"الوطن مش فرد ولا عدة أفراد، الوطن تفاعل أجيال وتفاعل أعمال، هذا الجيل الشاب كُتب عليه أن يتحمل تبعات الكفاح لتحقيق أمال المستقبل، لقد جاء هذا الجيل فى موعده مع القدر ليكافح ويضحى من أجل نهضة مصر والأمة العربية كلها وبعون الله سنتذوق حلاوة النصر وسنجنى ثمار النضال" .
الزعيم الخالد "جمال عبد الناصر".
ستظل ثورة 23 يوليو 1952 واحدة من أهم الثورات فى التاريخ الحديث بما خلفته من أثار سياسية واقتصادية واجتماعية غيرت وجه الحياة فى مصر وفى الوطن العربي كله وعلى امتداد العالم الثالث .
تعرضت ثورة 23 يوليو لعقبات وعثرات عديدة خلال مسيرتها كان من أفدحها هزيمة 5 يونيو 1967 التى كانت تهدف لإسقاط نظام ثورة 23 يوليو والقضاء على مشروع النهضة العربي والتخلص من جمال عبد الناصر ولكن الصمود الشعبى المصرى والعربى عقب الهزيمة أفسد المخطط وقاد الأمة لاختيار الصمود والتحدى فى مواجهة الهجمة الصهيونية الأمريكية .
جاءت الوفاة المفاجئة لقائد الثورة فى 28 سبتمبر 1970 عقب نجاحه فى إعادة بناء الجيش المصرى وإقامة أكبر حائط صواريخ فى العالم وقتها بمثابة زلزال للثورة التى رحل مفجرها و للشعوب العربية التى فقدت بطلها ومخلصها، وجاء انقلاب مايو 1971 وخروج المجموعة التى تمثل اليسار الناصري من نظام الحكم فى مصر بمثابة خسارة جديدة لثورة 23 يوليو حيث انفردت قوى اليمين بحكم مصر ولكن رغم ذلك لم يكن الرئيس السادات يمتلك الشرعية الكافية للانقضاض على مبادئ ثورة 23 يوليو حتى أتت حرب أكتوبر 1973 ومنحته الشرعية اللازمة لانقلابه على كل ما تمثله ثورة 23 يوليو.
هناك ظاهرة مُلفتة للنظر منذ الإطاحة بمبارك من رئاسة مصر فى 11 فبراير 2011 هى تزايد الكتابات والتصريحات التى تهاجم نظام حسنى مبارك باعتباره يمثل امتداداً لثورة 23 يوليو 1952 فى بعض الكتابات وانقلاب 23 يوليو 1952 فى كتابات أخرى .
لأن بعض معدومي البصيرة ما زالوا يصرون حتى الآن على أن التغيير الذى تم فى فجر 23 يوليو 1952 ليس ثورة وإنما هو انقلاب !
يبدو الأمر هنا لو افترضنا حسن النية تعبير عن جهل فادح فى التفرقة بين الثورة والانقلاب ، فالتعريف العلمى للثورة يقول أنها تغيير جذرى سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى شامل يعم كل ما كان موجودا قبل الثورة بينما التعريف العلمى للانقلاب يقول أنه إطاحة بنظام الحكم القائم واستبداله بنظام حكم جديد دون تغيير جذرى يعم المجتمع .
إذا طبقنا تلك المقاييس على التغيير الذى تم فى فجر 23 يوليو 1952 فلن نجد أمامنا إلا ثورة شاملة غيرت كل أشكال الحياة فى مصر فى كل الاتجاهات ولم ينعكس تأثيرها على مصر فقط بل أمتد إلى الوطن العربى الذى تغير تاريخه ومجتمعاته بفضل إشعاع الثورة المصرية فى 23 يوليو 1952 ، وليس الوطن العربى بل والعالم الثالث كله فقد وصلت أصداء ثورة 23 يوليو 1952 حتى أسيا وأمريكا اللاتينية والذى لا يعرفه الكثيرون أن كلا من كاسترو وتشي جيفارا ومانديلا كانوا يعتبرون الرئيس جمال عبد الناصر أستاذهم ومثلهم الأعلى ، وحتى اليوم ما زال هوجو تشافيز يفخر بكونه ناصري.
لقد بدأت ثورة 23 يوليو 1952 بانقلاب عسكرى قاده تنظيم الضباط الأحرار الذى ضم طليعة من شباب ضباط الجيش المصرى بزعامة جمال عبد الناصر ولكن هذا الانقلاب قوبل باستجابة شعبية عارمة وتحول إلى ثورة شاملة عبر مجموعة من الإجراءات بدأت بالإصلاح الزراعى ثم التخلص من النظام الملكى وإعلان الجمهورية وصولا إلى معاهدة الجلاء وكسر احتكار السلاح حتى وصلنا إلى قرار الرئيس عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس والصمود أمام العدوان الثلاثى حتى خرجت مصر منتصرة واستردت قناتها ، وبذلك اكتملت كل معالم ثورة 23 يوليو 1952 وهو ما تجلى واضحا فى الفترة من عام 1956 وحتى نهاية حرب أكتوبر 1973 .
فى تلك الفترة استردت مصر استقلالها سياسيا وبعد فشل العدوان الثلاثى بدأت استرداد اقتصادها من الأجانب واليهود وتغير شكل المجتمع المصرى تماما عن الفترة السابقة على الثورة فى كل المجالات شهدت تلك الفترة ذروة النهوض الاقتصادى والاجتماعى والأدبى والفنى والفكرى المصرى كما شهدت بروز دور مصر الاقليمى والدولى كأحد القوى المؤثرة فى العالم ولا يمكن لأحد أن ينسى الدور المصرى فى الوطن العربى وفى العالم الثالث وفى حركة عدم الانحياز .
حققت مصر فى تلك الفترة معدلات نمو اقتصادى غير مسبوقة وغير ملحوقة حتى الآن ، وتلك الفترة هى التى شهدت بناء السد العالى و1200 مصنع صناعات إستراتيجية وثقيلة وتحويلية كما شهدت توسع زراعى غير مسبوق وأحسن معدلات إنتاج للمحاصيل الزراعية .
كانت تلك الفترة هى التى شهدت أوسع عملية للحراك الاجتماعى فى مصر عبر مجانية التعليم وبواسطة تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء.
تغيرت صورة مصر تماما خلال تلك الفترة لذا فقد شكل هذا الصعود المتنامى للقوة المصرية ونجاح تجربة التنمية التى كان يقودها جمال عبد الناصر فزع لدى القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فتم نصب فخ 5 يونيو 1967 للقضاء على مشروع النهضة العربى ولكن الجماهير العربية فى مصر وعلى امتداد الوطن العربى رفضت الهزيمة وطلبت من الرئيس عبد الناصر البقاء فى موقعه وجلب النصر وقد شهدت الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس عبد الناصر أفضل انجازاته فقد تم إعادة بناء الجيش المصرى من جديد على أحدث النظم العلمية فى العالم وتم بناء حائط الصواريخ المنيع على حافة الضفة الغربية لقناة السويس وتم وضع خطط العبور وتحرير الأرض العربية المحتلة كل الأرض العربية المحتلة وليس سيناء فقط فقد رفض الرئيس عبد الناصر أكثر من عرض أمريكى وإسرائيلي ينص على عودة سيناء فقط لمصر دون شروط وقال كلمته الشهيرة "القدس والضفة الغربية والجولان قبل سيناء " ، ولم يقبل بحل جزئى منفرد لقضية النزاع العربي الإسرائيلي ، صعدت روح الرئيس عبد الناصر إلى بارئها بعد ثلاثة أعوام من النكسة واقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولي.
وثمن القطاع العام الذي بناه المصريون في عهد الرئيس عبد الناصر بتقديرات البنك الدولى بلغ 1400 مليار دولار.
ولدى مصر أكبر قاعدة صناعية في العالم الثالث حيث كان عدد المصانع التى أنشأت في عهد عبد الناصر 1200 مصنع منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية وإستراتيجية.
كل ذلك بدون ديون فمصر في ليلة وفاة الرئيس عبد الناصر كانت ديونها حوالى مليار دولار ثمن أسلحة أشترتها من الاتحاد السوفيتي، وقد تنازل عنها السوفيت فيما بعد ولم يتم سدادها.
