نعمة الرضا:
السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له , وصبر لمواقع القضاء خيره وشره , وأحس وذاق طعم الإيمان بربه , كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : \" ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. أخرجه أحمد 1/208(1778) و\"مسلم\" 1/46(60) والتِّرْمِذِيّ\" 2623 .
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ قَالَ : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
- زاد في رواية أحمد بن سُلَيْمَان : قَالَ : فَفَرِحْتُ بذَلِكَ وَسُررْتُ به. أخرجه \"أبو داود\" 1529 و\"النَّسائي\" ، في \"عمل اليوم والليلة\" 5 .
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان .
إن الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ - سلبًا وإيجابًا - بالرضا بالدين وجودًا وعدما قال تعالى: \" وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) سورة (آل عمران).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن , وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة .
والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس , وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب .
قال تعالى : {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (84) سورة طـه.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (5) سورة الضحى.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ:اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا ، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا ، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. أخرجه أحمد 1/391(3709) وابن ماجة( 4109) و\"التِّرمِذي\" 2377 .
ولقد ضرب اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة والرضا , فعَنْ مَالِكِ الدَّارِ، أن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، أَخَذَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ، فَقَالَ لِلْغُلامِ:\"اذْهَبْ بِهِمْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَّهُ سَاعَةً فِي الْبَيْتِ، سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَذَهَبَ بِهَا الْغُلامُ إِلَيْهِ\"، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلانٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا، فَرَجَعَ الْغُلامُ وَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ، فَقَالَ:\"اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ وَتَلَّهُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ\"، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذَا فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَصَلَهُ، تَعَال ِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، وَاذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، فَاطَّلَعَتِ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَقَالَتْ: نَحْنُ وَاللَّهِ مَسَاكِينُ، فَأَعْطِنَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلا دِينَارَانِ، فَدَحَا بِهِمَا إِلَيْهَا، وَرَجَعَ الْغُلامُ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ:\"إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ\" . الطبراني : المعجم الكبير 14 / 424 , الزهد لابن المبارك 179 , وأبو نعيم في \" الحلية \" 1 / 237.
وجاء في صفة الصفوة أن عمر بعث عميرا عاملا على حمص فمكث حولا لا يأتيه خبره ولم يبعث له شيئا لبيت مال المسلمين ، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا . فأخذ عمير - لما وصله كتاب عمر - جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق أداوته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتى قدم المدينة فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه فدخل على عمر فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله قال عمر : ما شأنك ؟ قال : ما تراني صحيح البدن ظاهر الدم ، معي الدنيا أجرها بقرونها ؟ قال عمر : وما معك ؟ وظن عمر أنه جاءه بمال . قال : معي جرابي أجعل فيه زادي ، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي ، ومعي عنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض لي ، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي . وسأله عمر عن سيرته في قومه وعن الفيء فأخبره ، فحمد فعله فيهم ثم قال :جددوا لعمير عهدا .ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/698.
وها هو الصحابي الجليل عمران بن حصين الذي شارك مع النبي في الغزوات، وإذ به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشللٍ يقعده تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ , ويقول : إن أحبّ الأشياء إلى نفسي، أحبها إلى الله\"..!!.
وهذه السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قُتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى ما رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: \"خلِّ سبيلها\"، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت .
وهذا هو التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه قد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟فدخلوا عليه، فقال: \"اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي \" ..
قال الشاعر:
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوقالتراب تراب
فالمؤمن يدرك تماما أن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم يُنَادِى مُنَادٍ فيها : \" إِنَّ لَكُمْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أخرجه أحمد 2/319(8241) و \"الدارِمِي\" 2824 و\"مسلم\" 8/148(7259) و\"التِّرمِذي\" 3246 .
يقول الشاعر: محمد مصطفى حمام :
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لي * * * ويُلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النا سِ * * * لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه *** لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا
ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان *** أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد * * * بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإيــ * * * ـمان بالله نـاصـراً ووكـيلا
عـلـمـتني الحياةُ أنَّ لها طعـ* * * ـمَين، مُـراً، وسائغاً معسولا
فـتـعـوَّدتُ حـالَـتَـيْها قريراً *** وألـفـتُ الـتـغـيير والتبديلا
فـذلـيـلٌ بالأمس صار عزيزاً *** وعـزيـزٌ بـالأمس صار ذليلا
ولـقـد يـنـهض العليلُ سليماً *** ولـقـد يـسـقـطُ السليمُ عليلا
عـلـمـتني الحياة أني إن عشـ* * *ـتُ لـنفسي أعِشْ حقيراً هزيلا
عـلـمـتـنـي الحياةُ أنيَ مهما *** أتـعـلَّـمْ فـلا أزالُ جَهولا
فتذكر – أيها الحبيب - قول النبي صلى الله عليه وسلم : \" عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. أخرجه ابن ماجة (4031) والتِّرْمِذِيّ\" 2396 .