أيُّها المؤمنون: مع قوة الانفجار المعرفي، والتقدُّم الصِّناعي، الذي أصبح الإنسان به مخدومًا، وفي الوقت ذاته قلقًا مُضطربًا، نَحتاجُ إلى تَأَمُّلِ قَوْلِه - تعالى -: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
خدمة يقدمها التطوُّر للإنسان في مآكله وملابسه ومراكبه، في حره وفي قره. وسائل للاتصال، وأخرى في سرعة الانتقال، يسّرت الحصول على المعرفة، وسهلت وصول المعلومة؛ فبينما كان طالب العلم سابقًا يقطع مئات الأميال؛ من أجل أن يحصل على حديث واحد، أصبح الآن يفتح الكتاب فتقع عينه على ما يريد، وأسهل من ذلك: يضغط على أزرار الحاسوب فإذا ما يريد أمامه.
وبينما كان الحاج يخرج إلى الحج من رمضان فلا يصل إلا وقت الحج مع الجِدِّ في السير، وقد يصل وربما لا يصل، وإذا أنهى حَجَّهُ قد يعود وربما لا يعود؛ أصبح في مقدور المسلم أن يصل مكة ويرجع منها في بضع ساعات!!
من الذي علم الإنسان هذه العلوم؟ ومن الذي سَهَّلَ له طُرُقَ الوصول إليها واكتشافِها واختراعِها؟ إنه ربُّ العالمين، خالق الناس أجمعين.
يجب أن يُنْسَبَ الفضلُ إلى أهله، وربنا هو أهل الفضل والجود: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، كم نحتاج إلى تذاكر نعم الله علينا، وتدارس النُّصوص التي تدل على علمه وإحاطته وقدرته، مع التذكير بأنَّ هذه المكتشفات والمخترعات التي تبهر العقول هي من خلق الله - تعالى -، خلقها، ثم سخَّرها للبشر: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
ويتأكَّدُ التذكير بذلك؛ لأنَّ فريقًا مِنَ النَّاس بهرهم ذلك التقدمُ الهائل في العلوم التجريبية، وكثرةُ المخترعاتِ والمكتشفاتِ، حتى نَسُوا أن يَنْسبوا الفضل لصاحب الفضل - تعالى وتقدس -، فسجَّلوا إعجابهم وإكبارهم للبشر الضعفاء، من الباحثين والمخترعين الذين: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 3]، ونسوا الذي: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] سواء كان هذا النسيان والغفلة عن قصد أم كان غير مقصود؛ لكنَّ القاصد منهم يعلن إلحاده وجحوده؛ كما قال الله عن أمثالهم: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83].
هذا أحدُ ملاحدة العرب يسجل إلحاده بالحرف العربي عندما بهرته تجربة من التجارب في علم الوراثة والجينيات، يقول ـ عليه من الله ما يستحق ـ: "ومعناه أنَّ العلماء بدؤوا بِتَحَدِّي السَّماءِ، وَمَعْنَى هَذا أيْضًا أنَّ الإنسانَ لم يعد له ربٌّ يؤمن به، ويركع في محرابه، ويصلي له ويطلب رضاه وغفرانه؛ لأن المخترعات العلمية أخذت مكان الرب"[1] ا.هـ تعالى الله عن قوله وقول الظالمين علوًّا كبيرًا. مقالةٌ تطفح بالكفر والإلحاد، كيف استطاع قائلُها أن يقولها لولا ما في قلبه من المرض والزيغ.
إن هذه المقولة ومثيلاتها تجسدُ لنا حجم التقديس والتعظيم لتلك العلوم التجريبية مع أنها تصيب وتخطئ؛ بل لا يمكن أن تصيب إلا بعد الخطأ، فما هي بالنسبة لعلم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا، والذي تنزه عن العبث والخطأ.
إن فريقًا من قومنا غطى انبهارهم بحضارة الغرب عقولهم؛ حتى إنهم يريدون منا التسليم والانقياد لكل ما يخرج من المعامل والمختبرات، والسير خلفه على أنه سائبةٌ لا ينبغي التعرُّضُ لها ولا توجيهها، فضلاً عن نقدها ولومها، وهذا يدعونا إلى إلقاء نظرة حول حقيقة مسيرة الإنسان العلمية، التي يسعى فيها لتحقيق ما يراه مصلحته ورفاهيته، فالإنسان في لهاثه العلمي إنما هو في سباق لاكتشاف جهله، جهلِه بعالم المجهول - مجهول الزمان والمكان والكم والكيف - الذي يطرقه فتنكشفُ له حقائقُ كانت حاضرةً ولا يشاهدُها، جهله الذي يراه - عندما يكتشف مخاطرَ ومضاعفات وخطأ ما ظنه سابقًا - إنجازاتٍ علميةً هائلة، والتي كانت غائبةً عنه حينما: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24][2].