ولم تكن عملة مصر مرتبطة بالدولار الأميركي بل كان الجنيه المصرى يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريال سعودى بأسعار البنك المركزي المصري.<p> </p>رحل الرئيس عبد الناصر والجنيه الذهب ثمنه 4 جنيه مصري.<p> </p>كل تلك الانجازات تمت بعد النكسة ومن نفس النظام الذي تمت الهزيمة في عهده. لم تكن هزيمة حزيران- يونيو 1967 بسبب فشل نظام حكم عبد الناصر بل كانت عقابا أميركيا على نجاح عبد الناصر في بناء نموذج ثورى اقتصادى واجتماعي ناجح شكل خطرا جسيما على المشروع الأمريكى والصهيونى في الوطن العربي.<p> </p><p>وكانت كلمات الرئيس الفرنسى شارل ديجول خير معبر عن حقيقة عدوان يونيو 1967</p>"المعركة أميركية والأداء إسرائيلي."
توفى الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970 وخلفه نائبه أنور السادات.
فى 13 مايو 1971 أطاح السادات برفاقه فى الحكم من رجال الرئيس عبد الناصر الذين لعبوا الدور الرئيسى فى تنصيب السادات رئيسا للجمهورية ليبدأ بعدها عملية الانقلاب التام على كل مبادئ وسياسات ثورة 23 يوليو 1952 التى جسدتها سياسات الرئيس جمال عبد الناصر وجاء انتصار أكتوبر 1973 ليمنح السادات الشرعية التى كان يفتقدها فى سنوات حكمه الأولى ، فى يوم 7 نوفمبر 1973 بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973 يجتمع الرئيس السادات مع وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر فى قصر الطاهرة ، فى مذكرات هنرى كيسنجر تسجيل لوقائع الاجتماع المنفرد بينه وبين السادات حيث يقول كيسنجر أنه فوجئ بأطروحات الرئيس السادات فهو لم يطالبه بانسحاب إسرائيلي شامل من كل الأراضى العربية المحتلة عام 1967 ولم يطالبه بالحفاظ على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى .
بل كل ما طلبه هو انسحاب إسرائيلي من ثلثي سيناء حتى خط العريش – رأس محمد، وبهذا خالف الرئيس السادات الموقف العربي الثابت منذ حرب 1967، وحتى هذا المطلب رغم سرور كيسنجر به، رفضه كيسنجر قبل الرجوع للإسرائيليين، والرئيس السادات يصارح كيسنجر أن حصار الجيش الثالث ليس جوهر المسألة وخطوط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973 لا تصلح للنقاش بين صانعي سياسة مثله هو وكيسنجر، وأنه راغب بشدة في عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر و الولايات المتحدة،وهى العلاقات التي تم قطعها بين مصر والولايات المتحدة عقب حرب 1967، وإثر الدور الأمريكى الواضح في الحرب تخطيطا وتنفيذا ضد مصر، وعقب هذا القرار المصري قطعت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بالولايات المتحدة وتم خروج 62 ألف أمريكى من الوطن العربي في مشهد مهين لهيبة وكرامة الولايات المتحدة الأميركية، وهاج الرئيس الأمريكى جونسون معتبرا ما حدث صفعة لمكانة الولايات المتحدة وتحريض شرير من الرئيس عبد الناصر، وطوال الفترة من 1967 وحتى 1973 حاولت الولايات المتحدة بشتى السبل العمل على عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية دون جدوى لإصرار مصر على أن تلزم الولايات المتحدة إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية قبل تلك الخطوة،والآن يقوم الرئيس السادات وبعد حرب ضارية اهتزت فيها ثقة إسرائيل وتم كسر جيشها بتقديم هذا العرض المجانى، أغتبط كيسنجر لذلك وفى ذهنه ما هو أبعد وأهم، فعودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية تفتح الباب لعودة علاقات أميركا بكل دول العالم العربي، ويبلغ الرئيس السادات كيسنجر أنه قرر أن يرفع مستوى التمثيل الدبلوماسى فورا من قائم بالأعمال إلى سفير بالنسبة لمصر والولايات المتحدة، وكل ذلك بدون مقابل.
ولم يكتف الرئيس السادات بذلك بل يبلغ كيسنجر أنه ليس خلفا للرئيس عبد الناصر بل خلفا لأجداده من الفراعنة الكبار ، ويبلغه أنه ينوى تصفية ميراث سياسات الرئيس عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية وتوجهاته القومية العربية، وسيعمل على طرد السوفيت من الشرق الأوسط.
