نقد السلطات، وكان لغة التواصل مع الأطفال، وفى (سياحتنامة) مصر لاطفوا به المرضى، وتغزل فيه علماء الحملة الفرنسية، إنه الأراجوز الذى يجذب الأطفال بصوته ومن قبله الكبار عندما ينتقد السلطات الثلاث السياسة، الدينية، الاجتماعية فى دورة الحياة من الميلاد حتى الوفاة.
لعب الأراجوز فى مصر دورا بارزا فى الحياة العامة، وظل يحتل لعدة قرون جانبا كبيرا من فكر كل عصر وهو أحد مصادر تشكيل الوعى، وهو فن عمره سبعة آلاف عام تلقفه جيل بعد آخر ولذلك فدائما ما تجده محفوظا فى الذاكرة المصرية، هذه العروسة الشعبية التى تعلق بها الكبار قبل الصغار والتى هى من أشهر الدمى الشعبية فى مصر رغم انحساره فى الآونة الأخيرة إلا أن شهرته ما زالت كما هى، فهو لدية القدرة على انتقاد الواقع فى إطار من التهكم والسخرية وعلى الرغم من المبالغة فى السخرية التى يعرضها إلا أنه سرعان ما يعيدنا إلى أرض الواقع.
وفى الملتقى الخامس للعروسة الشعبية ببيت السحيمى تقابلنا مع د.نبيل بهجت أستاذ المسرح بكلية الآداب جامعة حلوان ومؤسس فرقة (ومضة) أول فرقة لفن الأراجوز وخيال الظل، ومدير مركز الإبداع الفنى ببيت السحيمى، وفى حوارنا معه أكد لنا أن الملتقى الذى يحمل عنوان "مسرح فى كل مكان" يهدف إلى الدعوة لممارسة هذا الفن بشكل أوسع إذ أنه من المسارح التى يمكن تنفيذها فى أى مكان وبأقل التجهيزات، وفى محاولة لحماية التراث الشعبى وحفظ سجلات الذاكرة المصرية قدم الملتقى تحت عنوان "عروض تراثية " عددا من الأفلام التوثيقية عن عروض الأراجوز، وفى أطار ذلك قمنا بطرح بعض الأسئلة على د نبيل لفهم أصول الأراجوز وهدفه فى عرض قضاياه وأرتبط المصريين بالأراجوز فى أذهانهم وقدرته على الحياة فى وجود كل هذه الوسائل الحديثة.
- متى ظهر فن الأراجوز ؟
لا نستطيع تحديدا بداية ظهور فن الأراجوز، ولكن هناك الكثير من الشواهد التى تؤكد على وجود الأراجوز فى الحياة المصرية منذ زمن بعيد، حيث أشار الرحالة التركى (أولياجيلى) فى كتابه "سياحتنامة مصر" أنهم كانوا يلاطفون المرضى بدمى خشبية فتتحسن حالتهم، وقدم علماء الحملة الفرنسية وصفا مفصلا له وهذا يعنى وجود الأراجوز قبل ذلك الوقت. فمن المعروف أن الأراجوز أشتهر فى أواخر العصر المملوكى كوسيلة للتسلية فى شوارع المدينة، وهناك رأى يرجع كلمة أراجوز إلى اللغة الفرعونية وهى تعنى صانع الحكايات، وأخر يرجعها إلى (القرة قوز) التركية التى تعنى العين السوداء وآخرون يقولون أنها تحريف لقراقوش نسبة إلى بهاء الدين قراقوش، ولكن كل هذه أقاويل، فأمام الظاهرة الشعبية لا نستطيع أن نجزم بحقيقة لأنها تتحول فى حد ذاتها الى معنى ودلالة ومرجعية.
- متى تأسست فرقة ومضة ؟
تأسست ومضة فى 2003 م وبدأت أول عمل لها فى 2004 م، وللأسف أنه أثناء محاولتى لاستعادة هذه الفنون أكد لى جميع الاكاديمين أن هذه الظواهر انتهت من الوجود، حتى عم صابر المصرى شيخ لاعبى الأراجوز رفض فى البداية الانضمام إلى الورشة التى قمت بأعدادها وظل يراقبها من بعيد حتى تأكد من صدق محاولاتنا فأنضم إلينا وأعطانا كل خبرته وأستمر معنا إلى الآن.
