تذكر بعض الكتب التاريخية أن عجائب الدنيا ثلاث: نهر الذهب ، وجب الكلب ، وقلعة حلب.وتذكر كذلك أن أول من أقام القلعة في مكانها الحالي هو
سالقوس نيكاتور مؤسس السلالة السورية السلوقية ، أقامها على مرتفع طبيعي يشرف على المدينة ،زاده ارتفاعا"التراكم السكني عبر العصور التي
سبقت إقامة القلعة . وتشير بعض الشواهد الأثرية التي عثر عليها في قلعة حلب أن المكان الذي أقيمت فوقه قلعة حلب كان مسكونا" قبل قيامها بكثير
، ومن المتعذر تحديد زمان التوطن وطبيعته بسبب عدم إجراء تنقيبات أثرية منهجية داخل القلعة. وعليه لابد من الانتظار إذا أردنا الحديث عن زمن
سكنى بقعتها لأول مرة .
كانت القلعة في البدء تقع بالطرف الشرقي من مدينة حلب إلا أن المدينة أخذت تتوسع تدريجيا" نحو الشرق حتى أصبحت القلعة في وسطها تقريبا"
وهي ترتفع اليوم في زهو وجلال محافظة على العهد الذي قطعته على نفسها عبر السنين الطويلة عهد السمو والارتفاع . فظلت القلعة تؤدي وظيفتها
التي قامت من أجلها بثبات ووفاء ، فكبرت في أعين السادة واحتلت مكانتها الهامة لديهم ، فعمدوا إلى تحصينها باستمرار وترميمها بعد كل اعتداء .
وصفها الغزي في كتابه (نهر الذهب في تاريخ حلب) بقوله : "اعلم أن موقع قلعة حلب في الحالة الحاضرة متوسط من البلد لكنها إلى الجهة الشرقية
كثيرا" والشمالية قليلا"...وشكل جبل القلعة هرمي قد فرش سفحه بالبلاط من بعض الجهة الشرقية ومعظم الجهة الغربية الشمالية ،وقمته بسيطة دار
عليها سور متشعث جدا" محيطه ألف ذراع تقريبا" فيه عدة أبراج وبدانات متقدمة عليه إلى سفح الجبل لم تدرعها في محيطه.وارتفاع الجبل من
أرض الخندق إلى أسفل السور الدائر على قمته المذكورة خمسة وسبعون ذراعا" تقريبا"، وعرض الخندق الدائر على الجبل نحو ثلاثين ذراعا" ،
وينخفض عن أرض البلدة نحو عشرة أذرع وهو مردوم بالأتربة ولولا ذلك لبلغ عمقه عشرين ذراعا"ونيفا"..."
ووصفا ابن بطوطة قبل ذلك في رحلته " تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" أثناء كلامه عن حلب بقوله : "وقلعة حلب وبداخلها
جبذان ينبع منهما الماء فلا تخاف الظمأ ويطيف بها سور وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء ، وسورها متداني الأبراج قد انتظمت بها المعالي العجيبة
المفتحة الطبقات وكل برج منه مسكون ، والطعام لا يتغير بهذه القلعة طول العهد ، وبها مشهد يقصده بعض الناس..."
وتغنى كثير من الشعراء بقلعة حلب واصفين جمالها ومنعتها ومن أولئك الشعراء الخالدين شاعر سيف الدولة الحمداني على حد قول ابن خيري:
وخرقاء قد قامت على من يرومها بمرقبها العالـــي وجانبـها الصعـب
إذا ما سرى برق بدت من خلاله كما لاحت العذراء من خلل السحب
ما زالت قلعة حلب آسرة لألباب كثير من الأدباء والشعراء يتحدثون عنها بإطناب فيه شوق ومحبة ، كيف لا فهي لدى السلاطين والأمراء رمز
سلطانهم وحاميته والمكان الأمين الذي يودعون فيه أشياءهم الثمينة كلما ذهبوا لملمة من الملمات.
وهي لدى الشعب الملجأ الذي يلجأ إليه في الملمات هربا" من الغزاة والطامعين .ومن أمثلة ذلك أنه في أواخر عهد سيف الدولة الحمداني 351 هـ.،
وعندما أخذ الروم البيزنطيون حلب في نقفور ، التجأ الناس إلى القلعة .فمن دخلها نجا إذ امتنعت عليهم ولم يكن لها يومئذ سور عامر ،فابتدأ منذ ذلك
الوقت اهتمام الملوك والأمراء بقلعة حلب.