ويقول السادات لكيسنجر لقد كانت حماقة وطيش من عبد الناصر محاولاته الدائمة لابتزاز الأميركيين وتحقيق أهداف مصر من خلال محاربة السياسة الأميركية في العالم العربي وعلى امتداد العالم، وإن مصر خاضت ما يكفيها من حروب من أجل العرب وتتطلع إلى السلام.
يسجل كيسنجر في مذكراته تلك الكلمات عن الرئيس السادات (أنه يمثل لى أفضل فرصة لكى نقلب المشاعر و الاتجاهات العربية والمواقف العربية تجاه إسرائيل، وهى أفضل فرصة تتاح لدولة إسرائيل منذ قيامها)، يقول كيسنجر أنه هو الذي أوحى للرئيس السادات أن المشكلة بين مصر وإسرائيل هى مشكلة نفسية نتجت عن عدم ثقة إسرائيل بنوايا مصر وخوفها على أمنها، وأن يجب على مصر أن تعطى إسرائيل الإحساس بالأمان وتهتم بشئونها فقط بدلا من الاهتمام بمشاكل العرب الآخرين، وكالعادة يوافقه الرئيس السادات ويصارحه أن المشكلة الأساسية نجمت من رفض الرئيس عبد الناصر الاعتراف بالهزيمة عام 1967 وإصراره على الحل العسكرى للصراع وتمسكه بحل شامل على كل الجبهات العربية مما كلف مصر الكثير.
هذا الاجتماع بالغ الخطورة والذى دشن الدخول الأمريكى لمصر بعد أن أغلق عبد الناصر أبواب مصر أمام الأمريكيين طيلة حكمه.
ويمكننا بالقياس على أى معيار تاريخى أن نؤرخ لنهاية الجمهورية الأولى فى مصر وبداية الجمهورية الثانية بيوم 7 نوفمبر 1973 .
لقد دخلت مصر حرب أكتوبر وهى محكومة بكل آليات النظام الناصري
القطاع العام الذى يقود التنمية
والجيش المصرى الذي بناه عبد الناصر عقب الهزيمة
وحائط الصواريخ الذي حركه عبد الناصر لحافة القناة قبيل وفاته
والخطط العسكرية الموضوعة منذ عهده.
وعقب الحرب بدأ تفكيك تركة جمال عبد الناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتتحول مصر خلال بقى سنوات حكم الرئيس السادات إلى النقيض المتطرف لكل سياسات الجمهورية الأولى التى حكمت مصر من 23 يوليو 1952 حتى 7 نوفمبر 1973 .
فمصر التى أنتصر جيشها فى أكتوبر 1973 قام الرئيس السادات بتسليم إرادتها السياسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، لينتج عن هذا كل ما نعانيه الآن فبعد ضياع استقلال الإرادة السياسية المصرية تم هدم مشروع النهضة القومى الذى قاده عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى،وفقدت مصر دورها الإقليمي كقوة مؤثرة فى الإقليم وفى العالم كله التى بناها الرئيس عبد الناصر بسياساته التحررية ، وتم تفكيك اقتصادها الوطنى والتوقف عن خطط التنمية الطموحة ،وربط اقتصادها بالاحتكارات الرأسمالية العالمية ليتحول من اقتصاد صناعى زراعى إنتاجى إلى اقتصاد تابع ذيلى يرى مصر كسوق لتصريف المنتجات الأجنبية ليس أكثر ، لتبدأ مصر رحلة خروجها من التاريخ بقبول الرئيس السادات بالحل السلمى الجزئى المنفرد مع العدو الصهيونى فى كامب دافيد .