يحاول هذا الإنسان اختراق هذا المجهول عن طريق التجربة الحسية، والحفريات والتوثيق، والتأمُّل والتحليل، والاستقراء والإحصاء، وأحيانًا عن طريق الحدس والتوهم، والمسلم يستفيد مما صلح من ذلك كله إضافة إلى وسيلة لا ينتفع بها غيرُه، ألا وهي العلمُ بالغيب الذي يخبر به الشرع، فإذا كان الأمر كذلك فإن المسلم لا يحجر على العلم الإنساني؛ ولكنه في ذات الوقت لا ينساق خلفه انسياقًا أعمى؛ بل يضعه في موضعه الصحيح: وهو أن نسبته ـ مهما بلغ ـ إلى علم الله قليلة: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، {لا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216] .
بل حتى نفسُ الإنسان وجسدُه وروُحه وما يختلج في صدره الله أعلم به: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: 54]، { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } [الإسراء: 25].
إن مصدر هذا العلم من الله - تعالى – {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]، {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4].
إنَّ الملائكة وهم أعلم وأقدر من البشر تأدَّبوا مع الله - تعالى - فخاطبوه قائلين {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
والأنبياء والمرسلون عندهم من العلم اليقيني ما ليس عند سائر البشر، ومع ذلك كانوا متأدِّبينَ مع الله - تعالى - إذ نسبوا علومهم إليه، هذا هود - عليه السلام - لما قال له قومه: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 22 – 23]، وهذا عيسى - عليه السلام - لمَّا سأله الله - تعالى -: "هل أمر الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دونه قال - عليه السلام-: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]، وموسى - عليه السلام - لما سأله فِرْعَوْنُ عن مصير القرون الأولى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52]، وشعيب - عليه السلام - قال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]، وإبراهيم - عليه السلام - قال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لما سأله المشركون عن وقت النشر والحشر والحساب، أمره الله أن يقول: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الملك: 26].
وكانت طريقةُ الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - نسبة علومهم إلى الله - تعالى -، هذا يوسفُ - عليه السلام - نسب قدرته على تعبير الرؤى والعلم بها إلى تعليم الله له: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] ولا ينسبون ما يعلمون إلى أنفسهم أدبًا مع الله - تعالى - فسليمان - عليه السلام - وهو يعلم لغة الطير ما قال إني علمتها من نفسي بل قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } [النمل: 16].
إن نسبة العلوم إلى البشر، وتحدي الله - عز وجل - بهذه العلوم هي طريقة المشركين وفي مقدِّمَتِهِمْ قارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
ويبقى العلم الحقيقي الشامل الذي لا يُنقض ولا تشوبه آفةُ الجهل السابقِ، أو الآني، أو اللاحق هو علم الله - تعالى -: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [الرعد: 9]، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ولكنَّ الإنسان عندما يغفل عن حقيقة علمه، فإنه يمضي بَطَرًا ببعض إنجازاته التي يظنُّ أنَّها لا يأتِيها البَاطِلُ من بين يديها ولا من خلفها. ينظر إلى مسيرته الماضية فيراها ظُلُماتٍ وجهالاتٍ، يَتَعَجَّبُ مِنْ جَهْلِ مَنْ سبقوه، وينتشي بما وصل إليه من هذه الإنجازات والعلوم، ثم يأتي من بعده ويتقدم قليلًا في طريق محو الجهل فيحقق إنجازاتٍ أخرى تُبطل الإنجازات السابقة التي ينظرُ إليها من جديد فيراها ضربًا من العبث... وهكذا دواليك تسيرُ مسيرة التقدُّم الإنساني.
وإذا تناولنا أبسط الأمثلة للدلالة على ذلك، فمثلاً في الطعام الذي يطعمه الإنسان نجد أنَّ اكتشاف تصنيع المواد الحافظة في صناعة الطعام المعلب كان إنجازًا مُهِمًّا وتَقَدّمًا عظيمًا، إذ كيف يُحفظُ الطعام مِنَ الفساد والعفونة مدة طويلة، والآن كيف ينظر إلى هذا الإنجاز العظيم؟! ذَهَبَتْ عظمته وتلاشت حينما اكتشف أن هذه المواد الحافظة سمومٌ تسري في جسد الإنسان عبر هذا الطعام حتى تفتك به[3]، فما أشد بَطَر الإنسان! وما أعظم جَهْله! وما أسرع تراجعه عن إنجازاته الهائلة!!