تجارب غاندي النضالية: لقد بدأ غاندي حركته النضالية في جنوب إفريقيا، حيث عمل محاميا مدافعا عن حقوق العمال الهنود المهاجرين ضحايا التمييز العرقي، واستمر نضاله الإنساني ضد الظلم والقهر حتى استشهاده في وطنه الهند 1948. لقد ناضل غاندي ضد الحكم البريطاني في الهند، ومن أجل حقوق المنبوذين وضد الحروب الدامية بين المسلمين والهندوس مناديا بالحرية والسلام، واستطاع عبر نضاله هذا أن يسجل أعظم سيرة نضالية في العصر الحديث.
مسيرة الملح: تعد مسيرة الملح من أكثر التجارب النضالية أهمية وخطورة في العصر الحديث، لقد أصبحت هذه المسيرة ملحمة تاريخية من ملاحم النضال السلمي في العالم أجمع. ففي فبراير (شباط) 1930، أعلن حزب المؤتمر الهندي، بزعامة غاندي، العصيان المدني للحصول على الحكم الذاتي، عبر رفض دفع ضريبة الملح التي فرضها البريطانيون، والسير نحو مصنع الملح في داندي رفضا لاحتكار البريطانيين لصناعة الملح في البلاد، وتأكيدا لحق الهنود في القيام بتصنيع الملح بأنفسهم، بل واستعادة السيطرة على كل الصناعات الوطنية التي تحتكرها بريطانيا. وكتب غاندي، وكان يبلغ 61 من عمره في ذلك الحين، في جريدة «يانج انديان» (الهندي الشاب) الأسبوعية، التي كان أسسها قبل ذلك بسنة «ربما فكر البريطانيون في ظلم كل هندي بفرض ضريبة على الماء، ثم وجدوا أن ذلك مستحيلا. ولهذا فرضوا ضريبة على الملح، وبدؤوا ظلما قاسيا لمئات الملايين من الجوعى والضعفاء».
قبل المسيرة بشهر، أي في فبراير (شباط) 1930، أرسل غاندي خطابا إلى اللورد اروين، حاكم الهند البريطاني، قال فيه «صديقي العزيز، فكرت لسنوات كثيرة قبل أن أبدأ هذا العصيان المدني، لكني وجدت انه الطريق الوحيد حتى تبقى الهند كدولة، وحتى لا يموت الهنود من الجوع» (...)« إننا نريد الحرية نفسها التي يريد تشرشل من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها».
وفي الشهر التالي، وعندما لم يتسلم غاندي ردا، اجتمع حزب المؤتمر الهندي، وقرر أن موضوع الملح يؤثر على كل الهنود تقريبا، وانه سيساعد على جمع عدد كبير من الناس. وكانت بريطانيا، كلما واجهت مشاكل مالية وعجزت عن الصرف على حكومتها في الهند، خاصة وقت الحروب، تزيد الضرائب على الهنود، وبالتالي عندما واجهت صعوبات مالية في العشرينات أصدرت قانونا يخول لها احتكار صناعة وبيع الملح، وتضمن القانون عقوبة بالسجن ستة شهور على كل من يصنع ملحا، وعلى كل من يذهب إلى البحر لصناعة الملح.
وفي أول خطاب، يوم بداية المسيرة من احمد آباد، خطب غاندي في المسيرة فقال انه «نقسم بأننا إما سننال استقلال الهند، أو ندخل السجون. ونقسم أن استقلال الهند سيتحقق بدون عنف». وفي ثاني يوم للمسيرة، في قرية ذابان، قال إن «في الهند ثلاثة أرباع مليون قرية، وإذا تطوع عشرة رجال من كل قرية لصناعة الملح لقريتهم، لن نحتاج إلى ملح البريطانيين». وفي رابع يوم، في قرية فاسانا قال «أعاهدكم بأن يوما سيأتي يعتذر فيه البريطانيون لنا على ما فعلوا بنا».
وفي سادس يوم، في قرية بوريافي، قال: «لن نؤذى أي مسؤول بريطاني. نعم، يحكموننا، لكنهم ضيوفنا». وفي اليوم الخامس والعشرين، في قرية تارسالا، قال انه سيقضي «هذه الليلة في منزل أخ مسلم بناء على دعوته». وقال: «يجب ألا نعطي البريطانيين الفرصة ليقسمونا إلى مسلمين وهندوس». واستمرت هذه المسيرة السلمية خمسة وعشرين يوما (من 12 مارس حتى 6 أبريل )، وعندما وصلت المسيرة إلى البحر، نزل غاندي البحر ورفع صخورا مالحة، رمزا لتحدي قانون الملح، وبداية لسبع عشرة سنة من العصيان المدني ضد الاختلال البريطاني. وخطب غاندي إمام إتباعه بأن الهدف «ليس فقط إعلان العصيان المدني في الهند، ولكن، أيضا، إقناع الشعب البريطاني نفسه بالعصيان المدني بعد أن يتضح لهم الظلم الذي يلحق بالشعب الهندي. واستطاع في النهاية عبر هذا النضال المسالم إلى خضوع السلطات البريطانية وتوقيع معاهدة دلهي (28) .