فى ظهيرة يوم 6 أكتوبر 1981 يغتال تنظيم إسلامي متطرف الرئيس أنور السادات أثناء حضوره العرض العسكرى الاحتفالي بذكرى نصر 6 أكتوبر ، يخلف السادات نائبه حسنى مبارك فى رئاسة مصر لم يكن لمبارك باعترافه مشروع سياسي وبأقواله فهو لم يكن يتخيل يوما أن يصبح رئيسا ولأنه من اختيار السادات عبر نصيحة أمريكية له بتعيينه نائب عام 1975 فقد ظل محافظا على الخط السياسي للرئيس السادات الذى رهن إرادة مصر السياسية للولايات المتحدة الأمريكية وجعل علاقات مصر الخارجية مقتصرة على نيل الرضا الأمريكى الإسرائيلي وذلك عبر المحافظة على اتفاقية السلام مع إسرائيل والعمل كعراب للسلام بين إسرائيل وباقى الدول العربية ، وفى عهد مبارك تواصل الانهيار المصرى الموروث عن عهد السادات على كل الأصعدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأصبحت بذرة الانفتاح والفساد وتسليم إرادة مصر للأمريكيين والإسرائيليين التى زرعها السادات عقب حرب 1973 هى حصاد حكم حسنى مبارك الذى سار على خط السادات السياسي بكفاءة يحسد عليها .
وكما جاءت نهاية السادات مقتولا أمام شاشات التليفزيون يشاهده العالم كله وسط فرحة شعبية مصرية وعربية عارمة عقب التأكد من نبأ مقتله جاءت جنازته باردة لم يشارك فيها أحد ولم يبك عليه مصري بل مشى فيها سفاح دير ياسين الصهيونى مناحم بيجن ، والصهيونى هنرى كيسنجر والرؤساء الأمريكيين نيكسون وكارتر وفورد ، جاءت نهايته خليفته حسنى مبارك مخلوعا طريدا مهانا من شعبه الذى ثار شبابه الذين ولد معظمهم فى عهده على فساده هو وعائلته وأعوانه وتدميرهم لمستقبل مصر واستقبلت الشعوب العربية نبأ خلعه بفرحة شعبية عارمة مماثلة لفرحتها بمقتل السادات.
بخلع حسنى مبارك من رئاسة مصر سقطت الجمهورية الثانية جمهورية السادات – مبارك ، سقط نظام كامب دافيد الذى زرعه السادات وحصده مبارك .
أن أى مقارنة منطقية ستوضح ان النظام الذى أقامه السادات وأكمله مبارك منذ يوم 7 نوفمبر 1973 وحتى يوم 11 فبراير 2011 "الجمهورية الثانية"هو نظام مضاد شكلا ومضمونا لنظام جمال عبد الناصر الذى أمتد من 23 يوليو 1952 حتى 7 نوفمبر 1973 "الجمهورية الأولى".
لذا فإن دمج العهدين فى جمهورية واحدة ينم عن جهل شديد أو عن سوء نية واضح ، فلا صلة بالمرة لمبادئ ثورة عبد الناصر بما فعله كلا من السادات ومبارك خلال عهديهما .
لقد كانت مبادئ ثورة 23 يوليو هى :
1- القضاء على الاستعمار وأعوانه .
2- القضاء على الإقطاع.
3- القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم.
4- إقامة عدالة اجتماعية.
5- إقامة جيش وطنى قوى.
6- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
وبمقارنة تلك المبادئ بنتائج حكم نظام السادات- مبارك سنجد أن الإقطاع كان يسيطر على البلاد فى عهديهما ، والاستعمار عاد عبر تسليم إرادة مصر السياسية له ، ورأس المال كان يتحكم فى البلاد والعباد ، والعدالة الاجتماعية لم يكن لها وجود هى والديمقراطية الحقيقية .
إن سقوط نظام السادات – مبارك "الجمهورية الثانية" بثورة يناير 2011 هو إعادة اعتبار لنظام ثورة عبد الناصر "الجمهورية الأولى" ، ولا يوجد ناصري حقيقى كان يؤيد النظام الساقط بل كان الناصريين رغم تشرذمهم وقلة مواردهم فى طليعة المعارضين للسادات ولمبارك وكانوا أول من هاجموا مبارك شخصيا وفضحوا جريمة التوريث بل ونددوا بتمديد رئاسة مبارك منذ عام 2000 قبل خلع حسنى مبارك بأحد عشر عاما كاملة .
إن قيام ثورة يناير لم يكن احتجاجا على ثورة يوليو بل احتجاجا على النظام المناقض لمبادئ ثورة يوليو والذى حكم مصر منذ 7 نوفمبر 1973 حتى 11 فبراير 2011 .
المريب فى الأمر أن بعض الكتبة والشعراء السابقين المعروف عنهم تلونهم مع كل العهود والذين كانوا خدما فى بلاط وزير ثقافة مبارك ولم نعرف عنهم معارضة لطغيان وفساد مبارك وعائلته وجدوا فى ثورة يناير فرصة للهجوم على جمال عبد الناصر وثورة يوليو باعتبار أن ثورة يناير قضت على ثورة يوليو ولم يكتفوا بذلك بل سارعوا إلى تضخيم ثورة يناير وإضفاء صفات رائعة عليها وكأنها فريدة من نوعها فى تاريخ الإنسانية ، وبالطبع مثلت ثورة يناير ملحمة بطولية رائعة لشعب يبحث عن الخلاص من جلاده ، ولكن هدف هؤلاء الكتبة لم يكن ذلك بل كان هدفهم الحقير هو الاكتفاء بخلع مبارك كذروة نتائج ثورة يناير وعدم تحقيق باقى الأهداف ، ومعلوم للجميع أن الحكم على أى حدث تاريخى يلزمه وقت كاف لتحليل نتائجه وما تحقق من أهدافه لقد نجحت ثورة يناير فى هدفها الأول بإسقاط مبارك ونظامه ولكن باقى الأهداف لم تتحقق بعد والتى تلخصت فى تغيير .. حرية .. عدالة اجتماعية ولو دققنا النظر قليلا فى تلك الأهداف لوجدنا أنها تكاد تتطابق مع أهداف ثورة يوليو.
ترك جمال عبد الناصر لمصر أرصدة ثمينة داخليا وخارجيا بددها السادات ومبارك بطريقة مثيرة للشبهات طيلة عهديهما وكأنهما كانا مكلفين بمهمة محددة هى القضاء على مشروع النهضة العربية.
حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011 لتعيد الاعتبار لثورة 23 يوليو بإسقاطها نظام السادات- مبارك وبتبنيها لشعارات تكاد تطابق شعارات ثورة 23 يوليو 1952 ، وقد شارك الناصريون فى تلك الثورة مع غيرهم من التيارات السياسية وكانت رموز ناصرية عديدة قد لعبت دورا رائدا فى محاربة نظام كامب دافيد .
كان من اللافت للنظر فى ثورة 25 يناير هو وجود أعداد هائلة من الشباب الناصرى الذى ولد وعاش فى عهدى السادات ومبارك وأكتمل وعيه فى ظل نظام مناقض تماما لنظام جمال عبد الناصر ، نشأ هذا الجيل الناصرى الشاب بدون مؤسسات ترعاه وبدون مرجعيات فكرية تؤطر له أفكاره وفى ظل نظام معادى لكل ما هو ناصرى إضافة لأنه بطبيعة الحال لم يعرف الرئيس عبد الناصر إلا عبر الصور والخطب ولم يستفد من إنجازاته ورغم كل تلك الظروف أصبح هؤلاء الشباب ناصريون وهم دليل حياة التيار الناصرى وأنبل من فيه الآن.
كان هؤلاء الشباب هم من رفعوا صور جمال عبد الناصر خلال أيام ثورة 25 يناير وهم من طافوا بصورة عملاقة له ميدان التحرير يوم الجمعة 11 فبراير2011 عقب تنحى مبارك، وهى الصورة الوحيدة التى رفعت لزعيم مصرى خلال الثورة كلها.
هذا الجيل الناصرى الشاب الذى لم يتلوث بأموال أنظمة عربية كانت تريد وراثة دور جمال عبد الناصر فى العالم والذى نشأ ناصريا باختياره وليس بحثا عن امتيازات أو سعيا لزعامة هذا الجيل هو أمل التيار الناصرى مستقبلا بشرط ابتعاده عن الصراعات واتفاقه على حد أدنى للتنسيق وتوحيد العمل الناصرى.
وظنى أن هذا الجيل تقع على عاتقه مهتمين لابد له من تحقيقهما المهمة الأولى:
تتمثل فى إنشاء مؤسسة ناصرية فاعلة تجمع شباب التيار وتنسق أعماله وتبرز فعالياته وتلتحم بجماهير عبد الناصر الحقيقية فى القرى والنجوع وفى العشوائيات وفى المناطق الشعبية .
