عرفتهُ منذ زمنٍ طويل ، عندما كان يزورنا في كل عام .. كان شاباً .. وسيم الطلعة ، أنيق النظر ، له هيبة كبيرة ووقار .. في ابتسامته حرارة وصدق ، وفي قلبه دفء كبير وعنفوان أحببتهُ وقد كنتُ صغيرة ، وكان عمره تسع وعشرون .. أو ثلاثون .. لستُ أدري ! لكنني تعلقتُ به بشدّة ، وصرت أرقب قدومه كلّ عام .. وعجبتُ له كيف يحافظُ على هذا الشباب الدائم ، وأنا أكبر مع الأيام وأشيخ وأهرم ويواريني التراب ، ويبقى هو ضيفُ كلِّ الفصول يأتينا في موعده كلما لاح الهلال ! وقعت هيبته في قلبي مذ رأيتُ الناس يستقبلونه بحفاوةٍ وحبّ كبيرين ، ويجتمعون في المساجد كلما لاح .. أعجبتُ بتواضعه وهو يمرُّ بهم بيتاً بيتاً ويصافحهم فرداً فرداً ، ويبتسمون .. وأبكي ...... حبّاً وشوقاً وحنيناً .. وأهمسُ له بصمتٍ ....... لقد طال الانتظار ... على شرف قدومه كانت تقام الموائد العامرة ، ويأكل الأغنياء بجوار الفقراء ، ويسري في المكان جوّ حميمٌ من ألفة ، يجعلني أشمخ معتزّة بما يحدث .. فهذا حدث يبدو لي وكأنه خارج من نطاق الزمان ، والجشع هو حلّة يرتديها الأغنياء في العالم ، والطمع يرتديه الفقراء ! وتحلو اللقاءات في المساجد ، لا يتغيب فرد من أسرة ، وتقام الصلوات ، وتغسل الذنوب ، ويكبر القلبُ بما يلفّه من ضياء .. وأبقى معه ، أتعقب تواجده لحظه بلحظة ، وخطوة بخطوة ، أحاول ألا أتركهُ لحظة .. وأن أسكبَ في روحي من عطايا الرحمن عند تواجده الشيء الكثير أصوم في النهار عن كل ما يعكرني ، حتى الطعام وحتى الشراب .. وأقوم الليل خاشعة .. يرافقني نسيم عطره ، وآياتُ القرآن .. ومن جمال حضوره أنه لا يغادر قبل توزيع الجوائز ، أغمضُ عينيّ ، أتخيّلُ جائزتي ، أتمناها جنّة ، أو قصراً أو بستاناً أو فردوساً .. وأفتحهما من جديد ، لأجد قلبي يدعو ، وجوارحي تؤمّن .. وروحي تعلو وتعلو ، حتى تنتشي بجمال اللقاء .. لحظاتُ الوداع كم تحزنني ، وكم يبكيني الرحيل .. أرجوه بحبّ أن يبقى قليلاً إلى جانبي .. يرتجف قلبي ألماً ، حين يغادرني بصمت ، وألوّح أنا بالوداع .. أتأملُ ملامحهُ المضيئة وسؤالٌ يحتلني .. ترى .. هل سنلتقي في يوم ؟ وهل تعودُ إليّ مشتاقاً يا ضيف كلّ الفصول ؟ أم أنكَ ستأتي إلى هنا فلا تجدني ... عندها سيكون قد فات الأوان !