الاحتفال بمرور 11خخ عاما على ميلا
د (أبو الطيب ال
ولد أحمد بن الحسين فيالكوفة سنة 303ه/ 915م ونشأ فيها وتلقى تعليمه في مدرسة الأشراف، كما أمضى مدة فيبادية السماوة لمزيد من التحصيل الأدبي، يوم كانت البادية بمثابة الجامعة في هذهالأيام. ويقال إنه ادعى النبوة في تلك البادية فخرج عليه لؤلؤ أمير حمص نائبالإخشيدي، حاكم مصر، فاعتقله وسجنه. وبعد خروجه من السجن تنقل بين الكوفة وطبرياوبعلبك وإنطاكيا حتى انتهى إلى كنف سيف الدولة الحمداني، أمير حلب سنة 537ه.
اتهمه خصومه بالغرور وجنونالعظمة، وربما كانت هذه التهمة وراء اتهام أقسى هو ادعاء النبوة، كما ردد هذهالاتهامات كثير من دارسيه ضاربين عديدا من الأمثلة على ذلك. وهذا يبدو واضحا منذأن قال في صباه:
أي محل أرتقي أي عظيم أتقي؟
وكل ما قد خلق اللُّــ ــ ــ ــ ــهُ وما لم يخلقِ
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
أو قوله:
لا أقتري بلدا إلا على غرر ولا أمر بخلق غير مضطغنِ
ولا أعاشر من أملاكهم ملكا إلا أحق بضرب الرأس من وثنِ
كما يردد باعتزاز أمام سيفالدولة:
وما الدهرُ إلا من رواةقصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهرمنشدا
أجزني إذا أنشدتَ شعرافإنما بشعري أتاك المادحونمرددا
ودع كلَّ صوتٍ غير صوتيفإنني انا الطائر المحكي والآخر الصدى
لا شك أن شعر المتنبي ليسفي مستوى واحد من الجودة، كما هو شأن الشعراء جميعا، فهو في الفخر والمدح والهجاءيبدو أقوى وأجمل، أما في الرثاء فيبدو أضعف وإن كنا نستثني هنا تفجعه على جدتهوخولة أخت سيف الدولة الكبرى، وفيها لمحات تشي بأنه كان يحبها. يقول في جدته:
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحة فماتتسرورا بي فمتُّ بها غما
أحنُّ إلى الكأس التي شربتبها وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وحتى في جو الحزن الفاجع لاينسى أن يتباهى بنفسه زاهيا فوق الجميع، يقول:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم بهاأنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
يقولون لي: ما أنت في كلبلدةٍ؟ وما تبتغي؟ ما أبتغيجل أن يُسمى
كأن بنيهم عالمون بأنني جلوبٌ إليهم من معادنه اليتما
كذا أنا يا دنيا، فإن شئتفاذهبي ونفس زيدي في كرائهها قُدما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ولا حملتني مهجة تقبل الظلما
في سياق الحديث عن عالم أبيالطيب، لا بد من التعريج على "واحة المتنبي"، الموقع الإلكتروني الهامالذي أسسه منذ سنوات الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي وهو يشرف عليه بنفسه.والموقع يضم ديوان الشاعر ولمحة عن حياته، إضافة إلى 40 شرحا لقصائده كما وردت فيمدونات أهم دراسي شعره من ابن جني والمعري إلى اليازجي، مرورا بالواحدي والعُكبَريوالتَّبريزي وعشرات غيرهم. ولا شك أن عبقرية الشاعر وإحاطته بثقافة عصره ومعرفتهالواسعة بأحوال البادية وعلاقته الوثيقة بشيوخ القبائل المنتشرة فيها، هي التي يسرتله الخروج من حلب وسلطان سيف الدولة، كما ساعدته في الفرار من مصر والخلاص منسيطرة كافور. وهو لا يخفي إعجابه بالبادية وأبنائها وتقاليدها وإيثاره لها، وفيذلك يقول:
حسنُ الحضارة مجلوب بتطريةٍ وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوبِ
أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرفنبها مضغالكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام ماثلة أوراكهن صقيلاتِ العراقيبِ
ومحبة البادية لديه مقترنةبمعرفته الواسعة لها وألفته الطويلة معها، يقول في قصيدة الحمَّى:
ذرانــي والفـــلاةَ بــلا دلـيـــلٍ ووجهي والهجيرَ بلا لثامِ
عيونُ رواحلي إن حرت عيني وكلبغام رازحة بغامي
وهناك إشارات لماحة إلىثقافته البدوية كمعرفة غزارة المطر من رؤية عدد ومضات البرق أو ضآلة مخ النعام،كما في قوله:
فقــد أردُ المــياهَ بلادليلٍ سوى عدِّي لها برقَ الغمامِ
ولا أمسي لأهل البخل ضيفا وليس قِرى سوى مخ النعامِ
وكذلك إشارته إلى طبيعةالضب في الحيرة والعيش بلا ماء:
لقد لعب البين المشتُّ بهاوبي وزوَّدني في السير ما زوَّد الضبا
إن عبقرية المتنبي تمثلذروة التجلي الفني للحضارة العربية الإسلامية في أسمى توهجها ونضجها، مع أن الأمة كانتتعاني من جهل وانحطاط سياسي وتمزق قبلي وتناحر بين مختلف الحكام والأمراء الطارئينمن عرب وعجم، وقد عبر الشاعر عن ذلك بصور ساخرة:
ــ أغايةُ الدينِ أن تحفواشواربكم؟ يا أمةً ضحكت من جهلها الأممُ
ــ وإنما الناس بالملوك وما تُفلح عرب ملوكهم عجمُ
بكل أرضٍ وطئتها أمــمٌ تـُرعىبعبــدٍ كأنهم غــنـمُ
إن الشاعر نتاج موهبته بقدرما كان نتاج ثقافته وتفاعله مع عصره المضطرب، وإن تعالى عليه ولم يجد حوله أي سلوىأو عزاء:
بمَ التعلل؟ لا أهل ولاوطنُ ولا نديم ولا كأس ولا سكَنُ
أريد من زمني ذا أن يبلِّغني ما ليسيبلغه من نفسه الزمنُ
وقد بلغه أن رجالا نعوه فيمجلس سيف الدولة، وتثير غضبه هذه الإشاعة، فيقول في القصيدة ذاتها:
يا من نعيتُ على بعد بمجلسه كلبما زعم الناعون مرتهنُ
كم قد قتلت وكم قد متُّعندهم ثم انتفضت فزال القبر والكفنُ
قد كان شاهد موتي قبل قولهم جماعةثم ماتوا قبل من دفنوا
وعلينا أن نتذكر هنا أن ستةخلفاء عباسيين توالوا على حكم بغداد في حياته وأن ثلاثة منهم سُملت أعينهم.
لم تقتصر أهمية الشاعر علىاستيعابه تراث جميع من سبقوه وتميزه عنهم بالتجديد، لكنه كان مطلعا على الترجمات التيأنتجتها الحقبة العباسية في عصرها الذهبي. ومنذ زهوة صباه نراه يتحدى الموت فيسبيل الحياة الكريمة، وفي ذلك يقول:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعنِ القنا وخفق البنودِ
كما يدعو إلى المبادرةوالإقدام بلا تردد:
وإذا لم يكنْ من الموتِ بدٌّ فمن العجزِ أن تموتَ جبانا
ونتوقف لدى العديد من صورالتجديد التي ابتكرها الشاعر كما في قوله:
ـ إذا زلقت مشَّيتَها ببطونها كماتتمشَّى في الصعيد الأراقمُ
وقفتَ وما في الموت شكٌّلواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاح وثغرك باسمُ
ومن معانيه المبتكرة أيضانرى أمثلة لا تحصى، ومنها:
ــ طلبتَهم على الأمواهِ حتى حتىتخوَّفَ أن تفتِّشه السحابُ
ــ تكسَّبُ الشمسُ منكالنورَ طالعةً كما تكسَّبَ منها نورَه القمرُ
ــ لو الفلكُ الدوّارُأبغضتَ سعيه لعوَّقه شيءٌ عن الدورانِ
ــ كم قد قتلت وكم قد متعندكم ثم انتفضت فزال القبرُ والكفنُ
قد كان شاهد دفني قبل قولهم جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجريالرياح بما لا تشتهي السفن
ــ أعزُّ مكانٍ في الدنىسرج سابحٍ وخيرُ جليس في الزمان كتابُ
وللسرِّ مني موضعٌ لا يناله نديمٌ ولا يفضي إليه شرابُ
ــ ما يقبضُ الموتُ نفسا مننفوسهم إلا وفي يده من نتنها عودُ
إن للخيل والإبل مكانة خاصةومحبة عميقة لدى الشاعر، كما أن له معرفة واسعة بها في مثل قوله:
عيونُ رواحلي إن حرت عيني وكلبغام رازحةٍ بغامي
وكذلك تصويره للعلاقة الحميمةبين الفارس وجواده وعمق دلالتها التعبيرية:
وجردا مددنا بين آذانهاالقنا فبتن خفافا يتبعن العواليا
تماشى بأيدٍ كلما وافتالصفا نقشن بها صدر البزاة حوافيا
وتنظر من سود صوادق فيالدجى يرين بعيدات الشخوص كما هيا
وتنصب للجرس الخفي سوامعا يخلنمناجاة الضمير تناديا
والمتنبي ذاته يدرك مكانتهالمتفردة في الإبداع، وهو يتحدث عن عظمته أكثر من أي دارس، ولم يتردد عن الاعتدادبنفسه والإشادة بها حتى أمام كبار ممدوحيه وأهمهم سيف الدولة، فلنتأمل هذهالأبيات:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلىأدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ
أو قوله:
أطاعن خيلا من فوارسهاالدهرُ وحيدا.. وما قولي كذا ومعيالصبرُ
وأشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموتُ أم ذعر الذعرُ
وكم من جبالٍ جبتُ تشهدأنني الـْ . . . ـجبالُ وبحرٍ شاهدٍ أنني البحرُ
وفي ختام هذا الحديث أودالتوقف قليلا لدى عدد من أبيات الحكمة التي أجاد سبكها الشاعر حتى غدت على كللسان:
ــ أعز مكان في الدنا سرجسابح وخير جليس في الزمان كتابُ
ــ ما كل ما يمنى المرءُيدركه تجري الرياح بما لا تتهي السفنُ
ــ الرأي قبل شجاعةالشجعانِ هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كلَّ مكانِ
إن الشاعر ابن عصره، وهوعصر مختلف بكل المعاني والدلالات، وليس لنا أن نحاكمه وفق المعايير والقيم السائدةفي عصرنا. نراه مثلا عنصريا في نظرته إلى لون كافور، كما نراه مع العبودية، إذيقول:
لا تشترِ العبد إلا والعصامعه إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
لكن ألمه من عصره وأناسعصره جميعا، بكل ما عاناه من قهر ومرارة، قد بلغ مداه في العنف والكراهيةوالازدراء، يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روَّى رمحه غير راحمِ
وهو لا يخفي نظرتهالمتشائمة إلى طبيعة الإنسان المفطورة على الشر والعدوان، ويعبر عن ذلك بحكمةبالغة:
كلَّما أنبت الزمانُ قناةً ركَّب المرءُ في القناة سنانا
هذه لمحات عابرة اقتضتهامناسبة الندوة، لنكتفي بإطلالة ظرفية عاجلة على الشاعر وقطوف من قصائده. ولنا أننعود فنتأمل موقع "واحة المتنبي". إن لهذا الموقع أهمية بالغة، ولا بدلكل متصفح أن يخرج منه بفائدة أدبية،وربما كانت الفائدة أعظم لطلبة الجامعات الذين يمكنهم أن يكتبوا عشرات الرسائلالجامعية، استئناسا بما يوفره الموقع بكل بساطة، قراءة من خلال القصائد وشروحها،وصوتا بالاستماع إلى القصائد المسجلة بصوت الفنان عبد المجيد المجذوب، وكذلك منخلال صور النبات والحيوان المرافقة لورودها في قصائد الشاعر. كما أن هناك خطازمنيا يبين تاريخ كل قصيدة ومناسبتها وأهم الأعلام الذين التقاهم الشاعر. وأكثر منذلك، إن الشاعر محمد أحمد السويدي على وشك إنجاز 365 مقالة عن القرن الرابعالهجري، عصر المتنبي، بعنوان "يوميات دير العاقول"، وهو يتصور أن أحدهمعثر على مخطوطة مجهولة تسجل أحداث ذلك القرن وغرائبه ومآسيه.
متنبى)