محمد سياد بري
الرجل الوحيد الذي حكم الصومال حكما مطلقا من رأس كمبوني إلى زيلع لمدة واحد وعشرين عاما،!! الرجل الوحيد الذي أرسى قواعد الدولة في الصومال وسعى به إلى حظيرة المجتمع الدولي، الرجل الوحيد الذي حقق للصوماليين بعض الأمنيات، حيث كتب لهم لغتهم، وفتح لهم جامعة وطنية، وراعى ثقافتهم حتى صدر القاموس الصومالي، وغار على أرض الصومالي الغربي، وبنى لهم كل الطرق المعبدة والموانئ والمستشفيات والمصانع من الشمال إلى الجنوب، ، وأسس المحافظات الثمانية عشر، وجعل لكل عاصمة محافظة مطارا صغيرا،!! رجل ديكتاتور عنيد ومتجبِّر ومحب للسلطة، كان بإمكانه التنازل عن السلطة لصالح المعارضة ويحتوي على الخطر القبلي والحريق الهائل، لكنه ذهب بالصومال – أخيرا – إلى المزبلة، وعلى جرف هار، فانهار الصومال ولم يرجع.!!
ولد محمد سياد بري في منطقة تسمى شيلابو (shiilaabo) في الإقليم الصومالي الخاضع لإثيوبيا في أكتوبر عام 1919م وتوفي والداه عندما كان عمره عشر سنوات، وانتقل إلى مدينة لوق بجنوب الصومال، وفيها تلقي تعليمه الابتدائي، وانتقل بعد ذلك إلى مقديشو عاصمة البلاد، لمتابعة دراسته الثانوية.
انضم سياد في وقت لاحق إلى قوة الشرطة الاستعمارية الإيطالية حتى عام 1952م ، وبعد وقت قصير عندما أصبحت الصومال تحت الوصاية الإيطالية التحق بـمدرسة الشرطة (Carabinier) في إيطاليا لمدة عامين، ولدى عودته إلى الصومال بقي مع الجيش، وأصبح في نهاية المطاف نائب قائد الجيش الصومالي الجنرال داود، وعندما حصلت البلاد على استقلالها عام 1960م تدرب في روسيا، وبعد قضائه مع ضباط السوفييت في تدريبات مشتركة في أوائل 1960م بدا سياد بري مدافعا عن الشيوعية الماركسية ويطمح إلى حكومة ماركسية على النمط السوفيتي.
خطط سياد بري منذ عام 1968م لانقلاب على الحكومة المدنية، وكان يراقب الوضع عن كثب خلال فراغ السلطة الذي أعقب اغتيال الرئيس الصومالي الثاني عبد الرشيد شرمأركي، وقام بـانقلاب عسكري غير دموي في 21 أكتوبر 1969م، في اليوم التالى لجنازة شرمأركي، وأصبح رئيسا للمجلس الثوري الأعلى، والذي تحول لاحقا إلى الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي، وقد قامت الحكومة الجديدة في الصومال بإلقاء القبض على أعضاء في الحكومة المدنية والأحزاب السياسية المحظورة وإلغاء الدستور وتعليق مهامه وحل البرلمان ومؤسسة الرئاسة، وتمت إعادة تسمية البلاد باسم جمهورية الصومال الديمقراطية الشعبية .
كان من أهداف الثورة للنظام الثوري اعتماد نظام كتابة اللغة الصومالية، وبعد وقت قصير من وصوله الى السلطة ، جعل سياد بري اللغة الصومالية اللغة رسمية للبلاد وللتعليم ، وحدد البرنامج النصي لكتابة اللغة الصومالية بالحرف اللاتيني التي وضعه شري جامع أحمد كلغة مكتوبة، ومنذ ذلك الحين كان التعليم في جميع المدارس الحكومية باللغة الصومالية ، وفي عام 1972م أعطى الرئيس سياد جميع موظفي الحكومة مهلة لمدة ستة أشهر لتعلم القراءة والكتابة باللغة الصومالية وأدى هذا الى الانخفاض الخلاف المتزايد بين أولئك الذين يتكلمون اللغات الاستعمارية الإيطالية والإنجليزية، وفى الإجازات أرسل الأساتذة وطلاب المدارس إلى القرى والبادية لتعليم الناس كتابة اللغة الصومالية، وانخفضت نسبة الأمية فى البلاد بشكل كبير.
سعى الرئيس سياد بري أيضا إلى القضاء على أهمية ومكانة القبلية والعشائرية، وجعل الولاء والإخلاص للوطن وللثورة، وتم إصدار عدة قوانين تحظر القبلية، وتم اعتقال وسجن بعض الصوماليين بتهمة التعصب والعنصرية القبلية وتم جعلهم عبرة لباقى الشعب ليتركوا التعصب القبلي، غير أنه بعد حرب 1977م بدأت القبليَّة تطل برأسها من جديد وبسببها انهار الصومال.
وخلال السنوات الخمس الأولى دعمت حكومة سياد برى المزارع التعاونية، وأسست عدة مصانع الإنتاج الضخم مثل المطاحن ومرافق معالجة قصب السكر في جوهر وأفجوي ومصنعا لتجهيز اللحوم في كيسمايو، ومشاريع أخرى مثل مشروع مواجه التصحر الزراعى وغير ذلك إلا أن الاقتصاد الصومالي بدأ يتآكل شيئا فشيئا بسبب سوء التخطيط وسياسة القمع والمغامرة في الحرب مع إثيوبيا.
اتسمت فترة حكم الرئيس سياد بـري بالديكتاتورية القمعية بما في ذلك اضطهاد وسجن وتعذيب المعارضين السياسيين، ووصفت هيئة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 21 سنة التى حكمها سياد برى كانت واحدة من أسوأ سجلات لانتهاك حقوق الإنسان في أفريقيا، وكانت الحكومة العسكرية وجهاز الأمن (NSS) اعتقل معظم السياسيين والأعلام الصوماليين الذي ترجمنا لهم في كتابنا هذا مما يدل على ديكتاتورية الرجل، وعدم سماحه بحرية الرأي.
وفي سبتمبر 1970م وضعت الحكومة قانون الأمن الوطني رقم 54 الذي منح السلطة استراتيجية الأمن القومي لاعتقال واحتجاز أي شخص إلى أجل غير مسمى من أولئك الذين عبروا عن آراء تنتقد الحكومة دون أن تتم إحالتهم للمحاكمة، وأعطت الحكومة المزيد من السلطة لقوات الأمن القومي المعروفة بـ (NSS) لاعتقال أي شخص بدون مذكرة مشتبه في ارتكابه جريمة تنطوي على مخالفة القانون.
وفي عام 1975م أعلن الرئيس سياد بري قانون الأحوال الشخصية الذي يسوي فيه بين الرجل والمرأة في كل الحقوق من الميراث وغيره، وتهكَّم سياد بري عند إعلانه بهذه القوانين بالأحكام الشرعية واعتبر ذلك تخلُّفا، وسخر من آيات الميراث في سورة النساء، وعندئذ ثارت ثورة الشعب وقامت انتفاضة شعبية انطلقت من المساجد تقودها العلماء فما كان من النظام إلا أن قمع هذه الانتفاضة وزجَّ بالآلاف من الناس في السجون من غير تمييز، ثم حكم على عشرة من العلماء الصوماليين بالإعدام بحجة معارضتهم للقوانين الجديدة، وقد حكم عليه عدد من العلماء بالردة عن الإسلام، وقال لي شيخي محمد مؤمن هارون – رحمه الله – وكان سلفيا – ” ارتدَّ محمد سياد عن الإسلام في تلك الأيام لنقده الصريح لآية الميراث وآية الشعوب والقبائل وإعدامه للعلماء الذين أعلنوا أن ما أنكره سياد دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين، لكن لا أعلم هل تاب ورجع إلى الإسلام أم لا”، إهـ لكني لا أحبِّذ بإعلان ردَّته بعد موته، فحسابه على الله، ونستغفر له، فالله تواب غفور.
في عام 1977م اندلعت حرب تحرير الصومال الغربي، وعبرت القوات النظامية الصومالية الحدود وقاتلت جنبا إلى جنب مع قوات جبهة تحرير الصومال الغربي، وكان النصر فى البداية من نصيب الصومال، ونجحوا فى السيطرة 90% من أراضى الصومال الغربى، وانتشرت أفراح النصر فى الصومال لكن حدثت مفاجئة لم تكن متوقعة عندما تحول دعم الاتحاد السوفييتي من الصومال إلى إثيوبيا ومعه الدول الشيوعية مثل كوبا واليمن الجنوبي وليبيا وغيرها، واضطرت القوات الصومالية للانسحاب من كامل إقليم الصومال الغربي.
وفي عام 1978م وبعد انسحاب الجيش الصومالي مباشرة، دبَّر ملازم لقبه عرو (cirro) من القوات المسلحة انقلابا فاشلا، وكان العقيد عبد الله يوسف في منطقة غدو على علم به، وقد هرب إلى كينيا ومعه وحدة عسكرية صغيرة ثم طلب اللجوء السياسي في إثيوبيا، وأسس أول حزب معارض مسلح، وقد تأسست أيضا جبهة (SNM) التي كانت تقاتل في شمال الصومال، ووجدت دعما قويا من إثيوبيا، وقامت حرب عصابات في هرجيسا وبرعو، وردت الحكومة بمزيد من القمع، ومن أبرز تلك المأساة مجزرة برعو حيث قامت قوات موالية للحكومة بقتل مئات من المواطنين من بينهم زعماء القبائل في مايو 1988م وبعد أربعة أيام من هذه المذبحة تم نسف مدينة هرجيسا بالكامل من قبل الطيران الحربي الصومالي.
تعرض سياد بري لحادث انقلاب السيارة التي كانت تقلُّه عام 1986م، ونقل بعد ذلك إلى السعودية للعلاج، وقد اجتمعت الصلاحيات بعد ذلك في يد زوجته خديجة وأفراد أسرته التي كانت تتحكم في الجيش والشرطة، واتسع نطاق العمليات العسكرية التي قامت بها جبهات المعارضة الصومالية في أكثر من مكان، ومع أن سياد بري حاول في النهاية القيام ببعض الإصلاحات السياسية لاحتواء المعارضة وقام بتعيين عمر عرته غالب رئيسا للوزراء من الشمال، وأعلن العديد من الخطط الرامية إلى تحقيق إصلاحات واسعة في البلاد إلا أن الخطط لم تفلح كثيرا في التأثير على مسار الحرب الأهلية، ولم تفلح هذه الاجراءات في تهدئة الاضطرابات داخل مقديشو حيث اعتقل سياد بري معظم من وقع على البيان الأول (maanafisto) من السياسيين والأكاديميين وأعيان الشعب.
وبحلول عام 1991م توغلت المليشيات التابعة لجبهة (USC) العاصمة، وبدأت الحرب في أحياء وشوراع مقديشو، وأطاحت أخيرا بسياد بري مساء يوم 26 يناير 1991م، واتجه إلى الجنوب ومعه الدبابات والأسلحة الثقيلة.
بعد خروجه من مقديشو عاش سياد برى مؤقتا في إقليم غدو جنوب غرب الصومال حيث كانت تقع قاعدة قوية لعشيرته، ومن هناك أطلق حملة عسكرية قوية للعودة إلى السلطة، وحاول مرتين استعادة السيطرة على مقديشو، وكان في بعض الفترات في بيدو، واقتربت قواته إلى مقديشو في حرب الكرّ، ولكن فى مايو 1991م هزمه تحالف تابع للجنرال محمد فارح عيديد حتى كسمايو ولوق وبلد حواء، وأجبر بعدها إلى الرحيل عن الصومال ، وانتقل في البداية إلى نيروبي عاصمة كينيا، ولكن جماعات المعارضة هناك احتجت على وجوده وعارضت على دعم الحكومة الكينية له واستجابت حكومة نيروبى للضغوط والأعمال العدائية ، وانتقل بعد ذلك بأسبوعين إلى نيجيريا، وعاش سياد برى عدة سنوات في لاغوس عاصمة نيجيريا آنذاك.
توفي سياد بري في لاغوس في 2 يناير 1995م إثـر تعرضه لنوبية قلبية، ومات عن عمر يناهز 76 سنة، بعد أن حكم الصومال مدة 21 عاما، ونقلت جثمانه بعد ذلك إلى الصومال حيث دفن في مدينة غربهاري (garbahaarey) عاصمة إقليم غذو، رحمه الله رحمة واسعة.[