الصيام حتى الموت :ولاحقا في عام 1932 أبدع غاندي طريقة جديدة في النضال أطلق عليها الصيام حتى الموت، حيث قرر غاندي البدء بصيام حتى الموت احتجاجا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى "اتفاقية بونا" التي قضت بزيادة عدد النواب "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.
وقد وجدت هذه المنهجية السلمية التي اعتمدها غاندي طريقها إلى كثير من بلدان العالم حيث تبناها كينغ في نضاله من أجل المساواة بين السود والبيض في وسائل النقل العام في عام 1955. وقد شكلت هذه الطريقة منهجية سياسية تعتمد المسالمة مبدأ أساسيا في الصراع من أجل المبادئ والحق والعدالة.
ومما لاشك فيه أن الرفض والتمرد وعدم وجود التعاون الجمعي يؤدي إلى اضطراب السلطة وخوفها. وعندما يشارك الشعب بقوة وحماسة في النشاط اللاعنفي السلمي فإن هذا يؤدي إلى شلل في الحياة العامة للبلاد. وماذا يمكن للسلطة أن تفعل إزاء أناس يتدافعون كالجحيم دون خوف من عصي رجال الأمن وهراواتهم، إزاء قوم ر يرهبون الموت أو السجون؟ والسلطة عندما تواجه جحافل المتدافعين إلى الموت من أجل حقوقهم تفقد صبرها وبرودة دمائها وتبدأ بتوظيف العنف المهين ولكنها في النهاية تضعف وتستكين وتخضع لإرادة الشعب الشاملة.
وعندما انفجر العنف بين الهندوس والمسلمين في «كلكتا»، وسالت الدماء، أعلن غاندي «الصيام». حتى إذا شارف على الموت، دخل عليه رجل مفجوع بولده وألقى إليه بقطعة خبز وقال له: كل حتى لا أكون سببا في موتك. تابع: هل تعلم ماذا فعلوا بابني؟ لقد قتلوه. وأنا قتلت من قتل ابني؟ نظر إليه غاندي برحمة وهو بالكاد يفتح عينيه من الإعياء وقال له: هل أدلك على ما هو أفضل مما فعلت فيأخذك إلى الجنة؟ عليك أن تأخذ الولد الذي قتلت أباه فتربيه على الدين الذي كان أبوه يريد أن ينشئه عليه. اغرورقت عينا الرجل بالدموع، وانكب على قدمي غاندي فقبلهما. وعندما توقفت مظاهر العنف في كلكتا، وهدأ الناس عن ذبح بعضهم بعضا، فقال غاندي لمن حوله: أعطوني كأسا من الليمون. بعدها بقليل، قرر غاندي أن يزور باكستان وهو يقول، "سوف أكشف عن الشيطان الموجود في قلوب الهندوس والمسلمين" (29).
العصيان المدني :في عام 1922 قاد حركة عصيان مدني اشترك فيها المسلمون والسيخ والهندوس فتصاعد الغضب الشعبي إلى ذروته، فحدث الصدام الدموي بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية، وعندها أعلن غاندي الصيام احتجاجا على سفك الدماء ووقوع القتل، فجاءه نهرو وهو لا يصدق، وسأله هل تريد منا إيقاف المظاهرات وقد عمت كل البلد وليس بيننا وبين طرد بريطانيا إلا شعرة؟ قال غاندي ليس المهم طرد بريطانيا بل طرد الشيطان من قلوبكم، وليس المهم أن يتظاهر الناس، بل المهم كيف يتظاهرون سلميا بدون قتل؟ واعتبر (نهرو) يومها أن هذه سذاجة كبرى في علم السياسة. ولكن غاندي طلب من (نهرو) فك المظاهرات واستمر في الصيام حتى توقفت المظاهرات، ثم طلب (غاندي) أن يعتذر المتظاهرون علنا لمركز الشرطة وطلب الصفح وتقديم التعويض عما حدث! (30). ومع ذلك وجهت ضده تهمة الإثارة ضد الدولة والعصيان واعتقل وسجن وعذب في المعتقلات البريطانية لأربعة سنوات متتالية.
لقد وهب الزعيم الهندي المهاتما غاندي حياته لنشر سياسة المقاومة السلمية أو اللاعنف واستمر على مدى أكثر من خمسين عاما يبشر بها، وفي سنوات حياته الأخيرة زاد اهتمامه بالدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة، وتألم لانفصال باكستان وحزن لأعمال العنف التي شهدتها كشمير، ودعا الهندوس إلى احترام حقوق المسلمين مما أثار حفيظة بعض متعصبيهم فأطلق أحدهم رصاصات قاتلة عليه أودت بحياته (31).
تأثير غاندي :شكل فكر غاندي وعقيدته النضالية مدرسة فلسفية كبرى في مفهوم التسامح والنضال السلمي في العالم أجمع. وهناك إجماع فكري عالمي على سمو وعظمة الفلسفة التي أوقدها غاندي في مجال النضال السلمي لتحرير النفوس والأوطان. لقد ترك تأثيرا ينقطع نظيره في ميدان الفكر والممارسة. ويعد كل من رومان رولاند Romain Rolland ولانزا ديل فاستو Lanza del Vasto (32) ولوي ماسينيون Louis Massignon من أوائل المفكرين الفرنسيين الذين تأثروا بعقيدة غاندي ومنهجه الإنساني. وكان لأفكاره قبيل الحرب العالمية الأولى دور كبير في توجيه نشاط جان جيينو Jean Giono الذي تعرض للاعتقال مع رفاقه على أثر تمرده المدني في عام 1939.
وقد عَرف مفهوم اللاعنف صعودا جديدا مميزا في عام 1955 في مونتغومري في ألاباما Montgomery en Alabama في الولايات المتحدة ألأمريكية على يد المفكر الإنساني والقس المعروف مارتن لوثر كينغ Martin Luther King حيث ناضل من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية للسود الأمريكيين في عصره. وقد لعب النجاح الكبير الذي حققه كينغ في مستوى الولايات المتحدة الأمريكية أن يعزز مسيرة كينغ وأنصاره في مسار النضال المسالم (اللاعنف)، وذلك على الرغم من معارضة قادة السود الذين انتصروا للعنف في نضالهم وصراعهم. ففي عام 1968 قتل كينغ في ممفيس Memphis على أثر مسيرة سلمية من أجل المطالبة بحقوق عمال النظافة في المدينة(33) .
واستمر تأثير منهج غاندي المسالم في عدد من بلدان العالم ولاسيما في فرنسا حيث اتقدت المعارضة الشعبية السلمية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر. وقد تأثر فاستو Lanza Del Vasto بغاندي فقاد مظاهرات مسالمة على صورة مسيرات صامتة، وإضرابات عن الطعام، وإقامة مخيمات للمعارضة السلمية ..الخ. وقد ظهرت حركات مسالمة ضد الخدمة العسكرية والضرائب وضد كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية في أوروبا وغيرها من البلدان الغربية .
وفي هذا السياق يشار إلى دانييلو دولسي Danielo Dolci الذي أسس عام 1952 حركة مسالمة (غير عنيفة) من أجل إرهاف الرأي في صقلية بأوضاع الأحياء الفقيرة في باليرم Palerme. وفي الهند قام تلميذ غاندي Vinoba Bhave بالمشاركة مع الشباب الهندي ورجال الدين بالنضال السلمي(غير العنيف) من أجل الحصول على ملكيات عقارية كبيرة لصالح الفلاحين الفقراء. وفي البرازيل قام هيلدر كاميرا Helder Camara بتأسيس رابطة من أجل العدالة والسلام في عام 1968 وكان هدفها تنمية الثقافة السلمية والأخلاقية عند الأغنياء والفقراء. وفي يوغسلافيا ظهرت صيغ متطورة ومتطرفة للنضال السلمي(الانتحار حرقا كما حدث لـ إيان بالاش Ian Palach ). وهذه الحركات النضالية المسالمة ظهرت في فيتنام وفي الولايات المتحدة الأمريكية ولاسيما ثورة الطلاب ضد الحرب على فيتنام وغير ذلك من أشكال النضال السلمي.
وباختصار يمكن القول بأن منهج غاندي للنضال السلمي قد تحول إلى أداة نضالية في متناول الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها من أجل العدالة والحق والمساواة. وهكذا فإن مفهوم اللاعنف قد سجل حضوره في التاريخ الإنساني قوة هائلة تستلهمها الشعوب المظلومة كطاقة ثورية من أجل العدالة والحرية. لقد أطلق غاندي قوة فكرية إنسانية هائلة لتحرير الشعوب وهذا ما حدا بـ رومان رولاند بأن يشبه فكر غاندي بتسونامي هائلة انطلقت من أعماق الشرق ولكنها لن تسقط إلا عندما تغمر العالم برمته(34) .لقد نجحت إستراتيجية اللاعنف في السنوات الأخيرة في شيلي وجنوب أفريقيا وبولونيا والمجر وبورما وأوكرانيا وجورجيا. وكذلك استعمل اللاعنف لإسقاط نظام الطاغية سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا. وقد مارست فلسفة اللاعنف تاريخيا دورا هائلا في نضال الشعوب ولاسيما عندما طُبقت ببراعة وذكاء ولم يكن أدل على قوتها إلا القمع الذي استخدمه الخصوم في مجابهتها ومواجهتها (35) .