ومن مظاهر اهتمام السلاطين والأمراء بالقلعة أنهم أخذوا يولون واليا" على المدينة وآخر على القلعة تحسبا" لتكرار العصيان الذي قام به عزيز
الدولة فاتك على الحاكم بأمر الله الفاطمي ، فمنذ ذلك الوقت جرت العادة بذلك.
وفي العهد المملوكي كان نائب القلعة في أول الأمر من أصاغر الأمراء ، ولكن بعد الفتنة التي عرفت بفتنة الناصري تقرر أن يكون نائب القلعة أمير
مائة ، مقدم ألف وهي أي قلعة حلب ، بذلك تتميز عن القلاع الهامة في مصر وسورية وبخاصة قلعتا القاهرة ودمشق إذ لا يوجد فيها مقدم ألف.
لم تجر العادة أن يحضر نائب القلعة المواكب التي تقام في حلب إذ أنها كانت تعد من رسوم النائب المدينة . وإن حدث أن حضر نائب القلعة
المواكب فإنه يجلس دون أمير الميسرة الذي يجلس إلى جانب الحجاب ، وبهذا يكون نائب القلعة أدنى مرتبة من نائب المدينة بحلب.
كانت قلعة حلب تسمى بالقلعة الكبيرة ، تمييزا" لها عن قلعة الشريف التي تنسب إلى الشريف حسن الحتيتي عام 478 هـ ، وبنى عليها سورا"
دائريا" وفصل بينها وبين المدينة بسور وخندق خوفا" على نفسه من أهل حلب، وكانوا يبغضونه ويكرهون ولايته عليهم.
ويظهر أن قلعة الشريف كانت مقرا" لنائب المدينة ، في حين كانت القلعة مقرا" لنائبها ففي الوقت الذي كان فيه الشريف المار ذكره واليا" على حلب
كان سالم بن مالك واليا" على القلعة الكبيرة.
تحدث أحيانا" خلافات بين نائب حلب ونائب القلعة . ومن أمثلة هذه الخلافات ، الخلاف الذي وقع بين نائب حلب تغري يرمش ونائب القلعة. فحاصر
الأول القلعة وأشرف على أخذها ، فتعصب أهل حلب لنائب القلعة ضد نائبهم ، ولكن في النهاية تمكن تغري يرمش من أخذ القلعة . وعندما علم
السلطان بذلك عزل نائب حلب وولّى نائب طرابلس بدلا" عنه وسيّر من قاتل تغري وقتله. كان ذلك عام 842 هـ.
بقي الحال كذلك ، منذ أن استنَ الخليفة الظاهر الفاطمي سنة تعيين وال على القلعة وآخر على المدينة ، خلال العهد الأيوبي والعهد المملوكي. ولكنه
أبطل في مطلع العهد العثماني ، إذ لم يعين واليا" على القلعة في حين عين واليا" على حلب هو أحمد باشا بن جعفر المشهور بقراجا باشا.
استمرت الحياة السكنية في قلعة حلب كما استمرت موقعا" عسكريا" حيث نجد السلطان سليمان يعتني بترميم أسوار القلعة وأبراجها ، كما يظهر من
كتابة على أحد أبراج القلعة ، ويحدثنا الغزي (نهر الذهب 2/41) نقلا" عن أسلافه ، بأن المباني السكنية في قلعة حلب كان مزدحمة حيث كان
الموظفون في القلعة والمحافظة يسكنونها. واستمرت كذلك مدة طويلة إلى أن كانت زلزلة عام 1237هـ فتهدمت أكثر بيوتها وهجرها الناس إلى
المدينة. وعندما ألغيت الإنكشارية عام 1241هـ ترك باقي السكان القلعة إلى المدينة سوى جماعة من الأسر المتولية على وقف الساتورة عرفت بآل
الدوزدار. وبقيت مدافع الأعياد والاحتفالات تطلق من القلعة حتى عام 1307 هـ حين تقدم أهل الدور والمحلات التي تجاور القلعة بالتماسات إلى
الحكومة يطلبون فيها إبطال إطلاق المدافع خوفا" على أبنيتهم من السقوط.
يعتقد أن أول من اتخذ القلعة الحلبية مقرا" للحكم والسكن هو سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني، فأتم ما بدأه والده من الأسوار، وكذلك فعل بنو
مرداس.
حذا الأمراء من بعده حذوه ، وقد ترتب على اتخاذ القلعة مقرا" لسكن الأمير وحكمه أن أقيمت القصور والساحات والأبراج والأسوار ، وحصِنت
القلعة تحصينا" كبيرا".
ويذكر سوفاجيه في كتابه عن حلب أن عدم استقرار الحكم وعداوة السكان للحاكم جعلت من القلعة مدينة حقيقة، وبذلك أصبحت مدينة داخل مدينة.
ففي العهد السلجوقي بذلت جهود كثيرة لتصبح القلعة ملائمة للوظيفة الجديدة فقد أمر نور الدين بترميم القلعة ترميما" كاملا" شمل الأسوار والمساجد
وأقام فيها ميدان خيل وخضَره بالحشيش سمي بالميدان الأخضر ، وقصرا" سمي بقصر الذهب مكان قصر أقدم عهدا". وعندما تولى ابنه الملك
الصالح اسماعيل حسَن دفاعات المدخل ونظم الحديقة.
نالت القلعة الحلبية الكبيرة حظوة عند ملوك بني أيوب بلغت ذروتها في عهد السلطان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي افتتح فيها ورشة
عمل كي يجعل منشآتها المعمارية متناسقة رغبة في جعلها متلائمة مع متطلبات حكمه ، وبنى فيها عددا" من القصور وأنشأ صهاريج المياه وحماما"
وبستانا" وبنى المسجد الكبير بالقلعة وزوده بمنارة مربعة مرتفعة تؤدي إلى جانب وظيفتها الدينية وظيفة عسكرية،كما حصن القلعة وأوجد لها
مدخلا" جديدا" وحيدا" يحميه برجان قويان ، وثلاثة أبواب من الحديد الثخين ، وأمر بحفر الخندق المحيط بالقلعة وتصفيحها بالحجارة الهرقلية
(التحصينات المائلة )، كما أنشأ الجسر الحجري الثابت القائم على ثمانية قناطر وممرين سريين يصلان الحصن بخارج القلعة في الظروف
الحرجة.ويذكز بعض المؤرخين أنه في عام 616 هـ عندما مهدت أرض الخندق الملاصق للقلعة وجد فيه تسعة عشرة سبيكة من الذهب الإبريز
بلغت زنتها سبعة وتسعين رطلا" حلبيا".
وعندما آل الأمر إلى الملك الظاهر غازي وقعت عشرة أبراج من أبراج القلعة مع بدناتها عام 622 هـ، كما وقع الجسر الذي بناه والده الملك الظاهر
. فأعاد ترميمها وأقام إضافة لذلك دار بلغت أبعادها 30 × 30 ذراعا".
عندما استولى التتار عام 658هـ.على قلعة حلب خربوا أسوارها وجمع أبنيتها، وعندما عادوا مرة ثانية عام 659هـ إلى حلب بعد هزيمتهم في
موقعة عين جالوت بفلسطين خربوا هذه المرة القلعة خرابا" فاحشا" وأحرقوا مسجديها الصغير والكبير إحراقا" لا يمكن جبره, وظلت على هذه
الحال مدة طويلة حتى رممها السلطان الأشرف خليل بن السلطان قلاوون. ثم عادت فخربت على يد تيمورلنك، وبقيت كذلك إلى أن وليها الأمير
سيف الدين جكم نائبا" للسلطان الملك الناصر فرج بن السلطان برقوق. وعندما خلع طاعة سيده أمر بإعادة ترميم القلعة وألزم الناس بالعمل في
الخندق حيث عمل فيه علية القوم تشجيعا" للناس.وأقام البرجين المنفردين الجنوبي والشمالي والبرجين المحيطيين بباب القلعة الفوقاني والقصر الذي
فوقهما ولم يسقفه. ولما تسلطن المؤيد شيخ أمر بتسقيف قاعة العرش في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي. وظلت قلعة حلب موضع اهتمام
السلاطين المماليك حيث ثابروا على ترميم القلعة خاصة عندما أصبحت حلب مركزا" هاما" من مراكز الدفاع عن سلطنتهم ضد الدولة العثمانية ومن
أبرز هؤلاء السلاطين قايتباي وقانصوه الغوري.
واليكم بعض الصور