الحرية الاقتصادية والابتكار والإبداع.
العالم "جروسمان نوح" يشير إلى الهدية التي تقدمها الديمقراطية في مجالات التنمية بقوله: إن النظام الديمقراطي يأتي عادة ومعه قدراً لا بأس به من فكرة خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين مما يسهم في محاصرة بؤر الفساد ويبحث بشكل دائم عن الأكفأ، ومثله العالم "روبرت داهل"، حيث يقول: "إن النظام الديمقراطي يراقب المصالح الذاتية ويحد من الأنانية التي تتسلل عادة للحاكم وتؤثر سلباً على المصلحة العامة للبلد"!
مثل هذه الدراسات لا تأتي عبثاً ولا تبريراً لمستبد يعبث بحياة الملايين وثرواتهم، هو هاجس عالمي ومسؤولية يشعر بها العلماء والمفكرين والمؤسسات المدنية تجاه شعوبهم .. بهدف المزيد من التقدم، وحياة أكثر رخاء!
إنهم يناقشونها بحثاً عن الأفضل في فضاء حر ، يدل على ذلك ما تزخر به مكتباتهم من بحوث وكتب قيمة كتبت لمعرفة إلى أي درجة تؤثر في "دمقرطة" النظام السياسي على التنمية في أي بلد، هذه الدراسات دفعت منظمة اليونسكو في نهاية التسعينات لتبني إنشاء هيئة دولية تدعى "الهيئة الدولية حول الديمقراطية والتنمية" ترعى وتدرس هذه الأبحاث!
لقد تحولت الديمقراطية في السياسة الخارجية في الدول المتقدمة إلى قيمة مقصودة لذاتها، وانعكست نتائجها في محاربة الفقر وتوسيع دائرة التنمية والتأكيد على محاسبة الحكومات وتشجيع الحريات الشخصية وإرساء القوانين التي تكفل وتحمى حقوق الإنسان!
في عام ٢٠٠٧ قدم الباحث "تشن ل.إي في" ورقة بحثية مهمة تناقش الترتيب بين الديمقراطية والتنمية بعنوان: "التنمية أولا والديمقراطية فيما بعد، أم الديمقراطية أولا والتنمية فيما بعد؟ الجدل حول التنمية والديمقراطية"!
في عام ٢٠٠٩ طلبت الرئاسة السويدية من المركز الأوروبي لإدارة سياسات التنمية، لبحث مثل هذي الموضوعات .. "جدل التنمية والديمقراطية"، وجاءت الورقة بتحليل عميق يفيد أن الطرق التي تؤدي إلى الديمقراطية تقدم نتائج أفضل للتنمية!
يدعم ذلك بعض النتائج النابعة من مراكز الأبحاث في أفريقيا، وكذلك ما نص عليه الميثاق الذي تبنته دول أمريكيا اللاتينية عام ٢٠٠١: "الديمقراطية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية تعتمد على بعضها البعض وتقوي كل منهما الأخرى"، والجدير بالذكر أن الأبحاث التي تتناول العلاقة بين المفهومين .. ركزت في حديثها على "التنمية المستدامة" .. لأنها هي التي تمدد فترة حياة الدول وتضمن لها انتعاش اقتصادي مطرد.
وبعد هذا كله ألا يحق لنا أن نسأل: ما هي جهود التيار الليبروجامي في هذا المضمار غير تلميع وجه المستمد، ومحاولة تمرير مفهوم التنمية في شكله المشوه على الشعوب ..!
* هل يمكن الحديث عن تنمية من دون ديمقراطية؟
التفكير في نجاح التنمية واستمرارها بمعزل عن الديمقراطية ليس مذهباً جديداً .. فهناك دول حاولت من قبل لكنها سقطت .. ولم تستطع الاستمرار ومنها "الإتحاد السوفيتي ورومانيا"!
الاتحاد السوفيتي بزعامة روسيا بعد الثورة "البلشفية" قُدم على أنه النموذج الإنساني الأفضل، وأنه زمن انتصار المسوحقين والضعفاء والمهمشين! لكن بمجرد وصول مستبدين متسلطين على رقاب الناس من أمثال لينين وستالين ..! أهدرت قيمة الإنسان أولاً .. ثم بددت الثروات وقدمت مصالح الحزب والأفراد على مصالح الدولة فضرب الفساد المالي والإداري أطنابه في مرافق ومؤسسات الدولة، واستخدمت القبضة الأمنية في أقبح صورها لتكميم أفواه الناس ..!
لا يمكن أن ينكر أحد التقدم الكبير في التنمية التي تركزت في مجال الصناعات العسكرية والفضائية .. فهل أنقذتها من السقوط؟
لقد تهاوت وسقطت تلك التنمية والقوة الاقتصادية والسياسية الضاربة في العالم، تلك القوة التي جعلت من الزعيم السوفيتي خروتشوف عام ١٩٦٠ ومن على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يضرب بقبضته على الطاولة ويخلع جزمته في كبرياء وجبروت وقوة ..ليقول للحاضرين: يجب على الجميع أن يعلم أن الاتحاد السوفيتي قوة عظمى ولن نسمح لأحد بالاستخفاف بها!
ألا نسأل لماذا لم تقف "التنمية" مع الاستبداد حائلاً في وجه موجة التفكك والسقوط والانفراط إلى ١٥ دولة مستقلة؟
لذلك يمكن أن نخلص إلى أن الحديث اليوم عن تنمية من دون ديمقراطية وحريات هو حديث "تبريري" بعيد عن النهج العلمي والمنطقي.. وشواهد التأريخ!
ولن تجد دولة ديمقراطية اختارت الاستبداد مقايضة بالتنمية وحلاً لمشاكلها التي نجمت عن قصور في تطبيقات آليات الديمقراطية، بل إن هذه الشعوب التي تعيش في ظلال الديمقراطية تحاول إصلاح أعطابها في ظل ما تتمع به من حريات بعيداً كل البعد عن الحديث عن الاستبداد كخيار ومنقذ!
فكيف يريد منا التيار الليبروجامي أن نستمسك بمستبدين حلاً لمشاكل التنمية وخياراً في مقابل حريات الناس وكرامتهم..! ولو كان هناك خير في هؤلاء المستبدين، لرأته شعوبهم هذا من سنوات، أم أن شهد الزقزاق "توبة" المستبد التي لا نعلمها، وأقسم له أيماناً مغلظة أنه عازم على الإصلاح!
الواقع يقول العكس، فالإنسان في بعض دول الخليج لم تسعفه "تنمية" القصور والمباني الشاهقة، أن توفر له سريراً في زواية مستشفى! أو منزلاً صغيراً يستر شتات عائلته! ففي المملكة على سبيل المثال نشرت صحيفة الرياض خبراً قبل أيام أخباراً عن ارتفاع معدل تضخم الإسكان بنسبة 81,9%، وهي نسبة تفوق ثلاثة أضعاف معدلات تضخم تكاليف السكن في معظم دول العالم، وارتفع معدل تضخم الأطعمة والمشروبات بنسبة 35,1%، وسجل المؤشر العام لتكاليف المعيشة في المملكة ارتفاعاً بلغت نسبته 35.2%!
فعن أي تنمية تتحدثون؟
هل أثرت التنمية في تحويل بلدان مستبدة إلى الديمقراطية؟
ساهمت التنمية البشرية والاقتصادية في تحويل دول مثل كويا الجنوبية وأسبانيا والمكسيك إلى دول "ديمقراطية"، ولعبت الصناعات الدور الأبرز في النقلة النوعية في مجالات التنمية المختلفة، فكوريا الجنوبية المعجزة على نهر هان، رغم معاصرتها للاستبداد ردحاً من الزمن، ثم جاءت التنمية وأبت إلا أن تجر النظام نحو مسار الديمقراطية والاستقرار، فاستجاب لها النظام، فقوي اقتصادها وتنامى بشكل ملفت لتصبح ضمن دول الاقتصاد العالمية الكبرى فيG20، فهي من أكثر بلدان العالم تصنيعا ومن أسرع الاقتصادات نموا، وفي عام ٢٠١٠ أصبحت كوريا الجنوبية سادس أكبر مصدر وعاشر أكبر مستورد في العالم.
مثال آخر يستحق الإشادة، التجربة الأسبانية، واحدة من التجارب المثيرة والمهمة في السير نحو الديمقراطية، فقد بقيت أسبانيا تحت قبضة حكم استبدادي لمدة أربعين سنة حتى رحل الجنرال الديكتاتور "فرنسيسكو فرنكوا"، وميزة هذا التحول الذي حدث في أسبانيا عن بقية دول جنوب أوروبا مثل اليونان والبرتغال، هو أن هذا التحول جاء من داخل النظام، وهو ما يجب أن يلهم الأفراد الناصحين داخل الأنظمة العتيقة في الخليج.
ورغم محاولات الجنرالات الكبار الانقلاب على هذا التحول.. والعودة بالبلاد إلى زمن الاستبداد وقبضة الحديد، إلا أن القانون والشعب أفشلاه.. ولعب القضاء دوراً كبيراً في هذا التحول والثبات على مبادئ الديمقراطية، وهاهي إسبانيا اليوم تمثل تاسع أكبر اقتصاد في العالم والخامس في الاتحاد الأوروبي! وأصبحت دولة صناعية ضاربة على الرغم من بعض الهزات العنيفة التي مرت بها، إلا أنها في كل مرة تتجاوزها وتبقى متماسكة