والمهمة الثانية:
تتمثل فى قراءة تراث الرئيس جمال عبد الناصر وهى مهمة تأخرت طويلا وتقاعست عنها الأجيال السابقة ، وقد قامت الدكتورة هدى جمال عبد الناصر بعمل موسوعى ضخم بجمع تراث الزعيم الخالد الفكري كله الذى أصبح متاحاً لكل الراغبين فى قراءته من جديد ليس فقط من أجل تاريخ جمال عبد الناصر بل من أجل المستقبل العربى ذاته ، فهذا التراث يحمل لنا كعرب العديد من الإجابات عما نواجهه من مشكلات وتحديات حالية.
الناصرية تجربة حية لا تموت وإعادة إحياء التيار الناصرى فى مصر وبعثه من جديد مهمة موكولة لشباب التيار الناصرى وهى خطوة أولى لإعادة إحيائه على مستوى الوطن العربي كله.
الناصرية ليست دروشة وبكائية على بطل عظيم راحل وليست مجرد احتفاليات بمناسبات تخص الثورة وقائدها بل هى عمل على الأرض معنى بالطبقات الفقيرة والمتوسطة فى مصر.
الناصرية ليست خطب فى القاعات المكيفة وليست صور فى ضريح الزعيم .
الناصرى الحقيقى هو من يسعى لوحدة التيار ،هو من ينقل الفكر الناصرى لأكبر قطاع ممكن من الطبقات التى عاش ومات جمال عبد الناصر من أجلها.
الناصرية هى تحويل الزعيم لتنظيم متمسك بالثوابت الناصرية المعروفة للجميع .
سقط النظام المعادى لثورة 23 يوليو وهناك إعادة قراءة لتاريخنا المعاصر تنصف الزعيم جمال عبد الناصر وعهده وهى هامة لأنك لن تستطيع إقناع الآخرين بالناصرية فى ظل التشويه المتعمد والحملة الظالمة التى طالت الزعيم وعهده إلا بعد كشف زيف تلك الأكاذيب وعلى الشباب الناصرى الآن توحيد جهوده لخلق المؤسسة الناصرية الفاعلة التى يمكنها قيادة التيار إلى مكانه الطبيعى فى صدارة القوى الوطنية الباحثة عن الحق والعدالة الاجتماعية والمتطلعة لمصر القوية المستقلة المتحررة من قيود السيطرة الأمريكية.
فى ذكرى 60 عاماً على اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 المجيدة يأتى هذا الكتاب الذى يضم مجموعة من الوثائق الفكرية للرئيس جمال عبد الناصر "فلسفة الثورة – الميثاق – بيان 30 مارس" كخطوة على الطريق لإعادة قراءة التراث الفكرى للزعيم الخالد.
إن إعادة قراءة تراث جمال عبد الناصر الفكري ليست إبحاراً فى الماضي وليست تقليباً لدفاتر التاريخ بل هى ضرورة قصوى من أجل المستقبل العربي فقد ترك لنا جمال عبد الناصر حلولاً عديدة لما نواجهه الآن من صعاب سواء عبر تجربته كحاكم وهى التجربة التى بُترت ولم تكتمل بعد حرب 1973 أو عبر أفكاره التى لم تُدرس بعد.
فى ذكرى 60 عاما على تحريرك لمصر أيها البطل الخالد فى قلوب الأحرار، نعاهدك على بعث مشروعك من جديد .
نعاهدك على التمسك بثوابت الناصرية التى أرسيتها.
نعاهدك على تحقيق حلمك بأن تتوحد الأمة العربية وتمتلك إرادتها وتأخذ مكانها الطبيعى فى طليعة الأمم.
نم قرير العين يا جمال فمصر تبعث من جديد على يد شبابها وكما حررتها شابا سيحررونها من أردان الماضى الكريه .
فى ذكرى ثورتك المجيدة سلام على روحك الطاهرة فى عليين فى جنات الخلد مع الشهداء والصديقين.
----- أعضاء مجلس قيادة الثورة في المؤتمر العام للعمال 29 / 10 / 1954-
*مجلد "وثائق ناصرية" كتاب تذكارى تصدره حركة الطليعة الناصرية "نصر" بمناسبة العيد الستينى لثورة 23 يوليو 1952 وهو يضم كتاب "فلسفة الثورة" وكتاب "الميثاق" وبيان "30 مارس بقلم قائد الثورة ومفجرها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر".