أسباب غزوة الخندق
منظر عام للمدينة المنورة قديمًا
بعد أن خرج يهود بني النضير من المدينة إلى خيبر، خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين، فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام من المسلمين، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين، وكونوا لهذا الغرض وفدًا يتكون من: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبي عمار.
[24]وخرج الوفد الذي يتكون من عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات
بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول محمدٍ، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش التي قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.
[13] ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب المشركين على الرسول محمدٍ ودعوته والمسلمين.
[13]وقد وافقت قريش على غزو المدينة لأنها شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي الذي ضربه عليها المسلمون، ووافقت غطفان طمعًا في خيرات المدينة وفي السلب والنهب.
[1] وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة: «إن دينكم خيرٌ من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه»،
[25] وفي ذلك نزلت الآيات:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا
.
[26]وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقيةً ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو:
- أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا: ستة آلاف مقاتل.
- أن يدفع اليهود لقبائل غطفان (مقابل ذلك) كل تمر خيبر لسنة واحدة.[27]
وفعلاً، خرجت من الجنوب قريش من كنانة في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان صخر بن حرب حتى نزلوا وادي العقيق، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمئة يقودهم سفيان بن عبد شمس، وخرجت من الشرق بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد، وقبائل غطفان: بنو فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة وهم أربعمئة يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع وهم أربعمئة يقودهم مسعر بن رخيلة، ونزلت غطفان بجانب أحد. ثم اتجهت هذه الأحزاب، وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيام، تجمَّعَ حول المدينة جيش يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل،
[13][28][29] أربعة آلاف من قريش وأحلافها كنانة، وستة آلاف من غطفان وأحلافها بني أسد وسليم
استعداد المسلمين للمعركة
ذهب جمهور أهل السير والمغازي إلى أن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة،
[30] وقيل إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري،
[31] وقيل إن هزيمة الأحزاب كانت يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة،
[32] وقيل إنها وقعت سنة أربع من الهجرة.
[33] ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وهو مخالف لما عليه الجمهور مِن جَعْل التاريخ من المحرم سنة الهجرة.
حفر الخندق
كانت استخبارات الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائهم؛ لذا فقد كانوا يتتبعون أخبار الأحزاب، ويرصدون تحركاتهم، ويتابعون حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكانوا على علم تام بكل ما يجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولاً، ثم غطفان ثانيًا.
[1]وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسولُ محمدٌ في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف.
[34] فأشار الصحابي سلمان الفارسي على الرسولِ محمدٍ بحفر خندق، قال سلمان: «يا رسول الله، إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟»، فأَعجب رأيُ سلمان المسلمين.
[29][35] وقال المهاجرون يوم الخندق: «سلمان منا»، وقالت الأنصار: «سلمان منا»، فقال الرسولُ محمدٌ: «سلمان منا أهل البيت».
[36]وعندما استقر الرأي بعد المشاورة على حفر الخندق، ذهب الرسولُ هو وبعضُ أصحابه لتحديد مكانه، واختار للمسلمين مكانًا تتوافر فيه الحمايةُ للجيش. فقد ركب الرسولُ محمدٌ فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله، فكان أعجبَ المنازل إليه أن يجعل "جبل سلع" خلف ظهره، ويخندق من "المذاد" إلى "ذباب" (أكمة صغيرة في المدينة يفصل بينها وبين جبل سلع ثنية الوداع) إلى "راتج" (حصن من حصون المدينة لأناس من اليهود)، وقد استفاد الرسولُ من مناعة جبل سلع (وهو أشهر جبال المدينة)
[37] في حماية ظهور الصحابة.
[1]رسم توضيحي يبين غزوة الخندق
كان اختيار تلك المواقع موفقًا؛ لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو، والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبةً أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت "حرة واقم" من جهة الشرق، و"حرة الوبرة" من جهة الغرب، تقومان مقام حصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، إذ كان بين الرسولِ محمدٍ وبني قريظة عهدٌ ألا يمالئوا عليه أحداً، ولا يناصروا عدوًا ضده.
[38]لقد كانت خطة الرسولِ محمدٍ في الخندق متطورةً ومتقدمةً بالنسبة للعرب،
[1] إذ لم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم، بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسولُ محمدٌ هو أولَ من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها.
[1]اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العملُ المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم، وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد. وكانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة الرسولِ محمدٍ في كل ليلة، وعلى رأسهم عباد بن بشر، وقد قسَّم الرسولُ أعمالَ حفر الخندق بين الصحابة، كل أربعين ذراعًا لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرون فيه.
[1]وقد شارك الرسولُ الصحابةَ جوعَهم، قال أبو طلحة: «شكونا إلى رسول الله
الجوعَ فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله
عن حجرين». كما شارك الرسولُ الصحابةَ في حفر الخندق، وكان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب، ويقول:
والله لولا الله مـا اهتدينا | | ولا تصـدقـنا ولا صـليـنا |
فأنزلن سكيـنـة عـلـيـنا | | وثبت الأقـدام إن لاقيـنا |
إن الأعادي قد بغوا علينا | | وإن أرادوا فتنة أبيـنا |
ثم يمد صوته بآخرها.
[39]وكان الصحابة يقولون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدًا | | على الإسلام ما بقينا أبدًا |
وقيل "على الجهاد"، والنبي يقول:
[40]اللهم إن الخير خير الآخرة | | فاغفر للأنصار والمهاجرة |
لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط بإنجاز العمل الذي كلفوا بإتمامه قبل وصول عدوهم.
[41]وكان الصحابة يستأذنون الرسولَ محمداً في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، فأنزل الله تعالى فيهم:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
.
[42] ومعنى الآية الكريمة: إذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لقضاء بعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأذَن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها، واستغفر لهم،
[43] فكان الرسولُ محمد بالخَيار، إن شاء أذن للمستأذن إذا رأى ذلك ضرورة له، ولم ير فيه مضرة على الجماعة، فكان يأذن أو يمنع حسب ما تقتضيه المصلحة ويقتضيه مقام الحال.
[44] كما قسم الرسولُ أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق.
[1]وواصل المسلمون عملهم في حفر الخندق، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل جيش الأحزاب إلى أسوار المدينة.
تأمين الذراري والنساء والصبيان
لما علم الرسولُ محمدٌ بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق، أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة، حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء،
[1] وقد فعل الرسولُ محمد ذلك لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال.
[46]إذن، وضع الرسولُ محمدٌ النساء والأطفال في حصن فارع قوي حمايةً لهم؛ لأن المسلمين كانوا في شغل عن حمايتهم، لمواجهتهم جيوش الأحزاب، فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع الرسول، أرسلت بنو قريظة يهوديًّا ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساءُ المسلمين وأطفالُهم، فأبصرته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول محمد، فأخذت عمودًا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعًا لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه يحميه الجيشُ الإسلاميُّ، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال