بسم الله الرحمن الرحيم
درة الأيام الجمعة
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عز وجل -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ)
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ، بِكِتَابِهِ الكَرِيمِ وَنَبِيِّهِ الرَّحِيمِ، إِنَّهُ لأَكبَرُ مِنَّةٍ جَاءَت مِن عِندِ اللهِ لِتَزكِيَةِ النُّفُوسِ وَتَطهِيرِهَا، وَتَنظِيمِ الحَيَاةِ وَتَرتِيبِهَا، وَتَقوِيمِ سُلُوكِ البَشَرِ وَتَهذِيبِ أَخلاقِهِم، لا يَأخُذُ بِهِ مُجتَمَعٌ إِلاَّ سَعِدَ وَصَلَحَ وَتَزَكَّى، وَلا يُفَرِّطُ فِيهِ آخَرُ إِلاَّ شَقِيَ وَفَسَدَ وَتَدَسَّى، قَالَ - سبحانه -: ( لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
لَقَد كَانَ العَرَبُ في جَاهِلِيَّةٍ جَهلاءَ وَضَلالٍ وَشَقَاءٍ، فَجَاءَهُمُ اللهُ بِهَذَا الدِّينِ القَوِيمِ، وَبَعَثَ فِيهِم نَبِيَّهُ سَيِّدَ المُرسَلِينَ، فَأَخرَجَهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم وَأَصلَحَ ذَاتَ بَينِهِم، فَعَاشُوا مَعَ قِلَّةِ مَا في أَيدِيهِم مِنَ الدُّنيَا حَيَاةً إِيمَانِيَّةً كَرِيمَةً، وَتَمَتَّعُوا عَلَى فَقرِهِم بِعِيشَةٍ هَنِيَّةٍ رَضِيَّةٍ، تَحُفُّهَا السَّعَادَةُ وَيُحِيطُ بها السُّرُورُ، وَتُرَفرِفُ عَلَيهَا الهَنَاءَةُ وَيَلُفُّهَا الحُبُورُ، وَمَا زَالُوا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِم هُم قَادَةَ العَالَمِ وَسَادَتَهُ، هَمُّهُم اللهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ، وَرَائِدُهُمُ اتِّبَاعُ الحَقِّ وَإِظهَارُ الدِّينِ الحَقِّ، حَتى بَلَغُوا هَذَا العَصرَ الَّذِي كَثُرَت فِيهِ الأَموَالُ وَتَوسَّعَتِ الأَرزَاقُ، فَجَعَلَ الشَّقَاءُ فِيهِم يَزدَادُ يَومًا بَعدَ آخَرَ، وَجَعَلَت حَيَاتُهُم تَزِيدُ تَعقُّدًا وَتَنَغُّصًا، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُمُ انجَرَفُوا مَعَ العَالَمَ في تَرقِيعِ الدُّنيَا بِتَمزِيقِ الدِّينِ، وَاعتَنَوا بِالأَجسَادِ على حَسَابِ الأَروَاحِ، وَعَمَرُوا الظَّوَاهِرَ بِإِفسَادِ البَوَاطِنِ، وَعَادُوا لا يَهتَمُّونَ بِالقُلُوبِ، وَلا يَشتَغِلُونَ بِتَقوِيَةِ العِلاقَةِ بِرَبِّ القُلُوبِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ ممَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ لإِصلاحِ القُلُوبِ وَتَزكِيَةِ النُّفُوسِ، وَرَبطِ النَّاسِ بَعضِهِم بِبَعضٍ في عِلاقَاتٍ مُحكَمَةٍ وَلِقَاءَاتٍ مُنتَظِمَةٍ، صَلاةَ الجَمَاعَةِ في بُيُوتِ اللهِ، تِلكَ الفَرِيضَةُ الجَلِيلَةُ، الَّتي مِن أَجلِهَا عُمِرَتِ المَسَاجِدُ وَأُمِرَ بِرَفعِهَا، وَنُدِبَ إِلى تَنظِيفِهَا وَتَطيِيبِهَا، وَإِلَيهَا دُعِيَ الرِّجَالُ في الغُدُوِّ وَالآصَالِ لإِقَامَةِ ذِكرِ اللهِ، وَنُهُوا أَن تُلهِيَهُم عَن ذَلِكَ المَربَحِ الأُخرَوِيِّ العَظِيمِ تِجَارَةٌ دُنيَوِيَّةٌ قَلِيلَةٌ، أَو يَشتَغِلُوا عَنهُ بِبَيعٍ أَو يَعكُفُوا عَلَى مَتَاعٍ حَقِيرٍ، وَكَمَا رُبِطَ المُسلِمُونَ بِبَعضِهِم في الصَّلَوَاتِ الخَمسِ، فَإِنَّ ثَمَّةَ صَلاةً أُخرَى فُرِضَت عَلَيهِم كُلَّ أُسبُوعٍ، لِتَكُونَ لأَبدَانِهِمُ اجتِمَاعًا وَلِقُلُوبِهِم التِئَامًا، وَأُمِرُوا بِإِتيَانِهَا وَالسَّعيِ إِلَيهَا في أَحسَنِ حَالٍ، مِن جَمَالِ مَلبَسٍ وَنَظَافَةِ بَدَنٍ وَطَهَارَةٍ وَنَقَاءٍ، إِنَّهَا صَلاةُ الجُمُعَةِ، ذَلِكُمُ المُؤتَمَرُ الإِيمَانيُّ الاجتِمَاعِيُّ، وَالمَحضِنُ التَّربَوِيُّ التَّعلِيمِيُّ، الَّذِي يَستَمِعُونَ فِيهِ إِلى تَوجِيهَاتٍ تُرشِدُهُم إِلى الخَيرِ، وَيَتَلَقَّونَ مَوَاعِظَ تُقَوِّمُ سُلُوكَهُم، وَتُلقَى عَلَيهِم أَحَادِيثُ تُعَالِجُ مُشكِلاتِهِم، في خُطبَتَينِ عَظِيمَتَينِ جَلِيلَتَينِ، حَلَّتَا مَحَلَّ رَكعَتَينِ مِن صَلاةِ الظُّهرِ، ممَّا يُؤَكِّدُ أَهمِيَّةَ الحُضُورِ المُبَكِّرِ وَالاستِمَاعِ إِلى تَينِكُمُ الخُطبَتَينِ، قَالَ - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إِلى ذِكرِ اللهِ وَذَرُوا البَيعَ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُون) وَفي التَّعبِيرِ بِالسَّعيِ إِلى ذِكرِ اللهِ دُونَ المَشيِ وَنَحوِهِ مِنَ الأَلفَاظِ، حَثٌّ عَلَى المُسَارَعَةِ وَتَرغِيبٌ في المُسَابَقَةِ، وَحَضٌّ عَلَى التَّنَافُسِ بَينَ المُسلِمِينَ في التَّقَدُّمِ وَالتَّبكِيرِ، وَهُوَ مَا دَلَّت عَلَيهِ الأَدِلَّةُ الأُخرَى وَرَغَّبَت فِيهِ وَمَدَحَت أَهلَهُ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (( مَن تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ الوُضُوءَ ثم أَتَى الجُمُعَةَ فَاستَمَعَ وَأَنصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَةِ الأُخرَى وَزِيَادَةِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَن مَسَّ الحَصَا فَقَد لَغَا)) رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: (( الصَّلَوَاتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَةُ إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتُ مَا بَينَهُنَّ إِذَا اجتُنِبَتِ الكَبَائِرُ)) رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يَغتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا استَطَاعَ مِنَ الطُّهُورِ، وَيَدَّهِنُ مِن دُهنِهِ وَيَمَسُّ مِن طِيبِ بَيتِهِ، ثم يَخرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَينَ اثنَينِ، ثم يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثم يُنصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَةِ الأُخرَى)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: (( مَن غَسَّلَ يَومَ الجُمُعَةِ وَاغتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابتَكَرَ، وَمَشَى وَلم يَركَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاستَمَعَ وَلم يَلغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا)) رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَصحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
لَقَد تَشَرَّبَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم هَذِهِ الفَضَائِلَ وَاحتَسَبُوهَا، فَكَانُوا يَحسِبُونَ لِهَذَا اليَومِ حِسَابًا، فَلا يَنشَغِلُونَ فِيهِ بِغَيرِ ذِكرٍ وَصَلاةٍ وَدُعَاءٍ وَرَجَاءٍ، حَتى جَاءَ عَصرُنَا هَذَا، وَخَلَفَت فِيهِ خُلُوفٌ كَأَنَّمَا طَالَ عَلَيهَا الأَمَدُ، فَقَسَت القُلُوبُ وَزُهِدَ في الأُجُورِ، وَعَادَت هَذِهِ الفَرِيضَةُ الجَلِيلَةُ تَشهَدُ تَبَاطُؤًا مِن كَثِيرٍ مِنَ المُسلِمِينَ وَتَكَاسُلاً، فَخَلَتِ الصُّفُوفُ مِنَ المُصَلِّينَ حَتى قُربِ إِقَامَةِ الصَّلاةِ، بَل وَوُجِدَ مَن يَترُكُونَهَا أَو لا يَحضُرُونَ إِلاَّ في التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ مِن رَكعَتَيهَا، فَيَحرِمُونَ أَنفُسَهُم مِنَ الاستِمَاعِ إِلى الذِّكرِ في الخُطبَتَينِ، وَكَأَنَّهُم لم يَسمَعُوا إِلى مَا صَحَّ عَنهُ - عليه الصلاة والسلام - عِندَ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ حَيثُ قَالَ: (( لَيَنتَهِيَنَّ أَقوَامٌ عَن وَدعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَو لَيَختِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم ثم لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ))، وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ قَالَ - عليه الصلاة والسلام -: (( إِذَا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِن أَبوَابِ المَسجِدِ مَلائِكَةٌ يَكتُبُونَ النَّاسَ عَلَى قَدرِ مَنَازِلِهِم الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاؤُوا يَستَمِعُونَ الذِّكرَ، وَمَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهدِي بَدَنَةً، ثم كَالَّذِي يُهدِي بَقَرَةً، ثم كَالَّذِي يُهدِي الكَبشَ، ثم كَالَّذِي يُهدِي الدَّجَاجَةَ، ثم كَالَّذِي يُهدِي البَيضَةَ) وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (( اُحضُرُوا الجُمُعَةَ وَادنُوا مِنَ الإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الجُمُعَةِ فَيُؤَخَّرُ عَنِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِن أَهلِهَا)) رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَغَيرُهُ وَقَالَ الأَلبَانيُّ: حَسَنٌ لِغَيرِهِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يَا مَنِ اعتَدتُمُ التَّأخُّرَ، وَحَذَارِ مِنَ التَّهَاوُنِ وَالتَّبَاطُؤِ فَتُفَوِّتُوا الأَجرَ وَتَحرِمُوا أَنفُسَكُمُ الخَيرَ؛ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتى يُؤَخِّرَهُمُ الله فَإِنَّهُ لا يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ... اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ، وَاجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.