و ما الدافع وراء تكوين ومضة ؟
رغبتى فى فهم العقلية المصرية ومصادر تكوينها وآليات اتخاذ القرار فيها دفعنى للاهتمام بالتراث الشعبى كأحد أهم إبداعاتها، وجاءت هذه التجربة فى أطار رصدى للواقع المصرى والتحولات التى تطرأ عليه، حيث كنت أسير فى شارع طلعت حرب ولاحظت أن دمى عرض الملابس ذات ملامح غربية وأن المصريين ليست لهم ملامح تعبر عنهم، والأخطر أن وقع نظرى على إعلان ضخم لفتاة أوروبية بملابس البحر كتب تحته شهرزاد، وتذكرت التحولات التى حدثت للشارع المصرى فى الملبس والمأكل والمشرب حيث تحولت المقاهى الشعبية إلى كافيهات، ومحلات الوجبات التقليدية إلى محلات للوجبات السريعة ومثلت هذه الملاحظات دافعا لبدء التجربة، فالدكتاتورية التى يمارسها هذا الأخر تستنسخ نفسها فى صور تلغى النموذج المحلى، وتكرس لثقافة العجز، التى ساعد على تكوينها العديد من العوامل الأخرى أهمها صورة الحاكم وعلاقته بالحكوميين، ومن ثم كان شعار تجربتى "أن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا" واتخذت ومضة أسما لفرقتى التى أسستها لأحياء هذه الفنون بمعنى بريق فى الظلام الدامس، لنلفت الأنظار إلى الإمكانيات التى يمتلكها مجتمعنا للنهوض مرة أخرى، فالثقافة اقتصاد ومصر لا تملك منتجا بحجم الثقافة.
هل الأراجوز يخاطب الأطفال فقط دون البالغين ؟
الأراجوز كدمية معنية بالأطفال ولكن لأنها موجودة فى أذهاننا منذ الصغر فنجد أن الكثير من البالغين يعشقون الأراجوز ويتابعونه متى رأوه، فالأراجوز فموضوعاته لا تخاطب الصغار فقط، وإنما تدور حول دورة الحياة من الميلاد حتى الوفاة، فهو يتناول داخل موضوعاته نقد للسلطات الثلاث السياسية والدينية والاجتماعية، وأعتقد أن تعالى صيحات الضحك اليوم تؤكد على عشق الكبار للأراجوز قبل الصغار، فالأراجوز هو النموذج الأمثل للشخصية المصرية.
كيف يستطيع الأراجوز أن يجذب انتباه الأطفال مع وجود التكنولوجيا التى نعيشها ؟
الأراجوز يستطيع أن يقوم بالتواصل المباشر مع الأطفال وهو ما يكون الطفل فى حاجة إليه ولا تستطيع التكنولوجيا الحديثة القيام به لأنها تعتمد على الاستقبال والإرسال عن بعد.
- ما أهم القضايا التى يقوم الأراجوز بعرضها ؟
ارتبطت عروض الأراجوز بشكل أساسى بالشارع كما أن الرافد الأساسى المشكل لعقلية الفنان المؤدى هو ممارسات الحياة، ومن ثم فأن دورة الحياة هى أحد أهم الروافد التى شكلت موضوعات عروض الأراجوز وكانت من العناصر الأساسية لجذب جمهور الشارع، فالموضوعات المطروحة تشكل جزء من حياته، وأشهر الموضوعات عند الجماهير وأولها استدعاء عند فنان الأراجوز علاقته بزوجته وصراعهما الشهير فى نمرة «الأراجوز ومراته» فالعلاقات الأسرية من أكثر العلاقات بروزا لدى الجمهور والفنان المؤدى. وتتميز نمر الأراجوز وهم 19 نمرة ببساطة الحدث فنرى نمرة "زواج بالنبوت" التى تدور حول رغبة الأراجوز فى الزواج ومحاولة والد العروس خداعة.
ونمرة "الست اللى بتولد" وتدور حول ولادة فلفل الذى يطلب الزواج فور ولادته، ونمرة " الأراجوز ومرآته" و"الأراجوز ومرآته السودة" وتدور كل منهما حول المشكلات الزوجية. ونمرة "الأستاذ" وتدور حول تعليم الأستاذ للأراجوز محاولا أن يفرض سيطرته وهو ما يرفضه الأراجوز مستخدما عصاه فى الانتقام لنفسه.
ونمرة "البربرى" والتى تدور حول طلب البربرى العمل ونومه فور حصوله عليه، ونمرة "الشحات" التى تدور حول تسول الشحاذ من الأراجوز، ونمرة "كلب السرايا" التى تدور حول لعب الأراجوز مع الكلب ثم عضه أياه ورفض الطبيب معالجته إلا بالمال.
ونمرة "فنان بالعافية" التى تدور حول أدعاء أحد الأشخاص الفن، ونمرة "الحانوتى النصاب" وهى تدور حول مادية الحانوتى وخداع الأراجوز والملاغى له.
ونمرة "حرامى الشنطة" وتدور حول عمل الأراجوز لدى الخواجة وسرقته، ونمرة "حمودة وأخوه" وتدور حول ضرب الأراجوز لأخو حمودة ثم لحمودة، ونمرة "جر شكل" وتدور حول منازلات قوليه بين الأراجوز والفتوة، ونمرة "الفتوة الغلباوى" وتدور حول اعتراض الفتوة على أقامة فرح عديله دون أذنه، ويدخل فى منازلات مع الأراجوز، ونمرة "أراجوز فى الجيش" وتدور حول تدريبات الأراجوز فى الجيش.
و نمرة " حرب بور سعيد " تدور حول بطولات الفدائى الأراجوز فى قتل الأعداء، ونمرة " العفريت " وتدور حول قتل العفريت لزوجة الأراجوز وخادمه والشحات ثم الأراجوز.
ومن أهم الموضوعات التى حرص فنان الأراجوز على تجسيدها علاقته بالآخر الاجنبى، الذى تنوع بين المستعمر كما فى نمرة " حرب اليهود " وتدور حول مواجهة الأراجوز هذا الآخر النخبوى الذى فرض سلطته، فالأراجوز يميل إلى الحلول الجذرية فهو يقوم بطرد وإقصاء هذه العناصر الفاسدة من المجتمع.
وأعتمد عرض "ملك ولا أراجوز" على استجابات الجمهور التى تحدد مجرى العرض، ويبدأ العرض بقمع الجمهور والممثلين وتوجيه اللوم لهم على عدم القدرة على الفعل وتحذيرهم من الحديث، وتدور الأحداث حول الملك الذى أصابه الملل وفشلت كل محاولات الترويح عنه، ويعرض عليه وزيره أن يقوم الملك بنفسه بتمثيل بعض الأدوار.
وتسعى عروضنا إلى بناء جمهور فاعل وهو أحد أولويات العروض الشعبية، وفى هذا الصدد قمنا بتجربة "مسرح الجمهور" والتى شارك فيها خمسين فرد من القارات الخمس.
- ما هى طموحاتك لفن الأراجوز ؟
حلمى أن يتحول هذا الفن لمصادر اقتصاد ليعمل به الكثير من الشباب وأن يكون هناك أكثر من فرقة تعمل فيه مجال فن الأراجوز لأن التنافس هو البيئة الجديدة لخلق الإبداع الجيد، وأن يكون فى استثمار للثقافة المصرية، فإذا تتبعنا إيرادات فيلم (آفاتار) فقد حقق 8 مليار دولار، فالثقافة منتج مهم يدر الكثير من الدخل، ويحمل رسائل وقيم.
- من أين يأتى صوت الأراجوز؟
من (الأمانة) التى هى عبارة عن قطعتين من الأستانلس توضع فى نهاية الزور وعلى أول مكان يخرج منه الهواء، وصعوبتها أنها توضع فى مكان خطر بالفم، وأعتقد أن عم صابر المصرى شيخ لاعبى الأراجوز وهو يستحق هذا اللقب لأنه مع كبر سنه إلا انه ما زال يعمل بهذا الفن حريصا عليه رغم صعوبته خاصة مع الكبر فهو يمارس هذا الفن منذ أربعين سنة.
ما هى مواصفات المؤدى ؟
لابد أن يتصف بسرعة البديهة فهو يغنى ويحرك الدمى ويمثل فى نفس الوقت وأن يكون ذا صوت حسن وقدرة على التحكم فى أداء اللهجات المختلفة وتلوين الصوت واستحضار نبرات صوتية مختلفة، وأن يكون لدية قدرة فائقة على الارتجال والخلق الابداعى المتجدد وتحويل أبسط الإمكانيات إلى أدوات للمتعة والتواصل المستمر مع الجمهور.
ولا ننسى أهمية دور مساعده (الملاغى) الذى يشاركه بالعزف ويردد خلف الأراجوز الاغانى المختلفة ويستحث الجمهور على الغناء، كما يشاركه الحوار مكررا بعض الكلمات التى تبدو غير واضحة بفعل الأمانة التى يرتديها المؤدى، ويساهم فى خلق المواقف المضحكة سواء من خلال الكوميديا اللفظية أو الحركية.
- هل الأراجوز مازال بشكله القديم؟
أكيد لابد أن يظل بشكله القديم، فشكل الدمى هى نفسها التى عرفناها منذ الصغر، فالتراث لا يمكن أن يتغير بل يتم توظيفه عن طريق دخوله فى أعمال مختلفة كالمسرحية وأعادة تشكيله وتقديمه مرة أخرى بشكل جديد.
- كيف تعمل على نشر ثقافة الأراجوز؟
لقد قمنا بتقديم عروض كثيرة فى أماكن مختلفة فأتذكر أن الفرقة قدمت 30 ليلة فى الافتتاح التجريبى لحديقة الأزهر، ولم تكن هذه المرة الأولى التى نقدم فيها عروضنا فى أماكن مفتوحة، حيث قمنا بتقديم 45 عرضا فى شوارع القاهرة لأبرهن على حيوية هذه الفنون حيث كانت تجذب الجماهير بشكل تلقائى، كما شارك العرض فى مهرجان "ابن عروس" بتونس وحصل لاعب الأراجوز عم صابر المصرى على جائزة أفضل ممثل وحصل العرض على جائزة أفضل عمل للمحافظة على التراث، وأقمنا المهرجان الأول للأراجوز وخيال الظل مع اليونسكو ووزارة الثقافة المصرية فى مركز الهناجر، ثم الملتقى الأول للعروسة الشعبية بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية بقصر الأمير طاز والذى قدمنا فيه عرض "أراجوز دوت كوم".
ثم بدأ التخطيط بعد ذلك للأنتقال بهذا الفن لخطوة أكبر، حيث تم الاتفاق مع مسرح (BTE) بالولايات المتحدة الأمريكية على أقامة عرض مشترك يجوب الولايات المتحدة، وذلك بعد أن شاهدت المخرجة (لورى مكانس) أحد عروض الفرقة.
وعادت الفرقة من رحلتها وفتحت أبوابها مرة أخرى كمدرسة يدخلها راغبى تعلم هذه الفنون الشعبية، وما هو جدير بالذكر أن الفرقة أقامت ما يزيد عن 50 ورشة تدريب لتعليم هذا اللون من الفنون فى مصر، وأمريكا، تونس، الأردن، بالتعاون مع جهات ومراكز ثقافية مختلفة استفاد منها فنانين مصريين وأجانب، كذلك شاركت فى العيد من المسلسلات التليفزيونية وبعض الأعمال لكبار المخرجين وأنتجت الفرق عددا من العروض من تأليفى وأخراجى، وقمنا فى العام الماضى بتقديم مسلسل "ظاظا وجرجير" الذى تابعه الكثير من الأطفال وأيضا مسرحية "شغل أراجوزات".
وأنتجت بالتعاون مع مجموعة من الفنانين الايطاليين عروض جحا المصرى، جحا الايطالى، جحا والحياة، مغامرات جحا، والسندباد.
وشاركنا فى العديد من المهرجانات والاحتفاليات الثقافية حول العالم وحصلنا على العيد من الجوائز، وحرصا على توثيق العرائس الشعبية المصرية والتى لاحظت استبدال لاعبى الأراجوز الدمى الأصلية المصنوعة من الخشب بأخرى بلاستيكية، قمت بجمع النماذج الأصلية وأعدتها للحياة مرة أخرى وقمنا بتنظيم عمل ثمانية معارض للعروسة الشعبية ثلاثة منها بأمريكا، وواحد باسطنبول، وأربعة فى مصر، كما أنتجنا 19 فيلما بعنوان "نمر الأراجوز" لتوثيق نمر الأراجوز أيمانا منى بأن التوثيق أحد آليات الاستمرار والانتشار.